منذ صوّب البشر أنظارهم نحو السماء، كان من الطبيعي أن تنعقد فى أذهانهم مقارنة دائمة بين عالمهم الأرضي الملموس وعالم السماء العجائبي بنجومه البراقة وأقماره وكواكبه وشهبه اللامعة. تلا ذلك محاةلى للتقريب بين العالمين واكتشاف ما بينهما من تشابهات وما يجمعهما من علم. ومع التطور العلمي والثورة التي أحدثها جاليليو برفع تيليسكوبه إلى السماء وبناء هيرشيل لتيليسكوبه الكبير وإرساء القواعد الأولى لعصر العلم التجريبي، تسابق الفلكيون في توجيه أدواتهم لأعلى اّملين في الحصول على المزيد من مفاتيح أسرار الكون. في مثل هذا اليوم من العام 1868 نظر جانسين بمطيافه إلى الشمس ووجد أول عنصر يسبق اكتشافه في الفضاء اكتشافه على الأرض؛ الهيليوم.


إلى الهند، وراء الشمس

ولد بيير جانسين فى الثاني والعشرين من فبراير/شُباط عام 1824 في فرنسا حيث درس الفيزياء والرياضيات، وقام بتدريسهما فى مدرسة العمارة. لم تكن شخصية جانسين شخصية تميل للبقاء بين الكتب والبحث المغلق؛ مما جعله يمضي حياته في حالة تجوال دائمة ورحلات استكشاف متتالية إلى طول البلاد وعرضها، من اليابان إلى بيرو ومن سيبيريا إلى الجزائر، حتى في ظروف الحرب غير المواتية. ومن بين هذه الرحلات، حملت رحلته إلى الهند أهمية خاصة لتاريخ الكيمياء، إذ حمل مطيافه spectroscope -الذي كان من التقنيات الحديثة الاكتشاف آنذاك وكان تطويرًا بسيطًا للمنشور prism-، وقرر أن يقوم بقياس طيف الامتصاص* لغلاف الشمس اللوني Chromosphere الذي لا يظهر إلا عندما يحجب القمر قرص الشمس خلال الكسوف. كان يأمل من وراء هذه التجربة أن يلقي بعض الضوء على العناصر المكونة للشمس.

لم يبدُ الأمر ثوريًا أو خارقًا، فالشمس في ذلك الوقت لم تكن تعتبر سوى كرة ضخمة من الغازات. ووجد جانسين أن خطوط الامتصاص تشير إلى تكوين الشمس من الهيدروجين بصفة عامة. لكن، ظهرت أيضًا خطوط لعناصر أخرى توصّل جانسين لاحقًا لكونها تداخلات من مرور أشعة الشمس خلال عناصر الغلاف الجوي للأرض. إلا أنّ خطًا واحدًا من خطوط الامتصاص بقي غير مفهوم وليس له مثيل ولا تفسير في أطياف امتصاص العناصر المكتشفة حتى ذاك الوقت. حينها قرر الفرنسي أن يبعث بنتائجه وخطوطه جميعًا لفلكي إنجليزي يدعى نورمان لوكير Norman Lockyer الأكثر تعمقًا في تجارب الأطياف وأبحاثها، وكان رد هذا الأخير هو المثير بحق، فقد استقر رأي لوكير بعد فحصه لطيف الشمس أن الخط المبهم لم يكن ينتمي لأي من العناصر المعروفة على الأرض، وأنه عنصر جديد تمامًا يوجد في الشمس ولا يوجد على الأرض، ولذا بدا مناسبًا أن تتم تسميته هيليوم Helium نسبة إلى إله الشمس الإغريقي هيليوس Helios.

يحكي التاريخ أحد مغامرات جانسين ليتمكن من مشاهدة كسوف شمسي اّخر في شمال سيبيريا، فقد كان على جانسين الهروب من باريس المحاصرة اّنذاك من قبل القوات البروسية، وكانت الطريقة الوحيدة للخروج من باريس في هذه الفترة هي الهواء؛ أي المناطيد التي لا يمكن التحكم بها، والتي قد تهبط في وسط القوات البروسية أو تصاب بخرق وتقع براكبيها في الهواء. لحسن الحظ هبط منطاد جانسين بأمان وراء خطوط العدو ليتمكن من الذهاب لموقع الكسوف، إلا أن السحب منعته من أن يرى أي شيء متسببة في أن يذهب عناء رحلته سدى.

قوبل الفلكيان بسخرية لاذعة عند نشرهما النتائج، فقد كان العلماء يرون أن فرضية كهذه تعتبر من قبيل الأساطير الشعبية التي تعطي الأجسام الفضائية خصوصية لا تتناسب مع البحث العلمي؛ وبهذا كان على الهيليوم الانتظار حتى عام 1895 ليأخذه العالم بجدية، وقد كان هذا عندما وجده رامزى على الأرض.


العودة إلى الأرض

http://gty.im/90772210

بعد اكتشافه لغاز الأرجون، كان رامزي –الذي نسب نجاحاته الكيميائية إلى امتلاكه إبهامًا ضخمًا قادرًا على سد فتحات أنابيب اختباره- يجري بعض المعالجات الكيميائية بواسطة الأحماض على خام الكليفيت Clevite المشع، المحتوي بشكل أساسي على اليورانيوم. وفي خلال فحص طيف الامتصاص لهذا الخام واجه رامزي خط امتصاص غريب لا معنى له، تابع رامزي بحثه عن تفسير لهذا الخط حتى عثر على نتائج جانسين ولوكير التي طابق خط الامتصاص فيها الخط الذي وجده هو. كان الكليفيت هو أول مصدر للهيليوم يتم اكتشافه على الأرض وكان الهيليوم هو العنصر الخامل الأول في مجموعة الجدول الدوري الجديدة التي وضع رامزي أساسها سابقًا؛ المجموعة رقم 18.

في الواقع لم يكن اكتشاف الهيليوم في خامات اليورانيوم والثوريوم المشعة دائمًا محض صدفة، فقد أشرنا سابقًا في معرض حديثنا عن تكوين العناصر في الفضاء عن كيفية تكوين عنصر الهيليوم في النجوم، وعن كيفية وصول العناصر المختلفة للكواكب سواء خلال تكوينها أو بعده. إلا أن بقاء هذه العناصر في الغلاف الجوي أو الطبقات الصلبة للكوكب يعتمد على مدى جذب هذا الكوكب للعنصر، وعلى سرعة هذا العنصر المرتبطة بكثافته. وللعناصر الخاملة سمة خاصة كون جزيئاتها تتكون من ذرة واحدة؛ مما يعني أنه إذا كانت هذه الذرة الوحيدة ذات كتلة منخفضة فإن سرعتها ستمكنها بسهولة من الهروب من نطاق جاذبية الكوكب وهذا بالضبط ما حدث للهيليوم على كوكب الأرض.


خطوط الإنتاج

قد يبدو أن ما سبق يفسر ندرة الهيليوم الشديدة على الأرض وفي غلافها، لكنه في الواقع لا يفسر لماذا تبقت كميات من الهيليوم – ولو أنها محدودة للغاية- على الأرض ولم توجد دائمًا قرب العناصر المشعة، أليس من الواجب أن تخلو الأرض تمامًا من الهيليوم؟.

الإجابة على هذا التعارض تكمن في ظاهرة الانحلال الإشعاعي لليورانيوم أو الثوريوم. بالإمكان القول بإن العناصر المشعة هي ماكينات تقوم بإنتاج المزيد والمزيد من الهيليوم خلال انحلالها لعناصر أخرى فيما يعرف باسم «سلسلة اليورانيوم». تقوم فكرة الانحلال على أن أنوية العناصر المشعة غير المستقرة تقوم بفقدان بعض ما تملكه من بروتونات ونيوترونات لتصل لحالة الاستقرار متحولة بذلك لعنصر اّخر. فعند فقدان عنصر ما لـ 2 بروتون و 2 نيوترون، تعتبر هذه الجسيمات جسيمًا واحدًا يسمى جسيم ألفا. يرتبط جسيم ألفا هذا (الذي يشبه نواة الهيليوم) بإلكترونين لتتم معادلة الشحنة وتتولد ذرة الهيليوم التي تتراكم مع غيرها مكونة غاز الهيليوم المكتشف قرب العناصر المشعة. باختصار، الهيليوم المكتشف على الأرض هو هيليوم حديث التكوين نسبيًا بتاريخ يصل لبضعة ملايين من السنين، لكنه لا يرقى لعمر نشأة الأرض، فهو لم يأت إلى الأرض منذ تكوينها مثل الحديد أو غيره من العناصر.


تصحيح المفاهيم

الهيليوم المكتشف على الأرض هو هيليوم حديث التكوين نسبيًا بتاريخ يصل لبضعة ملايين من السنين، لكنه لا يرقى لعمر نشأة الأرض.

http://gty.im/489061272

تعد الحفلات هي المسرح الأساسي لتعامل الناس مع الهيليوم، حيث يمثل انخفاض كثافة الهيليوم عن كثافة الهواء ميزة محورية عند ملء البالونات الملونة بالغاز لتتطاير لأعلى بشكلها المبهج المعهود. وبالطبع لاستنشاق الهيليوم تأثير كاريكاتوري على أصوات مستنشقيه، لكن لا يعلم الأغلبية السبب الحقيقي وراء ذلك.

في حقيقة الأمر، لا يؤثر الهيليوم نهائيًا على طبيعة أصوات الأشخاص ولا أحبالهم الصوتية نفسها. وإذا تمكنت من قياس طول الأحبال الصوتية لأحدهم بعد استنشاقه للهيليوم، ستجدها مطابقة لطولها قبل الاستنشاق. لكن، ينشأ التأثير المضحك للهيليوم على الأصوات من حقيقة فيزيائية وهي أن سرعة الصوت خلال مروره في الهيليوم تزيد كثيرًا عن سرعته عند مروره في الهواء، وهو ما يسبب الحدة المثيرة للسخرية للأصوات بعد استنشاق أحدهم للغاز الخامل الخفيف.

لكن هل يفتقر الهيليوم بالفعل للأهمية العلمية وينحصر نشاطه على إثارة الضحك؟، الحق أن الهيليوم يمتاز بخواص متطرفة تجعله من المواد شديدة الأهمية سواء للبحث العلمي أو الصناعات المتقدمة. تستغل المفاعلات النووية توصيلية الهيليوم العالية للحرارة لتستخدمه كمبرد كما تفعل صناعات الموصلات الفائقة وصناعات إسالة الغازات الأخرى. يأتي كذلك خموله الكيميائي الشديد كهدية لصناعات شاشات العرض البللورية السائلة التي تحتاج –لحساسيتها البالغة- أجواءً تامة الخمول ليتم تصنيعها.

في النهاية، مثّل الهيليوم ثمرة شغف جانسين العميق بالسماء وشغف رامزي بالجديد، وشغف البشرية بفهم ما قد لا يمكن لمسه، كذلك عبّرت قصته عن خطر تمسك الإنسان بأفكاره القبلية ورفضه للنتائج الثورية حتى وإن دعمتها النتائج المعملية، تلك الموضوعات الأساسية التي لطالما تمركزت في قلب التاريخ العلمي وتحكمت بمساره.


*طيف الامتصاص: عند مرور شعاع ضوئي خلال غاز، تقوم ذرات الغاز بامتصاص جزء من الأطوال الموجية المكونة لهذا الشعاع. عند مقارنة الأطوال الموجية للشعاع بأكمله مع الأطوال الموجية التي مرت من خلال الغاز، تظهر خطوط سوداء تعبر عن امتصاص الغاز. لكل عنصر طيف محدد يتم قياسه، وفي حالة فحص مادة تتكون من مخلوط من العناصر يتم مقارنة خطوط امتصاصها بالخطوط الخاصة بكل عنصر فيما يعرف باسم absorption spectroscopy.

المراجع
  1. Catherine Housecroft, Alan G. Sharpe-Inorganic Chemistry (3rd Edition)
  2. Helium: The Disappearing Element -Wheeler M. Sears, Jr.
  3. The Noble Gases – Isaac Asimov