بإمكانك أن تصدّق هذا أو لا تصدّقه؛ ولكن مقدار الإثارة الذي تنطوي عليه فلسفة «سيد قطب»، ومحاولة فهمها، تقودكَ لفهمٍ أعمق عن الليبرالية وحدود التسامح لديه، هناك عدد من الميول والاتجاهات في موقفه السياسي تجعله أكثر ليبرالية مما هو معروف عنه. هذا ما يجادل عنه «لوكاس ثورب»، أستاذ الفلسفة بجامعة البسفور، في ورقته «سيد قطب والأكويني: القانون الطبيعي الليبرالية وفلسفة الجهاد» (SAYYID QUTB AND AQUINAS: LIBERALISM NATURAL LAW AND THE PHILOSOPHY OF JIHAD).

تطرح الورقة في هذا السياق مقارنة بين الفلسفة السياسية لسيد قطب مع نظيرتها لدى توما الأكويني لإيضاح وتبيين إمكانية انطباق أو توافق الرؤى العلمانية والإسلامية الأصولية حول شرعية المجتمعات الليبرالية الغربية، وتوضّح أن الخطر الحقيقي على هذه المجتمعات من أمثال قطب ليس جوهريًا نابعًا من باطن الأيديولوجيا نفسها، وإنما هو خطر سوسيولوجي سببه تطوّر المجموعات الحاملة لهذه الأيديولوجية في اتجاهات لينينية.

وسببٌ رئيسي آخر لهذا الخطر، بحسب ثورب، يكمن في غياب الإجماع داخل العالم الإسلامي حول ماهية المسلم الجيد أو حتى المسلم الحقيقي، حيث يتطلب ظهور أو نضوج مثل هذا الإجماع نقاشا فاعلا في المجال المدني الإسلامي بين المسلمين، الأمر الذي يوجب على الليبرالين الغرب الترحيب بهكذا نقاش وتشجيعه بدلا من الخوف منه.

وفيما يلي عرضٌ ملخّص لأبرز ما ورد في هذه الورقة التي قُدّمَت في ظل الحراك السائد في العالم العربي بعد موجة ثورات الربيع العربي.


اختراق حجب الضباب

الجو السائد عن قطب لدى الغرب هو تشبيهه بالنازية ومعاداة السامية والشمولية وبالتالي كما تقول العبارة الليبرالية الشهيرة «أنت لا تناقش الفاشي، أنت فقط تقضي عليه».

لم يؤثر سيد قطب في بن لادن أو القاعدة، ورغم تأثر الظواهري به إلا أن تأريخه يوضّح اختلاف موقف وأفكار القاعدة عن أفكار قطب.

يجادل ثورب بأن المبدأ في حد ذاته معتلّ، وإن كان واجبًا في بعض الأحيان من الناحية السياسية، إلا أنه من الناحية الأخلاقية شائب، وواجب علينا أن نشتبك – ما أمكن- مع أصحاب هذه الأفكار فلسفيا وجدليا. سيد قطب ليس بالضرورة فاشيا ولا مسئولا عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول، كما العقد الاجتماعي لجان جاك روسو فإن كتاب سيد قطب «معالم على الطريق» نص مغرق في غموضه الدلالي، وإذا كان يقبل تفسيره بطريقة شمولية فهو أيضا يقبل بقراءةٍ أكثر ليبرالية.

ليس من الواضح تأثير قطب على أسامة بن لادن والقاعدة، فـ«بن لادن» لم يذكره إلا شذرا في خطاباته، إنما يبدو أن بن لادن أقرب للأصولية الوهابية من نظريتها لدى قطب. تأثير قطب على الظواهري أكثر وضوحًا، إلا أن الظواهري في تأريخه أو تبينه لتاريخ الحركة الأصولية يبين أن موقف وأفكار القاعدة الآن مختلف عن أفكار قطب، وإن كان لدى أمثاله من الأصولين الإسلاميين المصريين الرغبة دائما في التغطي بعباءة قطب لاكتساب نوع من الشرعية في مساعيهم.


الكونية الإسلامية: الجهاد والسلام

كتاب “معالم في الطريق”، وهو آخر كتب قطب وأكثرها راديكالية، في جزء منه محاججة ضد من يدّعون أن القرآن لم يفرض أو يؤصل إلا لجهاد الدفع، أولئك الذين وصفهم قطب بالانهزاميين لأنهم لم يفهموا عالمية وكونية رسالة الإسلام التي لم تدعُ فقط لتحرير والدفاع عن أراضي الإسلام؛ بل ومحاربة الطغيان في أي وكل مكان في العالم.

هدف قطب الرئيسي من تحقق «سيادة الله» كمفهوم العدالة، كان الحكومات الديكتاتورية في العالم العربي، بينما يظلّ موقفه من المجتمعات الغربية أكثر غموضا وتعقيدا.

في قلب عالمية الرسالية الإسلامية بالنسبة لقطب تكمن فكرة العدالة وحقيقة أن كل الأفراد سواء أمام الرب. ولذلك يجب على المسلم الحق السعي لتحقيق هذه العدالة ومحاربة الطغيان أينما وجد. من هنا يكتسب جهاد الطلب مشروعيته في فكر قطب، وهنا بالذات مكمن التشابه بين جهاد الطلب وبين ما يقوم به – كمثال- بعض الليبرالين من حملات للدفاع عن حقوق الإنسان في بورما أو غيرها. فكرة جهاد الطلب ليست مخيفة أو خطرة في ذاتها، لذلك لا يجب علينا الافتراض مطلقا أنّ كل من يتبنّاها عدو للغرب بالضرورة. مفرق الأمر هو في كيفية تعرف العدالة أو الطغيان وأي الطرق هي الأفضل لمحاربة هذا الطغيان.

السيادة الحقيقية الوحيدة التي تحقق مفهوم العدالة لدى قطب هي «سيادة الله»، ما دون ذلك فهو جاهلية وشرك وطغيان. وأولئك الذين استلبوا هذه السيادة لأنفسهم لم يكونوا ليتركوها أو يتنازلوا عنها بصلاتنا وتنسكنا فقط، بل إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. هذا الموقف قد ينسحب أيضا ضد المجتمعات التي جعلت السيادة بين أيدي الشعوب، أو ما يمكن أن نسميها السيادة الذاتية، ولكن استنتاجًا كهذا يبقى بعيدا عن الموضوعية؛ لأن هدف قطب الرئيسي كان الحكومات الديكتاتورية في العالم العربي، بينما يظلّ موقفه من المجتمعات الغربية أكثر غموضا وتعقيدا من ذلك.


هل أفكار «قطب» خطرة حقًا؟

في هذا الجزء يطرح الكاتب ستة مداخل توضح عدم عدائية أفكار قطب – في جوهرها – مع الليبرالية، كما يبدو للوهلة الأولى:

المدخل الأول: أن قانون الطبيعة الذي تقوم عليه السيادة في المجتمعات الغربية ليس قانونا إنسانيا في ذاته، إنما هو صنع إلهي يكتشفه الإنسان، لذا نجد في التراث الغربي عبارات كتلك التي في الدستور الأمريكي: «شعب واحد خاضع لله»، أو لدى كانط: «يجب أن نفكر في الضرورة الحتمية باعتبارها صوت الله في داخلنا».

الحقيقة أن القوانين الإنسانية ليست إنسانية بالكامل، وإنما هي – وفقًا للأكويني- مشتقة من القانون الطبيعي الذي هو قانون إلهي بالأساس، وذلك بأحد طريقين: استخلاص نتائج عامة من المبادئ الكلية أو تطبيق خاص بحالة معينة يتم صياغته من هذه المبادئ الكلية؛ وبالتالي فالسلطات البشرية لا تصنع القوانين، إنما بالكاد تحددها أو تخصصها في المسائل التطبيقة والإدارية.

الفرق الحقيقي بين موقف الأكويني وقطب يكمن في تعريف غاية القانون، هما قد يتفقان على أن غاية القانون هي الخير العام، ولكنهما قد يختلفان في تعريف هذا الخير، إذ يعتقد قطب مع اعترافه بأهمية العقل والمنطق الإنساني، إلا أنه ليس كاملا وليس كافيا لتحقيق السعادة الإنسانية حتى في الحسابات الدنيوية البحتة، وإنما وجد القانون الإلهي أو الشريعة الإلهية لتكملة هذا النقص، وإن وجد تعارض فهو راجع لهذا النقص بالتحديد. ويحاجج قطب بأنه لكي نحقق الخير الكامل لأنفسنا في هذه الحياة، يجب أن نمتلك المعرفة الكاملة حول أنفسنا، ولأننا بطبيعة الحال لا نمتكلها وجب علينا اللجوء لمن هو أدرى بأنفسنا منا وهو الله.

ومع ذلك يرى قطب أن تطبيق هذا القانون الإلهي لا يجب أن يكون بالإكراه من قبل الدولة بل يجب أن يكون طوعيًا بشكل كامل، من منطلق إيمان أفراد المجتمع الإسلامي بهذا القانون إيمانا مطلقا، وبالتالي فالجهاد الذي يقترحه قطب في هذه الحالة هو جهاد من أجل إقرار هذه الحرية للمجتمع الإسلامي في ممارسة معتقداته، أي أن حكومة ليبرالية تؤمن بهذه الحرية وتأمنها ليست بالضرورة هدفا لهذا الجهاد. أضف إلى ذلك، أن تعريف السيادة العامة الذي تتبناه وجهات النظر الليبرالية لا يتعارض في مجمله مع الأصوليين الإسلاميين، وطالما لم تخالف هذه القوانين ما يعتبره الأصولييين تشريعًا إلهيًا فليس من حقهم اعتبارها طاغوتًا يحكم من دون الله.

المدخل الثاني: هو أن فكر قطب عن الحوكمة الإسلامية قائم بالذات على فكرة الاجتماع – أو المجتمع – الإسلامي، أي أن هذه الحوكمة لا تُفرض بالقوة، إنما تُستزرع وتُستنمى مع نواة المجتمع التي تتبناها، وبالتالي في عالم الحاضر لا تتحقق هذه الشروط إلا في مجتمع ليبرالي بالأساس يسمح بنمو وتطور مثل هذه النواة، أي أن قطب في حقيقة الأمر متفق مع الفكرة الليبرالية في الحكم والحوكمة التي تناقض القهر والاستبداد وتسمح بحرية العقيدة وممارسة الشعائر.

المدخل الثالث: أن فكر قطب في حقيقته «تخطيئي»؛ أي أنه لا يقر بالكمال الفكري الإنساني في أي موضع، بما فيها تفسيره للقانون والتشريع الإلهي. وموقفه هذا مبني على محدودية القدرة الإنسانية بالنسبة للزمان والمكان وعدم قدرتها على التفلت من هذه المحدودية للخلوص إلى المطلق الكوني. وبالرغم من أن قطب وأتباعه دوغمائيون على مستوى الممارسة، إلا أن هذه النواة الفكرية تسمح بنشوء أجيال أكثر نقدًا لذاتها في قراءتها للواقع وللتشريع والتنزيل الإلهي.

المدخل الرابع: أن عالمية الرسالة الإسلامية تفرض على المسلم دائما التحسّب أنه حتى أعداء اليوم هم أعضاء مستقبليون محتملون في المجتمع الإسلامي، بإمكانهم أن يتعدوا ذلك ليصبحوا قادة ومؤثرين في هذا المجتمع. ألم يكن عمر بن الخطاب يومًا واحدًا من هؤلاء الأعداء؟

المدخل الخامس: إصرار قطب على ألا يكون الحكم في المجتمع الإسلامي ثيوقراطيًا، لأن الثيوقراطية في أصلها نوع من الشرك الذي يعبد فيه رجال الدين بجانب الله الواحد؛ إقامة حكم الله في الأرض لا يكون بتنصيب هذه الطبقة من الوسطاء، إنما يكون بتدعيم التشريعات القوانين الإلهية وتطبيقها.

المدخل السادس: يؤمن قطب بالتدرج في الوصول للمجتمع الإسلامي الكامل، وتطبيق الشريعة بحيث تخرج عن إطارها كنظرية إلى كونها مفاهيم وممارسات يتم تنشئة المجتمع عليها أو صناعتها منها شيئًا فشيئًا، هذه التدريجية تمنع تحول الفكرة لأيديولوجيا قهرية غير قابلة للالتقاء مع المجتمعات الليبرالية.


خطر «اللينينية» لا خطر «قطب»

يتضح مما سبق أن فكر قطب في جوهره لم يكن معاديًا لليبرالية، ولكنه يعاني بالتحديد فراغًا في تحديد شكل السلطة التي تحكم المجتمع. وهو ما ينذر بتحول هذا الفكر إلى طائفة أو جماعة يقودها رجال ذوو كاريزما يميلون بالدفة ميولا لينينية تدّعي حراستها لمفاهيم الحاكمية والقانون الإلهي، وتسعى لتخليص الناس بالقوة من نير لا وعيهم بهذه المفاهيم، وبالطبع هذا ما تخلص إليه قراءات جماعات كالقاعدة وغيرها لسيد قطب.

موقف سيد قطب من إمكان تطبيق الشريعة بالقوة، ينافي قراءة جماعات متأثرة باللينينية – كالقاعدة وغيرها – لأفكاره.

تدريجية «قطب» المنهجية تبطل مثل هذه القراءة إذا أخذنا في الاعتبار أنه في أشد مراحله الراديكالية اقترح على جماعة الإخوان دورة تعليمية من 13 عامًا يتم تأهيل المجتمع فيها لتقبل الشريعة والحكم الإلهي، يتم في نهايتها إجراء استفتاء لمعرفة نتيجتها، ثم تكرارها إذا لم تخرج بالنتيجة المطلوبة. أي أنه لم يرَ يوما إمكان تطبيق الشريعة بالقوة.

نعم، قد تكون بعض نصوص سيد قطب تنحو منحًى لينينيًا، كأن يعزل أفراد النواة الإسلامية أنفسهم عن المجتمع حتى لا يتأثروا به سلبًا. لكن السؤال المطروح الآن: هل تشكل مجموعة كهذه خطرًا على المجتمع الليبرالي؟ هل يجب أن يقبل كل أفراد المجتمع الخاضعين للدولة بكل أسسه كي يكون لهم حق العيش تحت ظلها؟


مشكلة القيادة الإسلامية

في قلب فكر قطب تكمن مشكلة تحديده للقيادة الإسلامية ومواصفاتها, لم يحدد قطب سمات هذه القيادة التي ستضطلع بمهمات استنزال أحكام الشريعة على الواقع وقيادة المجتمع في ظل اللحظة الراهنة، اكتفى قطب بذكر بضع صفات كررها في أكثر من مناسبة وهي أن صفات القائد الإسلامي هي أن يكون تقيًا مخلصًا مؤمنًا. بينما يضع المسلمون المعتدلون شروطًا أكثر جدية وتعقديًا للقيادة الإسلامية المخولة بإسداء المشورات والحكم في القضايا الكبرى وهذه الشروط مشتقة بالأساس من التراث التقليدي للفقه الإسلامي.

هنا تكمن المفارقة في أن الأصوليين الإسلاميين هم منتوجات الحداثة وأقرب إليها من التراث التقليدي أو تيارات الإسلام المعتدل. نلحظ هذه الظاهرة في كون معظم المنتمين إلى تلك الجماعات والأفكار هم خريجو كليات علمية عملية كالطب والهندسة وعلوم الحاسب، يرجع بنا تقصي السبب بعيدًا حتى القرن التاسع عشر حين أغلقت وفتّت السلطات العلمانية الجديدة المدارس الفقهية والأهلية التي كانت تنتج رجال الدين المتعلمين والمتدربين على فنون الفقه واستقراء الأدلة والأحكام من القرآن والسنة. في ظل غياب هذه المدارس واستدجان المتبقي منها من قِبل السلطات العلمانية هو ما أدى إلى النزعة المبدأ الأصولي المهم في فكر سيد قطب القائل بأنه لا حائل بين المسلم وفهمه للقرآن إلا نفسه.


ختامًا

الأصوليون الإسلاميون هم منتوجات للحداثة وأقرب إليها من التراث التقليدي أو تيارات الإسلام المعتدل.

ليس أفصح للتدليل على وجهة نظر هذه الورقة من مثال عملي في قضية كقضية المرأة مثلا، حيث يتّخذ قطب موقفًا أكثر تقدمية من الواقع الاجتماعي الذي كان سائدًا في المشرق الإسلامي حينها، صحيح أنه لم يكن ليبراليًا تمامًا إلا أنه كان أكثر اعتدالًا وأكثر تعاطفًا، حتى من فلاسفة غربيين ممن أسسوا للحداثة والتنوير مثل كانط الذي كان له موقف شديد التشدد ضد المرأة، ولم يكن يرى بأهليتها وحقها كفرد في المجال العام، ومع تابعيتها لزوجها بالضرورة، فهي أبعد ما تكون عن العقل والمنطق، أما السيدات المتعلمات فيحملن الكتب كما يرتدين ساعات اليد للمباهاة والنقل الحرفي فقط.

قد يجادل البعض أن موقف كانط ابن بيئته وزمانه؛ إلا أن هذه المحاججة تنسحب أيضا على قطب بدرجة أكبر، فليس من المعقول أن قطب كان من الممكن أن يؤيد قتل البنات على جرائم الشرف في باكستان مثلا أو سواها. وليس من المستبعد أن نرى لدى حركات الأصوليين الإسلاميين ممارسة تجاه المرأة يومًا ما أكثر ليبرالية من بيئتهم التقليدية.