محتوى مترجم
المصدر
philosophy now
التاريخ
2016/07/01
الكاتب
هيلين ماكابي

العدالة، بحسب الفيلسوف الأمريكي الشهير وأستاذ جامعة هارفارد جون رولز (1921-2002)، هي الفضيلة الأولى للمؤسسات. بالتأكيد تبدو العدالة هي الشاغل الأول للمنظّرين السياسيين المعاصرين، واستمرت كذلك منذ أن نشر رولز كتابه «نظرية العدالة» عام 1971. وقد كُتب الكثير حول هذا الكتاب، والطبيعة المستمرة لدراسة الكتاب تُظهر مدى صعوبة رؤية التفاصيل أو الصورة الشاملة لنظرية رولز. العدالة هي مفهوم خلافيّ بالأساس، بحسب عبارة مايكل فريدن: «الفلاسفة يختلفون حول ما يندرج تحت مفهوم العدالة، ما قيمة وأهمية مختلف مكونات العدالة، وأين يقع مفهوم العدالة بين المفاهيم الأخرى. هذا يجعل من العدالة مسألة من الصعب التعامل معها». في هذه المقالة سأحاول أن أوضح مكان نشوء الخلافات بين بعض الفهومات أو القراءات الشهيرة والمتنافسة لمفهوم العدالة، من أجل التوصل إلى لمحة عامة عن المشكلة.

تتمحور نظرية العدالة لدى جون رولز حول العدالة التوزيعية التي لا تتحقّق إلا من خلال المؤسسات فقط، شريطة أن تكون البنية القاعدية للمجتمع منصفة

كان رولز نفسه مهتمًا على نحوٍ خاص بالعدالة التوزيعية (distributive justice)، وهي عبارة عن توزيع ما يسميه «الفائض الاجتماعي»؛ أي كل الأشياء التي نحصل عليها من خلال التعاون داخل المجتمع. من المهمّ أن نتحدث عن الفائض الاجتماعي؛ لأنّه يعني أنّنا لا يمكن أن نقاوم عددًا غير قليل من مطالب العدالة التي من الممكن أن يقاومها المدافعون عن الحريات وحتى بعض الليبراليين. وهذا يعني، على سبيل المثال، أنَّ الرأسمالي الثري لا يمكنه رفض مطالب طفل يتضور جوعًا في بلاده على أساس أنَّ الطفل لم يعرفه من قبل ولم يعمل في واحدة من شركاته. يجادل رولز أنّه عن طريق إطاعة القانون، ومن ثمّ المشاركة بطريقة ما في مسعى تعاونيّ داخل مجتمعه، يدين هذا الطفل بواجبات العدالة لمصرفيّ ثريّ. (يبدو أنَّ رولز يعتقد أنَّ هذا غير مُجدٍ للعالم كله، على الرغم من العولمة، وأنَّ بعض الرولزيين – أنصار رولز – المعاصرين يرغبون في تطبيق مبادئه على الصعيد العالمي). ما نقوم بتوزيعه، إذن، ليس مجرد أموال أو «لوازم» حياة، بل حقوق وحريات، وحتى فرص.

يرى رولز أنّه يمكن تحقيق العدالة عبر المؤسسات فقط. إذا كان ما يسميه «البنية القاعدية» للمجتمع (مثل الدستور) مُنصِفة، فإنَّ هذا المجتمع سيكون مُنصِفًا كذلك. يقول رولز إنّه من أجل تحديد أي المؤسسات الاجتماعية ستكون مُنصِفة، نحن بحاجة لاكتشاف أي نوع من البنية الاجتماعية سيختارها فاعلون عقلانيون متحرّرون من التحامل والتحيّز، أي ما هي مبادئ العدالة التي تعتقد أنّه يجب أن تحكم المؤسسات الأساسية في المجتمع، من منظور كيفية تنظيمها وكيف يمكن للناس تقسيم كل فوائد التعاون داخل المجتمع؟ إنَّ آلية رولز «لتحديد ما سيختاره الناس بعقلانية ونزاهة هي عبارة عن تجربة فكريّة». تخيّل أشخاصًا في «وضعية أصلية» (Original Position) وراء «حجاب الجهل» (veil of ignorance)، حيث يتمّ تجريدهم من معرفة خصائص تميزيّة انحيازية محتملة مثل السن، أو العِرق، أو الدين، والمواهب والقدرات والميول وربما الجندر، كما تشير سوزان أوكين. بدون أي معرفة بوضعياتهم في المجتمع، سيختارون ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع.

نتائج المشاورات من «الوضعية الأصلية»، كما يعتقد رولز، ستكون أنَّ الأشخاص غير المتحيّزين سيصوّتون لصالح المبادئ التالية: أولًا، كل شخص لديه حق في النظام الأوسع للحريات الأساسية المتوافق مع نظام الحريات المتساوية للجميع؛ ثانيًا، يتم تنسيق عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بحيث تكون (أ) أكبر فائدة للأقل حظًا مقارنة بالنظم الاجتماعية الممكنة الأخرى «مبدأ الماكسمين»[1]، و(ب) مرتبطة بوضعيات مفتوحة للجميع في ظلّ ظروف المساواة العادلة للفرص. المبدأ الأول لديه دائمًا الأولوية على الثاني – ونحن لا نقايض الحقوق والحريات مقابل قدر أكبر من المساواة.


نقد رؤية رولز

هناك العديد من الإشكاليات الكامنة في آلية رولز لتحديد العدالة الاجتماعية، أحدها أنَّ الناس لا يتبنون «مبدأ الماكسمين»؛ أي اختيار نظام «يرفع الحد الأدنى إلى حده الأقصى»، كما أشار رولز. وبدلًا من ذلك، يبدو أنَّ الناس يفضّلون النظام الذي يضمن الاستجابة لعتبة عالية نسبيًا من الاحتياجات، ومن ثمّ تدخل قليل جدًا. لذلك، ربما كان رولز مخطئًا، وربما كانت مبادؤه ليست من النوع الذي يوافق عليه الفاعلون العقلانيون غير المتحيّزين. ثمة إشكالية أخرى يمثّلها أنصار المدرسة الجماعاتيّة (communitarians): هل فكرة «الفاعل العقلاني غير المتحيّز» تبدو منطقية كما يصوغها رولز؟ هل مواهبنا وقدراتنا وميولنا وأدياننا وقواعدنا الأخلاقية وأعراقنا وثقافاتنا هي التي تصنع كينونتنا؟ ما الذي يمكن أن يكونه الفرد لو جُرِّد من هذه العناصر التي تشكّل هويته؟ ثمة سرديتان لهذا النقد. السردية الأولى هي أنْ نقول إنَّ الفاعلين الوضعيين الأصليين عند رولز لن يكونوا من البشر – ربما يتناسب هذا النهج مع الفولكانز (آلهة النار)- لكننا مهتمون بتحقيق العدالة للبشر. والسردية الأخرى هي أنْ نقول إنَّ فكرة رولز «كلها مستحيلة ميتافيزيقيًا؛ إذ لن يتم تداول أي شيء وراء حجاب الجهل إذا جُرِّدَ الفرد من كل هذه الأمور».

يتوجه النقد إلى منهجية رولز ومبادئه في رؤية العدالة ومكانها، انطلاقا من أيديولوجيات ذات سمة جماعاتية، ومن جدليات أكاديمية موازية

هناك المزيد من الاعتراضات الجماعاتيّة، وبعضها تتقاسمها الأيديولوجيات ذات السمة الجماعاتيّة، مثل تقليد (One Nation conservatism) ذي النزعة المحافظة، أو الاشتراكية. أحد هذه الاعتراضات هو أنَّ فهم رولز للعدالة يستند إلى رؤية المجتمع كمجموعة أفراد معزولين. وقد يكونوا متعاونين، ولكن بدافع الضرورة فحسب. ولذا، فإنَّ رولز يستبعد فكرة المجتمع الصالح أو الخيّر في جوهره، بل إنَّ هذه الخيريّة مجرد وسيلة ضرورية لمصلحة فردية؛ فهو يفترض أنّنا منفصلين في الأساس، ولسنا اجتماعيين بشكل طبيعي. وعلاوة على ذلك، يفهم العدالة باعتبارها ناشئة عن مطالبات متزاحمة بين الأفراد غير المهتمين برعاية بعضهم البعض، ويجب إجبارهم على أن يكونوا منصفين من خلال المؤسسات فحسب. ولذلك، يمكن دحض كل هذه النقاط.

نوعٌ آخر من النقد هو أن نختلف مع فهم رولز لمكان العدالة. زميل رولز في جامعة هارفارد، روبرت نوزيك، على سبيل المثال، اختلف أنَّ العدالة بالضرورة تحترم أو تخلق الحقوق؛ فحسب نوزيك، إنّه العكس من ذلك. كما أشار جيرالد آلان كوهين، الفيلسوف السياسي الماركسي، والأستاذ السابق للنظرية السياسية والاجتماعية في جامعة أكسفورد، أيضًا، في محاضرات له إلى أنَّ العدالة قد لا تكون الفضيلة الأولى للمؤسسات، كما يدّعي رولز، وهل العدالة أكثر أهمية للمجتمع من الاستقرار على سبيل المثال؟

وإذا نحيّنا جانبًا منهجية رولز، قد نختلف أيضًا مع مبادئه للعدالة. كوهين، على سبيل المثال، على الرغم من تعاطفه مع مشروع رولز، يعتقد أنَّ مبادئه غير مُجدية.

ويرى رولز أنَّ المواهب اعتباطية، ونحن ينبغي ألّا نكافأ عليها، لأنّها نوع من الإجحاف الذي نفيدُ منه. ومع ذلك، أفسح رولز في مبادئه للعدالة مساحةً للحوافز: الموهوبون يمكن أن يحصلوا على حصص متساوية من الفائض الاجتماعي طالما أنهم يستفيدون بين الفئات الأقل حرمانًا عن طريق القيام بذلك. ولذا، فإنَّ جرّاح المخ الذي يفضّل ركوب الأمواج كل يوم يمكن أن يطلب المزيد من المال من أجل النزول عن لوح ركوب الأمواج وإجراء عملية جراحية، ولأنَّ الناس ستموت إذا لم يجرِ تلك العمليات (ولأنَّ المرضى عمومًا هم الفئة المعوزة في المجتمع)، فإنَّ هذا الإجحاف يصب في صالحهم. ويعترض كوهين أنَّ جرّاح المخ يبتز المرضى. ونظرًا لأنَّ الابتزاز استغلاليّ وظالم، فإنَّ مبادئ رولز لا يمكن أن تكون منصفة.

يعتقد بعض الرولزيين المعاصرين أنَّ رولز يمكنه الرد: «ملاحظة جيّدة يا جيرالد – وهذا هو السبب في أننا لن نسمح بهذا النوع من الإجحاف لو كان لدينا مؤسسات أساسية. وعلى الرغم من أنَّ الدولة لا يمكن أن تجبر الطبيب الذي يمارس رياضة ركوب الأمواج على مغادرة الشاطئ والذهاب للعمل في المستشفيات – لأنَّ ذلك من شأنه انتهاك مبدئي الأول في العدالة عن الحقوق والحريات- ليس هناك حاجة مطلقة لزيادة رابته إذا ذهب واستخدم مواهبه كما يجب عليه لإنقاذ المرضى». رولز لا يقول هذا في أي من كتبه، ولكن من المعقول أنْ يوافق على ذلك. (وبطبيعة الحال، قد تعتقد أننا يمكن أن نجبر الناس على استخدام مواهبهم المنقذة للحياة، ولكن سيتوجب عليك موازنة هذا، بطريقة أو بأخرى، مع مطالب الحرية والاستقلال).

يقول كوهين إنَّ المخرج الوحيد لرولز من هذه الإشكالية هو عن طريق تضمين ما يطلق عليه رولز «روح العدالة» جنبًا إلى جنب مع المؤسسات – لكي يؤمن الناس في مجتمعه بمبادئ رولز ويرغبون في رؤيتها ممأسسة. ولكن، كما يقول كوهين، هم ليسوا بحاجة إلى حوافز للعمل بطريقة عادلة لصالح الفئة المعوزة إذا كانوا يعتقدون حقًا أنّه يتعيّن عليهم التصرف وفق مصلحتهم الخاصة. لذلك، ما دام لدينا أفراد فقط، نحن لسنا بحاجة لمبدأ التحفيز عند رولز. ونتيجة لذلك، فإنَّ مبادئ العدالة عند رولز إما أنّها ليست عادلة، نظرًا لأنها تسمح بالابتزاز، أو أنّها ليست ضرورية حقًا، نظرًا لأنَّ الناس لا يستغلون بعضهم البعض على أي حال. وهذا يرتبط بما قاله كوهين في محاضراته؛ وهو أنَّ مبادئ العدالة عند رولز قد تكون أشياء كثيرة (أكثر سرعة وأكثر كفاءة، وجيّدة لإنتاج المزيد من الثروات، وما إلى ذلك)، ولكنها ليست عادلة.


[1]مبدأ الماكسمين: يعني رفع الحد الأدنى إلى حده الأقصى؛ أي رفع مستوى رفاهية فئات المجتمع الدنيا إلى أقصى حد ممكن. ويعني أيضًا أنّه لا يمكن قبول اللامساواة إلّا إذا كانت تزيد من رفاهية الفئات الدنيا.