روت مجموعة البحوث الصيدلانية ومصنعو أمريكا قصة عن شخص يدعى مات إليفسون «Matt Ellefson» والذي أصيب بالسعال ولم يلق له بالاً، ظنًا منه أنه بسبب البرد، إلا أن الأمر استمر لأسابيع! ازداد الأمر سوءًا وبدأ يطرد الدم مع السعال، وشخصت حالته كسرطان رئوي متقدم في ظرف ساعات من وصوله إلى غرفة الطوارئ.

مع العلاج وبعد 5 أشهر تحسنت حالته إلا أن السرطان ظهر مرة أخرى وانتشر بعد عام. علم «مات» أن هناك علاجًا جديدًا تحت طور التجربة والبحث، ورغم أن مؤشرات البحث لم تكن شديدة الإيجابية نتيجة مقاومة المرضى تحت الاختبار للدواء إلا أن الأبحاث في مجال تطوير الدواء لا تقف.

بعد ثلاث سنوات، يعيش «مات» حياة نشطة سعيدة، بل إنه يشارك في سباقات الركض وركوب الدراجات! ورغم كونه لم يشف تمامًا، إلا أن حالته تحت السيطرة.. ويظل لديه –ولدينا- الأمل دومًا.. أنه حتى إذا ظهرت لديه مقاومة للدواء فإن دواءً جديدًا في معمل ما، قادمًا بأمل متجدد ويحمل معه مشعلاً ليضيء طريق العلاج بإذن الله.

مع الأمل الكامن في رحم الغيب، نعلم أننا نغالب الزمن، لأن المرض لا ينتظر. ورغم تطور الأبحاث العلمية وتشعبها في المجال الطبي والدوائي، إلا أنه من الملاحظ أن مرحلة الوصول لدواء جديد متاح للمرضى أنفسهم، أمر يطول.

ما الذي يعسر الأمر لهذه الدرجة؟ هل هي ندرة الإمكانات العلمية للأفراد؟ هل طبيعة عملية تطوير الدواء نفسه؟ هل نقص الدعم المادي؟

قبل التساؤل عن طول المدة ومراحل تطوير الدواء علينا أن نتبين هدف القائمين على تصنيع الدواء وعلى الجهات الرقابية.. الهدف الأساسي لمُصنِّع الدواء -وهو ما تصب جميع العلوم الصيدلانية في خدمته- هو الحصول على منتج دوائي فعال وآمن، وتأتي الجهات الراعية للجودة–وعلى رأسها دساتير الأدوية- لتؤكد على أن يكون منتجًا عالي الجودة.

خطوات تطوير الدواء

حسب «إدارة الدواء والغذاء الأمريكية USFDA» -إحدى أضخم المؤسسات الرائدة عالميًا في مجال صناعة الأدوية والأغذية- فإن مراحل الوصول إلى دواء نطمئن إلى فعاليته وأمانه خمس مراحل.. كل خطوة تفضي لما بعدها في سلم إجباري لا يسمح بتخطي درجة قبل تاليتها.

الخطوة الأولى: الاكتشاف والتطوير

الاكتشاف:

والمعتاد أن يأتي اكتشاف الباحثين لدواء بعينه عبر إحدى القنوات التالية:

  • تخليق مركبات جديدة يتوقع تأثيرها الإيجابي في علاج أو تشخيص الأمراض وهو لب عمل باحثي الكيمياء الصيدلانية.
  • اختبار مركبات جزيئية للتعرف على تأثيرها العلاجي لمرض من الأمراض، وهو لب أبحاث متخصصي الأقربازين والكيمياء الحيوية.
  • الاستفادة من فهم جديد لطبيعة مرض بعينه ظهرت عند متخصصي الطب والفسيولوجيا المرضية، ما يسمح بتحضير منتج يضاد تأثير المرض.
  • اكتشاف تأثير غير متوقع لدواء موجود بالفعل، وربما يستفيد هذا الأمر من التوجه العالمي للاهتمام باليقظة الدوائية والتي تتضمن متابعة الدواء وآثاره الجانبية عبر منهجية محددة.
  • تطور التكنولوجيا، ما يسمح بابتكار منتجات أكثر تطورًا، سواء في توصيلها لموضع معين من الجسم أو باستهداف «جين» بذاته.. وهو لب عمل متخصصي التكنولوجيا الصيدلية والتكنولوجيا الحيوية على الترتيب.

حتى هذه الخطوة فإن آلاف المركبات يمكنها أن تبدو واعدة، ولنا أن نتذكر هذا العدد الضخم –آلاف-، لنرى في نهاية المطاف كم من المركبات سيصمد عبر الخطوات المختلفة.

التطوير

بعد أن يستقر الباحثون على مركب واعد كدواء، يجري الباحثون التجارب لجمع المعلومات الكافية عنه، فكيف يمتص الدواء من الجسم؟ وأين «يتموضع» بعد وصوله الدم؟ كيف يخرجه الجسم أو يتخلص منه؟ ما تأثيره المتوقع؟ وما طريقة «ميكانيزم» عمله؟

ما الجرعة الأنسب؟ وما طريقة التعاطي المثلى؟ هل عبر الفم أم الحقن أم غيرهما؟ ما مدى سميته؟ وما آثاره الجانبية المتوقعة؟ وما مدى اختلاف تأثيره باختلاف مجموعات المرضى (السن، النوع، العرق…إلخ)؟ ما تداخلاته الدوائية مع الأدوية الأخرى؟ ما فعاليته مقارنة بالأدوية الشبيهة؟

كل هذه التساؤلات تدور في فلك الهدف الأساسي، دواء فعال وآمن، ولا تزال طمن إطار البحث الأولي.

الخطوة الثانية: الأبحاث غير الإكلينيكية

قبل أن يقوم الباحثون بالدخول في خطوة التجارب على الإنسان، لابد من التأكد من عدم وجود تأثير ضار، ويتم ذلك خلال خطوة البحث غير السريري، والتي يتم التجريب فيها معمليًا.. سواء باستخدام الأدوات المعملية «In Vitro» أو باستخدام حيوانات التجارب «In Vivo».

بعد هذه الخطوة –وهي خطوة فارقة- على الباحثين أن يقرروا ما إذا كانوا سيواصلون في البحث عبر التجريب على البشر أم لا.

الخطوة الثالثة: الأبحاث الإكلينيكية

رغم أن خطوة الدراسات غير الإكلينيكية تملأ فجوة معرفية كبيرة فيما يخص الدواء تحت الاختبار، إلا أنها لا تقطع كل الطريق بل تنير مصباحًا في أوله. تأتي بعدها خطوة شديدة الأهمية وهي الخطوة التي يصل إليها الدواء بعد التأكد من إمكانية تجريبه على البشر. تتضمن الأبحاث الإكلينيكية –والتي تتم على البشر- مراحل ثلاث:

  • المرحلة الأولى: والتي تهدف إلى التأكد من أمان الدواء، وتهدف لتحديد الجرعة المناسبة للتناول وتستمر شهورًا. باستثناء أدوية السرطان –والتي يتم اختبارها على مرضى مصابين بنوع السرطان المصمم من أجله الدواء- يختبر الدواء في أكثر الحالات على مجموعة من المتطوعين الأصحاء أو المرضى، في الأغلب 20-80 متطوعًا صحيحًا أو مريضًا مصابًا بالمرض الذي يعد الدواء لعلاجه. خلال المرحلة الأولى يجيب الباحثون عن التساؤلات الأولية للبحث عن الآثار الجانبية للدواء، واحتمالات الضرر مع تزايد الجرعة والمعلومات الأولية عن الفعالية، مما يسهل القرار -تاليًا- بأي شكل سيتم إعطاء الدواء للمرضى والذي يفيد المرحلة الثانية من التجارب الإكلينيكية.
  • المرحلة الثانية: وتستمر من شهور إلى عامين، وتهدف إلى التأكد من الفعالية وتحديد الآثار الجانبية. تُجرى التجارب على مئات المرضى الذين يعانون من المرض الذي يصمم من أجله الدواء، وهو لا يزال عددًا قليلاً لحسم مدى نفع الدواء، إلا أنه عدد كافٍ للتعرف على معلومات إضافية عن أمان الدواء، ويمد الباحثين بالبيانات المؤهلة لتصميم المرحلة الثالثة في التجارب الإكلينيكية.
  • المرحلة الثالثة: وتستمر من عام إلى أربعة أعوام، وتهدف إلى التأكد من الفعالية ومتابعة الآثار الجانبية. تتم المرحلة على 300-3000 متطوع مريض بالداء الذي يعد من أجله الدواء الجديد، وبالطبع هذا العدد مع طول الفترة يسمح باكتشاف الأعراض الجانبية النادرة الحدوث أو التي تأتي مع فترة زمنية طويلة.
  • المرحلة الرابعة: وتهدف إلى التأكد من الفعالية والأمان، وتتم على آلاف المرضى ممن يعانون من المرض الذي جهز له الدواء. تتم المرحلة الرابعة بعد الحصول على موافقة إدارة الدواء والغذاء الأمريكية –لاحظ أننا نروي المراحل حسب الإدارة ذاتها- خلال متابعة أمان الدواء بعد التسويق «Post-Market safety monitoring »، حيث تتداخل هذه المرحلة مع الخطوة الخامسة والأخيرة في قصة حياة الدواء.

الخطوة الرابعة: مراجعة الدواء في إدارة الدواء والغذاء

إذا وجد مطور الدواء عبر الخطوات الثلاث السابقة أن الدواء آمن وفعال، يقوم بتقديم ملف الدواء إلى الإدارة لطلب الموافقة على تسويقه. تنظر اللجنة المختصة الملف وتراجعه لتتخذ قرارها بالقبول أو الرفض.

الخطوة الخامسة: متابعة أمان الدواء

رغم القواعد الصارمة للبحث العلمي لا سيما في مجال الدواء، إلا أن الصورة الكاملة للدواء لا يمكن الوصول لها في وقت الموافقة عليه، وإلا ربما تعطلت الموافقة لسنوات أخرى. تراجع السلطات الدوائية التقارير التي ترد من المختصين أو من المرضى أنفسهم، وربما يتم تعديل لجرعات بعينها أو حتى يتم إيقاف الدواء تمامًا.

ربما يتساءل البعض: ولمَ لا ننتظر هذه السنوات لنتجنب الصورة غير المكتملة؟ الإجابة بالطبع هي أن بعض الآثار الجانبية لا تظهر إلا مع آلاف مؤلفة من الحالات ولذلك فلا سبيل لملاحظتها إلا بعد أن يتناولها الآلاف، كما أن بعض التفاعلات الدوائية تظهر في مجموعات عرقية دون غيرها ولذلك فلن تظهر إلا بعد الاستخدام العابر للقارات. وهناك بعد آخر، هو أن «مات» وغيره من أصدقائنا وأحبائنا المنتظرين للعلاجات الجديدة يتشوقون لأمل جديد ولا يمنحهم المرض رفاهية الانتظار أكثر.