«أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادّة فلم يشعر بألمها لشدة هولها»
سعد زغلول في مذكراته، معلقاً على خبر رحيل اللورد كرومر عن مصر

هُزم جيش الزعيم أحمد عرابي هزيمة منكرة في معركة التل الكبير 1882م التي مهّدت لوقوع مصر في الشبكة الاستعمارية البريطانية، وكان لتلك الهزيمة المصيرية آثارها على الحركة الوطنية المصرية، فقد شعرت باليأس الشديد واعتبرت أن حركة وطنية تكون فيها الحناجر أقوى من السلاح هي بمثابة معارك دون كيشوتية تطارد طواحين الهواء، وارتدّت على آثار تلك الهزيمة الكثير من الرموز الوطنية لعل أبرزهم الأستاذ محمد عبده ومدرسته الذين كفروا بالسياسة، على حد قول محمد عبده ذاته، واختاروا المواءمة.

بريطانيا بدورها ادعت أن احتلالها لمصر هو مجرد احتلال مؤقت لن يطول، غرضُه تنظيم الخزينة المصرية وحماية مصالح الدائنين، وظلت تتخذ من أحداث الصراع الأوروبي الاستعماري كذرائع وحجج لتبرير طول مدة إقامتها، حتى قامت الحرب العالمية الأولى والتي أعلنت فيها بشكل تام الحماية على مصر، وفي الواقع لم تكن تلك الحماية تأتي بجديد سوى انفصال رسمي بين مصر والدولة العثمانية، أما دون ذلك، فقد كانت بريطانيا تحكم مصر منذ أن احتلتها، وقد رسمت خطوطها بما يتوافق مع مصالحها.

جذبت تلك المصالح فئات من المصريين الذين توافقت مصالحهم مع مصالح الاستعمار، وهو ما يبرر كثيراً من مواقف الرموز الوطنية المصرية قبل اختمار شعورهم الوطني مع قادة الاستعمار البريطاني في مصر، ولعل أبرز تلك العلاقات، كانت علاقة الزعيم سعد زغلول باشا واللورد كرومر المندوب السامي لبريطانيا في مصر، والتي تؤخذ على سعد زغلول كثيراً من منتقديه، وفي واقع الأمر لم تكن تلك العلاقة شذوذاً عما ساد ووسم البورجوازية المصرية آنذاك، والتي ازدادت قوة بسبب الاحتلال البريطاني لمصر.

كرومر وسعد الجيروندي

لقد رأى كرومر في أسماء وطنيين بأعينهم أنهم مجموعة من الجيروند- فصيل معتدل في الثورة الفرنسية- يمكن التفاهم معهم، فمشاريعهم الإصلاحية للبلاد تدور في فلك لا يتعارض مع مصالح الاحتلال البريطاني، وكان على رأس هؤلاء الشيخ محمد عبده وسعد زغلول باشا وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين.

لذلك نرى آراء كرومر في هؤلاء تثني عليهم وعلى أفكارهم، ونرى من كتاباتهم وعلاقتهم الشخصية به إنهم تمتعوا بعلاقة هادئة معه وتفاهمية على الدوام، وعلى الناحية الأخرى كان هناك فصيل من المعارضة الراديكالية التي كرهها كرومر، تمثّلت في الزعيم مصطفى كامل وميوله الخديوية العثمانية، ولذلك كان يرى مصطفى كامل في هؤلاء الذين على الناحية الأخرى مجموعة من الخونة والمتواطئين، حتى أنه كتب في وزارة سعد زغلول للمعارف عام 1906م الآتي:

إن الناس قد فهموا الآن بأوضح مما كانوا يفهمون من قبل لماذا اختار اللورد كرومر لوزارة المعارف العمومية صهر رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا الأمين على وحيه الخادم لسياسته وفهمت الناس الآن أن سعد زغلول شديد الميل إلى السلطة.

كان ذلك تعقيباً على أداء سعد في وزارته والتي اتسمت بموقفٍ قمعي تجاه الحركة الطلابية، وقد شهد الطلبة كثير من الاضطهاد والعنت على يديه، وقد وقف أيضاً ضد اقتراح الجمعية العمومية بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية بدلاً من الإنجليزية.

بيد أنه يبدو من البحث في أدبيات ذلك العصر، أن منهج سعد في التقارب مع كرومر وسياسات الاحتلال البريطاني في مصر لم يكن مرفوضاً ومنبوذاً، فنحن نرى تفسيراً آخر في مذكرات السياسي المصري أحمد شفيق باشا عندما عُين سعد وزيراً للمعارف.

ففي أعقاب حادثة دنشواي التي زلزلت الرأي العام في البلاد، حاول كرومر أن يميل مع العاصفة فوقع اختياره على سعد وزيراً للمعارف، والسبب كان لما عرف عن سعد من نزعته الوطنية. وكان تعيينه بمثابة ذر للرماد في العيون، وإرضاءً للوطنيين، وكان تعليق أحمد شفيق باشا في كتابه «مذكراتي في نصف قرن» أن تعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف كان لتقوية مركز كرومر بعد دنشواي.

كان واضحاً إعجاب كرومر بسعد زغلول وما يمثله فصيله ونهجه السياسي من اعتدال يمكن التفاهم والتعامل معه على الدوام، وهو ما أكد عليه كرومر في خطبة حفلة وداعه قائلاً:

إني أذكر أيها السادة اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب لكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احتراماً عظيماً، وإذا أجاب ظني ولم أخطئ، يكون أمام ناظر المعارف الجديد سعد زغلول باشا مستقبل عظيم في خدمة هذه البلاد ومنفعتها، لأنه حائز لجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده، فهو رجل صادق كفء مستقيم مقتدر، بل رجل شجاع فيما هو مقتنع به، وقد احتمل الطعن والذم من كثيرين دونه بمراحل من أبناء وطنه، وهذه صفات سامية لا شك أن صاحبها يتقدم كثيراً.

كان ذلك الفصيل محسوباً في أغلبه على حزب الأمة، أو تلاميذ الإمام محمد عبده، الذين تبلوروا في شكل الحزب عام 1907م وكان ذلك الحزب يهدف إلى صياغة قومية مصرية خارجة عن فكرة الجامعة الإسلامية التي كان يروج السلطان العثماني ومصطفى كامل، وقد رأى كرومر في رجال هذا الحزب الذي أسسه أحمد لطفي السيد أنهم: «مجردون عن صبغة الجامعة الاسلامية، ورجاء القومية المصرية بمعناها الحقيقي معقود على هذا الحزب».

كان حزب الأمة وأتباع الإمام على رأسهم سعد زغلول ممن يؤمنون بالتعاون مع البريطانيين في إصلاح الإدارة، ويتعارض في ذلك مع راديكالية مصطفى كامل، ويرى المؤرخ عبد العظيم رمضان أنه ليس من السهل على الباحث الحكم على أحد المبدأين بالخطأ أو الصواب فإذا كان خروج الإنجليز عملاً صعباً ويستغرق وقتاً طويلاً ولا يتم إلا باتفاق الدول الكبرى، فهل من الحكمة مقاطعتهم وترك مقاليد الحكم في أيديهم؟ أم يكون من الأصوب مشاركتهم ورفع أضرارهم قدر الإمكان، ومعاونتهم في الإصلاح، ووضع أيديهم على مواطن العلل.

ولأن كرومر كان قد بدأ في بعض الإصلاحات الجزئية، فقد شكل بالنسبة للمثقفين المصريين آنذاك، والذي كان يشكل صالون الأميرة نازلي فاضل حلقة اتصال مباشرة بينه وبينهم، ومن خلاله تكونت علاقته بسعد زغلول، شكل رمزاً للإصلاح والقطيعة مع الماضي الاستعبادي للفلاح المصري، وذلك يعود لسياسات بريطانيا التي طبقتها والتي سنعود إليها فيما بعد.

إذن، كانت نظرة حزب الأمة إلى الاحتلال أنه عرض وليس مرضاً، ومجرد ترجمان لضعف الأمة وترديها في مهاوي الجهل، وتخلفها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وارتقاء حال الأمة هو الذي سيؤدي بها إلى زوال ذلك الاحتلال، لذلك آمن حزب الأمة ببناء الأمة أولاً، قبل النضال ضد الاحتلال.

اليعاقبة

إن كانت تسمية كرومر لمدرسة أتباع الإمام بالجيروند، فهذا معناه أنه رأى في كل من يخالف طريقتهم أنهم يعاقبة- التيار الأكثر تطرفاً وراديكالية في الثورة الفرنسية- وقد كان زعيم هؤلاء اليعاقبة في مصر بلا شك هو الزعيم مصطفى كامل.

كان المبدأ الذي سنه مصطفى كامل لأتباعه في الحزب الوطني هو عدم التعاون المطلق مع الاحتلال، وقد رأى أن مشاكل الأمة هي انعكاس لطبيعتها المحتلة وليس لخلل في أبنائها وثقافتهم، فقد كان يرى أن الاحتلال هو علة العلل، وأن إزالته هي إزالة العائق الذي يعرقل التقدم في مصر، فمتى تخلصت التجارة من الشلل الذي يسببه لها الاحتلال فستفتح لمصر آفاقاً ذهبية، ومتى تخصلت الصناعة من العوائق التي يخلقها الإنجليز في الجمارك لغاياتهم، فسترقى الصناعة الأهلية وتعود فائدة رفاهيتها على أبناء مصر.

لقد كانت أفكار مصطفى كامل الرافضة هي التي راقت إلى أذهان الشعب، فلم تحظ أيديولوجية القومية المصرية التي مثلها حزب الأمة باعتناق يماثل اعتناق أيدلوجية الجامعة الاسلامية التي كان يروج لها الحزب الوطني، وذلك لما تحمله الفكرة من بساطة بالنسبة لمجتمع عاش طول عمره إسلامياً، في ظل نظام يسمى الخلافة.

والمثير للسخرية أن الزعيمين اللذين تبجلهما المظاهر الوطنية في مصر الآن، لم يكونا أبداً على وفاق، ولم يحترم أحدهما الآخر، فقد رأينا قلم مصطفى اللاذع في حق سعد زغلول حين تسلم الوزارة وكيف اعتبره عميلاً للاحتلال، وسعد زغلول هو الآخر وإن لم يبد رأيه صراحةً في مصطفى كامل، فإن نظرته له تبدو واضحة في مذكراته حينما يتحدث عن يوم وفاته دون أي جلل يذكر، وبنبرة يشوبها عدم الاكتراث بأهمية الحدث.

لقد كان الخلاف بين الحزبين في النهاية خلافاً يمكن تشبيهه بأن لكل شيخ طريقة، وفي النهاية أكيد أن ظهورهما في تلك الحقبة كان مفيداً للحركة الوطنية المصرية التي ستكمل الكفاح بدءاً من ثورة 1919م بناء على خليط من آثار الحزبين، فالحزب الوطني غرس بذرة الكراهية للاحتلال ومقاومته في نفوس الشعب، وحزب الأمة ثبّت بدوره أُسس القومية المصرية التي تسعى للاستقلال عن كل من تركيا وبريطانيا، أي أنه بينما كان عمل الحزب الوطني قائماً على هدم الاحتلال، كان عمل حزب الأمة قائماً على بناء أساس مصر الحديثة المستقلة.