محتوى مترجم
المصدر
Russia Beyond
التاريخ
2018/3/2
الكاتب
PAVEL BASINSKY

كانت أولى الملاحظات التي دونها تولستوي في مذكراته حول غوركي إيجابية. تدوينات من قبيل: «أجرينا محادثة جيدة»، و«إنه رجل مثقل بهموم الجماهير حقًا»، و«أنا ممتن لإعجابي بكل من غوركي وتشيخوف، وبخاصة الأول». لكن موقف تولستوي من غوركي قد اعتراه تغير بدا جذريًا – بل وحتى اعتباطيًا – بداية من منتصف عام 1903.

كتب تولستوي في 3 سبتمبر 1903: «غوركي! ثمة سوء فهم»، مضيفًا بغضب: «يعرف الألمان غوركي، لكنهم يجهلون بولنز».

لكن فيلهلم فون بولنز (1861-1903)، الكاتب الألماني البارز ابن المدرسة الطبيعية، عجز عن منافسة غوركي، الذي ذاع صيته في ألمانيا بحلول عام 1903 بفضل مسرحيته «الأعماق السفلى»، التي عرضت لأول مرة في مسرح ماكس راينهاردت الصغير (Kleines Theater) ببرلين في 10 يناير 1903 تحت عنوان «ملجأ ليلي». وقد نظمها المخرج المعروف ريتشارد فالنتين، الذي لعب بنفسه دور ساتين، بينما لعب راينهاردت دور لوكا. جاء نجاح النسخة الألمانية من «الأعماق السفلى» ساحقًا للغاية حتى أنها عرضت 300 (!) مرة على التوالي، وفي ربيع 1905 احتفل بالعرض رقم 500 في برلين.

سيكون اتهام ليو تولستوي بالحسد سخفًا يثير السخرية، لكن ثمة شيئاً من غيرة الكتاب في هذه التدوينة، فليس من قبيل الصدفة أن يأتي وصف حالة غوركي بأنها «سوء فهم» مع ذكر الألمان. إذ إن النجاح الباهر لـ«الأعماق السفلى»، لا في روسيا فقط بل في ألمانيا أيضًا، قد بلغ مسامعه. استمع تولستوي إلى «الأعماق السفلى» في شبه جزيرة القرم، حيث تلاها عليه غوركي بنفسه من مخطوطتها، ورآها -آنذاك- بالفعل مسرحية غريبة عجز عن معرفة مغزاها. ولو لم تلق المسرحية هذا النجاح الكبير لخلص تولستوي ببساطة إلى أن المؤلف الشاب قد اتخذ الخيار الإبداعي الخطأ. حتى قبل ذلك، أخذ تولستوي على غوركي حديث فلاحيه «شديد الذكاء»، ونثره الذي كان كثير منه مبالغًا فيه وغير طبيعي.

تبدو تهمة الغيرة أكثر وجاهة عند قراءة مذكرات تولستوي في 25 أبريل 1906. في ذلك الوقت كان غوركي برفقة الممثلة ماريا أندريفا، في جولتهما الكاشفة لمساوئ الولايات المتحدة الأمريكية، حيث التقيا بالكتاب وأجريا المقابلات، وجرت تغطية كل ذلك على نطاق واسع، لا في الصحافة الأمريكية فقط بل أيضًا في الصحافة الروسية. في ذلك التاريخ كتب تولستوي يقول: «قرأت في الصحيفة خبر استقبال غوركي في أمريكا، فوجدتني أشعر بالانزعاج».

فيما يلي تدوينات 24 ديسمبر و25 ديسمبر 1909: «قرأت شيئًا من كتابات غوركي. لا تدري إلى أي صنف أدبي تنتمي هذه!». ماذا كان يقرأ تولستوي يا ترى؟ مسرحية الفلستيون. لكن لم تأخر في قراءتها هكذا، علمًا بأنها أولى مسرحيات غوركي، التي يرجع تاريخ تأليفها إلى ما قبل «الأعماق السفلى»؟ كتب تولستوي في 25 ديسمبر: «الليلة الماضية، قرأت الفلستيون لغوركي، إنها مزرية».

وفي 9 نوفمبر و10 نوفمبر من العام نفسه: «في المنزل مساءً، انتهيت من قراءة غوركي. كلها مشاعر بطولية خيالية وغير طبيعية مع نفاق». ثم يكررها «نفاق»! ثم يضيف مقرًا: «إلا أنها موهبة كبيرة».

الموهبة كبيرة لكن العمل مزري ونفاقي؟

مع ذلك لم ينقص اهتمام العجوز العظيم بالكاتب «المنافق». إذ جاء نص تدوينة في مذكرات تولستوي يوم 23 نوفمبر من العام نفسه، 1909، على النحو التالي: «قرأت عن غوركي بعد العشاء. وإنه لمن الغريب أن أقول إنه كان لدي شعور سلبي تجاهه، وهو شعور أجدني في صراع معه. أقول لنفسي إنه، مثله كمثل نيتشه، كاتب ضار: هبة كبرى دون معتقدات دينية على الإطلاق -أي دون أدنى انشغال بمعنى الحياة- وإلى جانب ذلك فظاظة، مدعومة من «عالمنا المثقف» الذي يعتبره متحدثًا باسمه، وهي فظاظة تزيد العالم فسادًا. خذ مثلًا قوله: أنت تؤمن بالله، إذًا هناك إله؛ أنت لا تؤمن بالله، إذًا فليس هناك إله. قول حقير، لكنه، وعلى الرغم من كل ذلك، جعلني أمعن التفكير. هل الله نفسه الذي أتحدث وأكتب عنه موجود؟ صحيح أن بإمكان المرء أن يقول عن هذا الإله: إذا كنت تؤمن به فهو موجود. ولقد اعتقدت ذلك دائمًا. ولهذا السبب بدا لي في كلمات المسيح «تحب الرب وقريبك» أن حب الإله غير ضروري وغير متوافق مع محبة القريب، ذلك لأن محبة القريب شديدة الوضوح، أوضح من أي شيء، في حين أن محبة الإله، على العكس من ذلك، غامضة للغاية. يمكنك تقبل وجوده، هذا الإله في ذاته، صحيح، لكن هل يمكنك أن تحبه؟ وهنا صادفت أمرًا لطالما خبرته: القبول الصاغر لكلمات الإنجيل.

«الله محبة، هكذا الأمر. نحن نعرفه فقط لأننا نحبه، لكن كون الله في ذاته موجود لهو محض عقلنة، وغالبًا ما تكون غير ضرورية بل وحتى ضارة. إذا سؤلت: هل الله في ذاته موجود؟ لا بد لي من القول، وسأقول: نعم، على الأرجح، لكنني لا أفهم شيئاً عنه، عن هذا الإله في ذاته. لكن الأمر ليس كذلك مع إله الحب. فأنا أعرفه بالتأكيد. إنه كل شيء بالنسبة لي، إنه سبب حياتي وهدفها».

في الواقع، هز غوركي النظرة الدينية لتولستوي بكلمات لوكا في «الأعماق السفلى». إذا كان الله فيك فقط، ولم يكن الله في حد ذاته موجودًا، فليس ثمة إله. بشكل غير متوقع، يتشوف تولستوي إلى الأفكار الخاصة بالحب كما عبرت عنها الجدة في «طفولتي». من منا يسعه معرفة الرب؟ إن البشر لهم من يتوجب على المرء محبتهم.

لم يكف ليو العظيم عن الانزعاج. إذ كتب بتاريخ 12 يناير 1910، أي العام الأخير من حياته، يقول: «ذهبت بعد العشاء لرؤية ساشا (بافيل باسينسكي، ابنة تولستوي)، إنها مريضة. لو لم تكن ساشا تقرأ لكتبت لها شيئًا مقبولًا. أخذت إحدى كتابات غوركي منها. قرأته. سيئ جدًا. لكن الأساس هنا أنه ليس من الجيد أن أجد هذا التقييم المغلوط موضعًا للاعتراض. فعلي ألا أرى إلا الخير فيه».

وراء كل تعليقات تولستوي الغاضبة والمنفعلة حول غوركي، يستحيل عدم ملاحظة نبرة حادة ومتحزبة وحتى غيورة تجاهه. أدرك تولستوي أن غوركي عبر عن مشاعر الجيل الجديد من الشباب وهو ما كان سبب الاهتمام المفرط الذي أولاه المثقفون لجوركي. لم يعتبر تولستوي غوركي «صوتًا للشعب».

لكن غوركي كان في طليعة العصر الجديد بأخلاقياته وثقافته الجديدة. كان غوركي يبرز إلى ساحة المعركة متحديًا. أما تولستوي فلم يعرف كيف يستجيب للتحدي. وهكذا، كان غوركي، ولو لفترة وجيزة، هو الرجل الذي وضع تولستوي «على المحك». بالأخص في شخص لوكا، العجوز الحكيم الذي زعزع إيمان تولستوي بكلماته عن الرب.

بينما كان غوركي مجرد حلقة واحدة في حياة تولستوي، كان لتولستوي أحد أبلغ التأثيرات الممكنة على غوركي. ففي تولستوي، التقى غوركي بشخص وضعه «على المحك»، لكن بطريقة لم تكن حتى قابلة للمقارنة بما فعله الطاهي سموري أو روماس (شخصيات في أعمال سيرة ذاتية من تأليف غوركي: «في العالم»، و«بين الناس»). كانت الشخصية الوحيدة التي اقتربت من تولستوي في السيرة الروحية لجوركي هي جدته أكولينا إيفانوفنا. لقد وقع خبر وفاة تولستوي على غوركي حادًا مثل خبر وفاة جدته:

«مات ليو تولستوي.
كانت هناك برقية أعلن فيها عن الأمر بأكثر العبارات ابتذالًا: لقد مات. كانت طعنة مباشرة في القلب. عويت من الألم والحزن، والآن، وفي حالة من البلادة الذهنية، أستطيع أن أراه أمامي كما عرفته ورأيته. وإنني لفي أمس الحاجة إلى الحديث عنه».

عندما ماتت جدة غوركي، لم يبك أليشا بيشكوف (اسم غوركي الحقيقي). لكن كان الأمر «كما لو أن ريحاً جليدية قد عصفت». ومرة أخرى، حين توفي تولستوي، ومثلما كان الحال عند وفاة الجدة، لم يكن ثمة من يتحدث إليهم غوركي، باستثناء أعزائه الراحلين.