ما إن اندلعت الاحتجاجات اللبنانية ضد الحكومة الحريرية الحاكمة حاليًا، احتجاجًا على سوء الأوضاع الحالية، انعكست بطبيعة الحال على مواقع التواصل الاجتماعي فانهمرت سيول صور التظاهرات وشعاراتها على صفحاتها الرئيسية وشارك في تداولها الملايين عبر كل أنحاء العالم، وبالطبع كان منهم المصريون الذين انفردوا، كعادتهم، بطابع خاص من أساليب السخرية التي يلحقونها بكل شيء حتى لو كانوا داعمين له، ومن هنا تجلّى حرص القطاع الأكبر من شباب مصر على تأييد «الثورة اللبنانية» دعمًا لـ «بناتها الحلوة».

في بلد كلبنان تتأرجح به معدلات البطالة بين 9 و14%، مع توقعات بوصولها الـ 20%، يتراوح حجم هجرة سكانها من 35 ألفًا لـ55 ألف نسمة سنويًا، وبلغت معدلات سن الزواج والإقبال على التدخين بها ضمن الأعلى بالعالم، ويتجه النمو السكاني بها سريعًا إلى منطقة السالب، كان بديهيًا الانفجار، وإن تأخر.

وفي بلد كمصر تهفو قطاعات كبيرة منه إلى رياح تغيير، وعاش فترة قلاقل مؤخرًا بسبب بضعة فيديوهات نشرها المقاول محمد علي، استدعت انتشارًا أمنيًا غير مسبوق في الميادين الكبرى وأدًا لأي مظاهرات محتملة، وفي بلد كمصر بلغ فيها الهوس الجنسي مبلغًا عظيمًا، كان بديهيًا أن يجمع المصريون بين الأمرين خلال تعاطفهم مع الأحداث اللبنانية، عبر تأييد المظاهرات مدعمة بصور لنساء لبنان بشكل لا يخلو أبدًا من تعليق ذي إيحاء جنسي ولو من بعيد، ولربما مثّلت ذروة هذا النحو في التفكير، تداول صور مايا خليفة نجمة الأفلام الإباحية الشهيرة وذات الأصول اللبنانية، تحت زعم أنها انضمت لحركة التظاهرت.

لعنة التعميم التي تطاردنا دائمًا تمنعنا بأن نقول إن هذا هو الانطباع الأوحد لشباب مصر عن بلاد الأرز، ولكن تلال «التدوينات» و«البوستات» التي بيّنت تعاطف شباب مصر مع الثورة (ولاد وبنات) التصقت بصورة فتاة حسناء تغني في مظاهرة أو تُلقي بالمولوتوف أو حتى تلتقط الصور جوار سيارة مشتعلة.

وحتى عندما تعلّق الأمر بأحد ضباط الجيش الذي التُقط له فيديو وهو يقبّل رأس المرأة مُسنة، كان أكثر الجدل المثار حوله هو كيفية التوصل لـ «أكاونت الضابط اللبناني القمر».

الأمر الذي استدعى ردود فعلٍ لبنانية متجاوبة أحيانًا ومنتقدة في أحايين أخرى للنظر إلى الحراك الثوري بالشوارع على أنه مجرد امرأة جميلة تغني برفقة صديقاتها! أو ترفع علمًا على سبيل الاستعراض.

هذا التطاحن استدعى منّا أيضًا السعي لنيل إجابة سؤال طفا على السطح برفقة هذه الأحداث: كيف ينظر المصريون إلى لبنان؟

مثيرة جنسيًا مليئة بالأشجار

«بلد جامدة جدًا، والبنات فيها جامدين على الآخر»، هذا ما قاله لنا محمد مصطفى (24 عامًا)، ما إن سألنا عن انطباعه الأول عن جارتنا الشامية، والتي لم يزرها أبدًا بحياته، وأضاف: «أول ما بشوف كلمة لبنان بحس بالإثارة الجنسية».

وأضاف: «بقلّب كتير في صور البنات على السوشيال ميديا كلهم حلوين ومهتمين بنفسهم على الآخر، وأنا متعاملتش بشكل شخصي مع حد من لبنان غير بنت واحدة وكانت ذوق ونضيفة جدًا في معاملتها»، أما عن متابعته لأوضاع الشأن الداخلي اللبناني فأكد: «أنا أسمع إنهم طوايف كتير، كل طائفة ليها زعيم تقريبًا، لكن معرفش ولا واحد فيهم.. أعرف مايا خليفة».

فيما أكد طارق أبو فضل (28 عامًا)، أنه دائمًا ما يسمع أن المشاهي يُفضلون قضاء إجازاتهم بها، «مش فاهم ده ليه؟ يعني ليه ميسافروش أوروبا أو دول شرق آسيا؟» وهذا ما خلق لديه فضولاً عن طبيعة الحياة فيها، موضحًا «الصورة اللي متصدرالنا دايمًا في وسائل الإعلام ومواقع التواصل لأماكن سهر فيها مزيكا ورقص واختلاط، حاجة تشبه الملاهي الليلية في أوروبا جدًا».

فيما وصفت أزهار فهمي (26 عامًا) لبنان بأنها «دولة مايعة»، يحيى بها أناس مرفهون، لديهم طبيعة جميلة ولطيفة، ويهتم بالمظاهر والموضة أكثر من أي شيء، معقبة «بلد منفتح جدًا، يمكن أكتر من الدول الأوروبية». وحول تركيز الشباب المصريين في حديثهم عن لبنان على فتياتها وحسب، أجابت: «بنات ورجالة وحياتك، دا حقيقي ما أنا قلتلك شعب مرفه».

وأشارت إلى أنها حاولت أكثر من مرة الاطلاع على بعض أعمال الأدب اللبناني، إلا أنها استشعرت أن لغتها صعبة عليها وبها «فصحى متكلفة، وأحداث مملة» لم تجد فيها ما تفضله هذه الأيام من قراءة روايات أدباء شباب مصريين كأحمد مراد وحسن الجندي، وإن أبدت إعجابها بمستوى الصحافة اللبنانية مهما تراجع مؤخرًا، معربة عن إعجابها بـ«العناوين الرشيقة، والمهنية العالية في صياغة الأخبار».

إيمان محمد (24 عامًا) أجابت على سؤالنا بأنها تتخيل لبنان دولة «فيها شجر وورد كتير»، مواطنوها لطفاء في تعاملهم مع الناس. وأكدت لنا دعمها لمظاهرات لبنان يرجع لعدة أسباب: أولها أن طوائفها الكثيرة نحّت خلافاتها جانبًا وتوحدوا ضد الظلم، وهو ما يستحق أن تقف خلفه، مضيفة:

كنت بتمنى أكون مكانهم كمصرية، أقدر أقول للظلم لأ، بس للأسف لأسباب كتير مينفعش، فأنا شايفة نفسي فيهم، وأنا شايفة إن الاحتجاجات اللبنانية راقية والشعب مثقف وبيحترم المرأة، وبينادي بكل الآراء اللي مؤمنة بيها، فطبعًا لازم أدعمه، وأتمنى بلدي تكون زيهم.

وأضافت نسمة يوسف (29 عامًا): «متخيلة إن شوارعها عبارة عن طرقات بتزينها وتحيط بيها شجر الأرز على جانبي الطريق، بجانب أن شعبها متعدد الانتماء والثقافات، ما جعلها تعتقد أنها أكثر دولة ممكن تكتسب من شعبها ثقافات مختلفة»، واصفة الزيارة لها «كأنك لفيت أكتر من دولة في العالم»، واعتبرت أن من يراها من منظور أنها «بنات حلوة بس» هو شخص «عنده نقص في دماغه».

مُرعبة في الذوق والثقافة

أما المهندس حسام خميس (25 عامًا)، الذي اختار لبنان لقضاء شهر العسل عقب زواجه، فأكد أنه قبل سفره إلى بلد الأرز سمع كثيرًا عن «بناتها الحلوين»، لكنه عقب زيارته لها غيّر فكرته في هذا الصدد، مؤكدًا أن شعبها يمتلك العديد من المزايا بخلاف أن نسائه حِسان، يقول:

الذوق العام هناك مش متلوث زي عندنا بأفلام محمد رمضان والسبكي، ولما ركبت تاكسي هناك كان كل همه أوصل المكان، ويدلني على الأماكن السياحية، هنا لو تاكسي شاف سايح أول حاجة هيشوفها هي طريقة إزاي ينصب عليه، وأهم حاجة عندهم ثقافة الترحيب باللي بيزور البلد، ودي عايزلنا سنين ضوئية عشان نوصلها، الناس هناك لقيتهم ذوق بشكل مرعب، وواضح جدًا إن دي ثقافة عندهم.

وأخيرًا أكد أن أهم ميزة رآها في الشعب اللبناني أنهم «بيهتموا بنفسهم قوي»، وهو يعني أن الصورة النمطية أنهم دولة «بنات حلوة وخلاص» غير صحيحة، وإنما هي مرتبطة بأنهم يجيدون تقديم أنفسهم بطريقة ومظهر جيد، مقدمًا مثلاً ساخرًا: «أما واحدة لبنانية بتحب تطلب منك حاجة مثلاً كوباية ماية، حتى لو مكانتش حلوة قوي، لكن تلاقيها بتقولك (بدي اعزبك كاسة ماي ازا بتريد)»، وهي جملة وصفها بأنها «تلخص ¾ الذوق والدلال في العالم».

لكن أكثر ما انتقده في البلاد هو الارتفاع المفرط في الأسعار، مؤكدًا أن اللبنانيين «من أكتر الناس اللي بتهاجر من بلدها بسبب الأوضاع هناك، وده موجود فعلا».

الحاج منصور العلمي (65 عامًا)، صاحب محل ملابس، أكد أنها دولة مغضوب عليها من الله، مذكرًا بأنه خلال فترة السبعينيات شهدت بلادهم «موضة أفلام المقاولات»، وكان الممثلون المصريون يسافرون إليها لـ «يغرفوا من المعاصي» كل ما يشاؤون، ضاربًا المثل بـنور الشريف الذي صرّح أكثر من مرة أن مفاسد بيروت كادت أن تقضي على مسيرته الفنية، لذا اعتبر أن الغزو الإسرائيلي والحرب الأهلية اللذين كادا أن يقضيا على الدولة نهائيًا «غضب من الله، وأهلها يستاهلوا كدا وأكتر».

مضيفًا:

لغاية دلوقت، كل البنات العريانة في الكليبات من لبنان، حتى المطربات اللي الشباب بيفصصوا جسمهم وهما بيرقصوا في الشاشة من لبنان، كفاية إنهم لما بيكونوا عاوزين واحدة تتباس في الأفلام، يجيبوا ممثلة لبنانية.

وتابع، أنه لا يظن أن لبنان طوال تاريخها أنجبت أديبًا أو فنان جيدًا، وهو طوال سِني عُمره لم يسمع لفنان لبناني أو يقرأ لأحد كتابها، لأن الله لا يُصلح عم المفسدين، على حد تعبيره، وإن أبدى إعجابه بأصوات أسمهان وفريد الأطرش، إلا أنه يعتبر أنهما لم يغيرا فكرته عن بلدهما، لأن نجاحهما إنما نبع لأن مصر احتضنتهما، ولو بقيا في لبنان ما عرفهما أحد.

أما يوسف ناصف (35 عامًا)، مدير دار المصري للنشر والتوزيع، فأكد أن معظم الأجيال الجديدة لا تعرف شيئًا عن عُمق الثقافة اللبنانية وكثرة مبدعيها، موضحًا:

زمان كان فيه مقولة مشهورة بتقول (مصر تكتب وبيروت تنشر والعراق يقرأ)، ويكفينا معرفة أنه بينما كانت أعمال نجيب محفوظ تُمنع بمصر كان اللبنانيون هم من ينشرونها له، وحتى الآن دور النشر والصحافة اللبنانية يُشار لهما بالبنان بعكس حالتهما شديدة التراجع عندنا.. زعلت على إغلاق جريدة السفير اللبنانية، لكن مش هزعل لو عرفت مثلاً إن الأهرام هتقفل.

واعتبر أن حالة الجهل التي تعترينا بشأن دولة شقيقة قريبة كلبنان لا نكاد نعرف عنه أي شيء تؤكد حجم مأساة الجهل التي نعيشها، مضيفًا «لما بشوف الكلام عن بناتهم، مببقاش عارف أضحك ولا أزعل، احنا دمنا خفيف صحيح ويمكن الكلام يبان تريقة، لكنه حاجة تحزن، كأن آخر همّنا من الثورة هي إننا نعرف بنت حلوة».

وتابع:

هل أي حد من اللي بيتكلموا عن لبنان قرا سطر واحد من كُتب جبران خليل جبران أو سهيل إدريس أو حتى هدى بركات آخر من فازت بالبوكر؟ هل حد يعرف إن أكبر الصحف ودور النشر الموجودة إلى الآن في مصر عملها الشوام؟ احنا مش بس منعرفش حاجة عن لبنان، احنا منعرفش حاجة عن أي بلد غيرنا، ودا طبعنا دايمًا منغلقين على نفسنا.

وأوضح:

أكيد فيه لبنانيين زعلوا من الكلام اللي اتقال عليهم مننا، بس كتير منهم مثقفين وقاريين وعارفين المصريين كويس، مجرد هزار وكلام فارغ وخلاص.. ودي مشكلتنا احنا طبعًا مش مشكلتهم هما، عاوزين نهرج في كل الأوقات مهما كان التمن.

وقالت ليدا، منصور باحثة اللسانيات في جامعة السوربون، لبنانية الأصل وزارت القاهرة مؤخرًا، عن انطباعها المبدئي عن رؤية المصريين لبلدها الأم، أكدت أن معظم الآراء التي سمعتها يمكن حصرها في «الحرية والمياعة، بنات مش بنات.. ورجال مش رجال»، وأضافت: «لكن في ذات الوقت أحسست أنهم يحبون ما نقوم به، وأنهم يحبون الحرية التي ينتقدون وجودها في لبنان».

مع بداية القرن التاسع عشر، وبسبب سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، بلغ عدد المهاجرين الشوام إلى مصر الراغبين بالاستقرار على أرضها 34 ألف مهاجر، بلغوا 50 ألفًا في 1920، وهو رقم ضخم إذا ما قُورن بإجمالي حجم السكان حينها، انتشروا في الأرجاء حتى أن الجامع الأزهر خصص رواقًا كاملاً لطلابهم أسماه «رواق السادة الشوام»، وبلغت نسبة شغلهم وظائف الدولة العليا 30% أكثر من المصريين أنفسهم (28%)، أحسنوا الفرصة ونشطوا في ميدان العمل المصرية، فعملوا كتجار وأطباء ومهندسين ومحامين وموظفين في كبرى الشركات، حتى بلغت ثروة كبار القوم منهم 50 مليون جنيه مصري، وهي نسبة تعادل عُشر الثروة القومية المصرية، بل وتم تعيين مندوبين منهم في مجلس الشيوخ المصري.

ولنحمد الله، أن مصر من مائة عام لم تكن بعقليتها المجتمعية كما هي الآن، وإلا لكنا قد فشلنا في احتضان عقول من نوعية جرجي زيدان ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي، وبالطبع فإن مي زيادة إن كانت قد جرؤت على تنظيم صالونها الأدبي فلن يرتاده أحد لأنها ليست مثيرة بما يكفي و«سيخاصمونه آه».