في الثامن من مارس الحالي، أعلن رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب تعليق سداد 1.2 مليار دولار من ديون لبنان ،صرح دياب في خطاب مباشر أن الدين العام اللبناني أصبح «أكبر من أن يتحملّه لبنان وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد الفوائد». تلك الديون التي علقت لبنان سدادها كانت مستحقة على سندات اليورو بوندز euro bonds التي اقترضت بها الحكومة اللبنانية على مدى سنوات من سوق السندات الدولية لمواجهة العجز المتزايد في الميزانية العمومية اللبنانية. هذه هي المرة الأولى تاريخيًا التي تعلق فيها لبنان سداد جزء من ديونها لتنضم بذلك لقائمة طويلة من الدول التي تتخلف عن دفع ديونها.

يعيش لبنان في ظل أزمة اقتصادية حادة منذ سنوات، تلك الأزمة التي عمقت من التناقض السياسي–الاجتماعي في لبنان ما بعد الحرب الأهلية، والقائمة على تفاهمات سياسية مرتبطة أشد الارتباط بالنظام الطائفي الذي يلعب دورًا هامًا في توزيع الأدوار والموارد في اقتصاد لبنان. اليوم يسيطر حزب الله عمليًا على الحكم في لبنان مع مشاركة من الطوائف الأخرى، لكن الجهات المانحة الدولية والدول المقربة من لبنان لا يعجبها وضع حزب الله الحالي خاصة في ظل توتر إقليمي ممتد بين السعودية وإيران.

عمقت تلك التوترات الإقليمية والدولية والظرف الاقتصادي العالمي من الأزمة الاقتصادية في لبنان عبر سنوات، إلى أن وصلت البلد للحظة الحالية، ثورة في الشارع وأزمة اقتصادية. شعارات تتنوع بين السياسي الذي يستهدف تفكيك البنية الطائفية الحاكمة في لبنان، وشعارات اقتصادية متوجهة بالأساس للنخب المالية والاقتصادية في لبنان والتي تسيطر على قطاع البنوك المسئول الأول عن الأزمة الاقتصادية الحالية. بين يسقط حكم المصرف، وكلن يعني كلن يتأرجح لبنان اليوم في دوامة الديون التي يعجز عن سدادها، وفي البحث عن حلول للأزمة الحالية والتي يبدو أنها سوف تستمر لوقت غير قصير.

في هذا المقال نحاول النظر في اللحظة اللبنانية الحالية بوصفها نتاجًا لتراكمات الاعتماد المفرط الديون، نحاول أن نفهم كيف وصلت لبنان لتلك اللحظة؟ وما هي سبل الخروج الممكنة أمامها بعد التعثر في سداد الديون؟

ماذا يعني أن تحكمنا المصارف؟

ظل شعار «يسقط حكم المصرف» أحد أهم الشعارات التي طرحتها الثورة اللبنانية، ليس هذا الشعار وليد الصدفة، فالقطاع المصرفي اللبناني هو واحد من أقوى القطاعات المصرفية العربية نفوذًا في السياسة. تشكل هذا النفوذ بالفعل من عملية توزيع غنائم ما بعد الحرب الأهلية في نهاية السبعينيات، وانتهى ليكتسب المزيد من النفوذ في التسعينيات وما تلاها ليدخل البنك المركزي (مصرف لبنان) والبنوك الأخرى في شراكة طويلة الأمد تدور حول الاستثمار في سندات الخزانة اللبنانية.

عانى لبنان طيلة عقود ما بعد الحرب الأهلية لأزمات اقتصادية متكررة، تلك الأزمات أنتجت عجزًا مزمنًا في ميزانية البلد الصغير ذي الاقتصاد الريعي الذي يرتكز على قطاعات خدمية كالسياحة. طيلة تلك الأزمات كان الحل واحدًا، دعوا مصرف لبنان يقترض من البنوك عن طريق سندات الخزانة، وبما أن تلك البنوك والنخب مرتبطة أشد الارتباط بالنخب البنكية العالمية التي سارعت هي الأخرى للاستثمار في أدوات الدين اللبناني ذات الفوائد المرتفعة، كان مصرف لبنان يعطي فوائد تصل لـ 10% على سندات الخزانة اللبنانية، وهو ما عنى تدفقًا مستمرًا من الدولار للاقتصاد اللبناني وبالتالي زيادة اعتماد الاقتصاد على الدولار نفسه كأداة للبيع والشراء. هناك مشكلة كبيرة في هذا النموذج، وهو أنه هش، بمجرد أن تتوقف الأموال الخارجية من التدفق للبلد فإنك تبقى معرضًا لأزمة اقتصادية شديدة.

تلك الأموال التي تأتي من المانحين والمستثمرين الكبار في سوق الدين اللبناني توقفت لأسباب عدة، منها ما هو سياسي وما هو اقتصادي بحت بسبب تراكم الدين، الذي أدى لعزوف المستثمرين الأجانب عن شراء تلك السندات أو بسبب ظهور أزمات متعلقة بالديون دفعت دولاً مثل الأرجنتين لرفع أسعار الفائدة على السندات ما جعل السندات اللبنانية أقل بريقًا في منظور هؤلاء.

لنعد إذن للتحالف الكبير الذي يحكم القطاع المالي والاقتصاد في لبنان، تحالف مصرف لبنان وجمعية المصارف، في نهاية 2019 كانت تلك المصارف توظف 76 مليار دولار في سندات الحكومة اللبنانية مقارنة بـ 18 مليار دولار في 2010. بالطبع كان الدافع الأساسي للاستثمار في تلك السندات هي الفوائد العالية التي يدفعها مصرف لبنان على السندات والتي دفعت البنوك والمستثمرين لشرائها، ما ساهم مع الوقت في دولرة الاقتصاد اللبناني وارتباطه بشكل أكبر بسوق السندات السيادية الدولية.

كانت تلك الفوائد المرتفعة على الديون والتي يدفعها المواطن اللبناني من جيبه هي مصدر أرباح القطاع البنكي في لبنان، والذي طالما تفاخرت نخبته الاقتصادية بقوة قطاعها البنكي من حيث الودائع والأصول وقدرته على جذب الأموال من خارج لبنان. لنفهم مدى ضخامة تلك الأرباح التي حققتها البنوك اللبنانية، علينا مقارنتها بأرباح القطاع البنكي في دول أخرى. يكفي أن نعرف أنها أرباح أكبر 14 مصرفًا في لبنان 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2015، بينما شكلت أرباح أكبر أربعة عشر مصرفًا أقل من 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة في العام 2016؛ ولم تتعدّ هذه النسبة 0.2 في المئة في ألمانيا و0.9 في المئة في الولايات المتحدة في السنة نفسها. اليوم يشكل الدين العام الحكومي في لبنان قرابة 91 مليار دولار، منها 77.4 مليار دولار دين داخليًا، و 14.2 مليار دولار دين خارجي، لكن فوائد تلك الديون المتراكمة تأكل أكثر من نصف الموازنة العامة في لبنان، وهو ما يبرر تدني مستوى الخدمات العامة في القطاعات الأساسية للمواطنين في لبنان.

خيارات لبنان القادمة

اليوم وبعد الإعلان عن تأجيل سداد 1.2 مليار دولار من الديون المستحقة على الحكومة اللبنانية، يواجه لبنان مجموعة من الخيارات الصعبة إذا ما أراد الخروج من محنته الحالية، تلك الخيارات في النهاية هي قرارات سياسية بقدر ما تكون اقتصادية، لذلك فهي صعبة لأنها إذا كانت جذرية فإنها سوف تضر بـ الـ 1% الأغنى في لبنان .ثمة خياران واضحان أمام لبنان في الوقت الحالي: الأول هو الخيار الجذري ويبدأ بإعادة التفاوض حول فوائد الديون مع مقرضي الحكومة خاصة المصارف المحلية، وهو ما يمكن به إعادة هيكلة جزء من ديون لبنان المتراكمة أو شطب أجزاء كبيرة منها، وليست لبنان الأولى في ذلك المسار فكثير من الدول شطبت أجزاءً من ديونها بعد إعادة التفاوض مع المقرضين.

بعد شطب الديون يصبح أمام لبنان طريق طويل للتعافي من وقع تلك الأزمة الاقتصادية، وأولى خطوات التعافي هي الإصلاح الضريبي الضروري لزيادة إيرادات الدولة الضريبية. وإحدى خطوات الإصلاح الضريبي الهامة في لبنان في الوقت الحالي هي ضريبة على الثروة لمرة واحدة، وخاصة ثروات كبار المودعين في المصارف اللبنانية. من شأن فرض ضريبة على أغنى 1% من المودعين في لبنان والذي تقدر حجم ودائعهم بـ 80 مليار دولار أن يوفر للخزينة العامة الكثير من الأموال. فمن شأن فرض ضريبة 20% على تلك الحسابات أن تضخ 16 مليار دولار للخزانة اللبنانية.

الخيار الثاني: والذي بدأت لبنان بالفعل في الحديث عن تبنيه هو اللجوء لصندوق النقد الدولي، والذي أعلن أن الحكومة اللبنانية قد طلبت منه المشورة الفنية من أجل الإصلاح الاقتصادي. يعني اللجوء لصندوق النقد الدولي توفير الصندوق لقروض للحكومة اللبنانية، لكن السؤال: أين سوف تستخدم تلك القروض؟ في الغالب وكما حالات سابقة، سوف تستخدم في سداد فوائد وأقساط ديون سابقة، ومن ثم سوف يستمر لبنان في دوامة الدين الحالية التي يعاني منها منذ سنوات.

المشكلة ليست في الأزمة المالية الحالية التي تعاني منها الحكومة اللبنانية، لأن التخلف عن دفع الديون لن يضر سوى المستثمرين بشكل كبير، لكن المشكلة هي كيف ستعالج الحكومة آثار تلك الأزمة؟ من شأن الخيارات السياسية القادمة سواء كانت جذرية منحازة للأغلبية أو إصلاحية تحاول إعادة إنتاج الوضع القائم أن تؤثر على وضع لبنان الاقتصادي في المستقبل.

ما تطرحه الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان رغم تعقيداتها هو فكرة طالما حذر منها الكثيرون، دوامة الاستدانة تؤدي لتفاقم اللا مساواة والاستمرار فيها يدفع المجتمعات لمستويات أكثر من الفقر، وهو ما يقود بدوره للثورة. ما تقوله أزمة لبنان أن مصالح الـ 1% أصبحت أهم من مصالح الجميع، فالنخب الاقتصادية والسياسية في بلد مثقل بحسابات الطائفة ربحت المليارات من الاستثمار في أدوات الدين الحكومية التي دفع ثمنها دافعو الضرائب. اليوم وبعد أن خرج دافعو الضرائب اللبنانيين في ثورة على هذا النمط الاقتصادي، يريد الساسة اللبنانيون أن يعيدوا إنتاج نفس الوضع مرة أخرى.