أثبتت دراسات سابقة أن الفئران المصابة بطفيل يدعى «التوكسوبلازما» اختبرت تغيرات سلوكية سهّلت اقتناص القطط لها، شملت تلك التغيرات فقدان الفأر غريزة الخوف من القطط، وعدم نفوره من رائحتها، عُرفت جوانب الظاهرة تلك باسم «الانجذاب المميت».

دعني أخبرك أولاً عن طفيل «التوكسوبلازما»، حيث إن عائله الأساسي هو القطط -أو عائلة السنوريات للدقة- لكن الطفيل قد يحمله وسيط آخر كالإنسان أو حيوانات كالفئران، التوكسوبلازما كما غيره من الطفيليات يلجأ إلى «فرضية التلاعب السوكي»، وهي آلية متعارف عليها طبياً، تنص أن بإمكان هذا الطفيل الضعيف وحيد الخلية وغيره من الطفيليات، إحداث تغيرات في أدمغة العائل الوسيط، تُسهل في النهاية وصوله إلى عائله الرئيس، وفي حالتنا تلك تتغير تراكيب أدمغة الفئران الحاملة للطفيل، مُنتجة تغيرات سلوكية، تُسهِّل عملية اقتناص القطط للفأر المريض، مما يؤدي إلى انتقال التوكسوبلازما لأجسام القطط مُجدداً، ممهدة الطريق لتكاثرها وانتشارها على نطاق أوسع داخل عائلها الأساسي.

لا تتوقف التغيرات السلوكية تلك على الفئران فقط، بل تمتد لتشمل الإنسان كذلك، فالتوكسوبلازما جعلت الإنسان يقوم بأفعال غريبة هو الآخر. كأن يرسم القطط مثلاً.

لوحة قواعد نادي الفئران للفنان لويس ويليام وين
بلغ ولع «لويس وين» بالقطط الحد الذي جعله يلقب بالرجل الذي يرسم القطط

طفيل وحيد الخلية يقوم برسم اللوحات

يعتبر «لويس وين» أبرز فناني العصر الفيكتوري، ومن أشهر فناني التاريخ الذين عنوا برسم القطط. رسم وين القطط للمرة الأولى عقب مرض زوجته الشديد بسرطان الثدي، في محاولة منه للتخفيف من مصابها، حين لاحظ ولعها بقط شارع ضال كان قد أحضره وين للمنزل وسموه «بيتر».

في لوحاته الأولى كان بيتر محور الاهتمام، ونجح لويس وين في دفع السمعة السيئة التي اكتنفت القطط في إنجلترا آنذاك. في لوحاته لعبت القطط الجولف، احتست الشاي، كُن أمهات، دخن السجائر وذهبن إلى الأوبرا. تميزت قطط وين بالتعابير الإنسانية، فرسوماته أعطت القطط شخصيات مستقلة، ما أضفى طابعاً مرحاً عليها.

لوحة السنور المشاغب رسمها لويس وين
لوحة «السنور المشاغب»، رسمها «لويس وين» عام 1898

لكن ظل هناك لغز ما يكتنف رسومات لويس وين، ويلقي عليها هالات من الغموض. ففي عام 1924، وتحديداً داخل أروقة مستشفى بجنوب لندن، احتُجِز لويس وين داخل جناح الطب النفسي لمرضه العقلي الذي نعتقد حالياً أنه كان السكيزوفرينيا (الفصام)، وهو مرض عقلي يُغيِّر من منظور الشخص للعالم، ويُسبّب تشوهاً في الإدراك، كأن يختبر المصاب هلاوس بصرية أو يصدق في أفكار جنون العظمة.

كثُرت النظريات عن فصام وين، رأى بعضها أن طفيل التوكسوبلازما هو السبب، وأنه قد أصاب وين جراء اختلاطه بالقطط، مسبباً له نوبة الفصام تلك. يُقدر أن ثلث سكان العالم مصابٌ بالتوكسوبلازما لكن على الأغلب يسبب الطفيل أعراضاً صامتة، كأن تزيد نسبة ارتكاب حوادث السيارات أو الإصابة بالأمراض العصبية كالباركنسون وألزهايمر والفصام، أو حتى فرص الانتحار لدى هؤلاء المصابين بالطفيل. وبالنسبة للمرضى أصحاب الأعراض الظاهرة، تزيد احتمالية الإصابة بالخَرف. وفي كل الحالات اتضح أن الطفيل يمكن أن يُسبب التغيرات السلوكية لدى الفرد المصاب.

اتجاه طبيعة رسومات لويس وين إلى التجريدية عقب إصابته بالفصام
اتجاه طبيعة رسومات «لويس وين» إلى التجريدية عقب إصابته بالفصام

مجرد فرضيات!

لم يكف وين عن رسم القطط داخل المصحة، على العكس من ذلك تمامًا، تطور رسمه من قطط ذات وجوه مبتسمة مرحة، إلى رسومات مُجردة هندسية كثيرة الألوان، حتى إن بعضها صار تمييز ملامحها مستحيلاً، وفي نهاية أيامه بدأت أشكال القطط تتخذ أنماطاً متكررة.

آمن معظم الأطباء أن تغير طبيعة رسومات وين عبرت عن تدهور حالته النفسية، وأن تلك التعديلات التي طرأت على رسوماته ربما انعكست من اختلافات ناشئة في بنية وتراكيب دماغه، لكن البعض أيضاً يرى ذلك مجرد فرضية، لأن لويس وين استمر في رسم القطط الكلاسيكية حتى بعد إصابته، ومنها أشهر لوحاته «أنا سعيد لأن الجميع يحبني»، التي رسمها بعد دخوله المصحة بعدة سنوات. فرغم بساطتها لاقت استحساناً من الجميع، ربما لطابع الحزن الذي يستشعره من ينظر إليها، والذي عبر عن حزن لويس وين آنذاك، رغم جهوده البادية في إخفاء ذلك.

لوحة أنا سعيد لأن الجميع يحبني لويس وين
لوحة «أنا سعيد لأن الجميع يحبني» التي عكست حزن «لويس وين» في أواخر حياته

هل كان جسد لويس وين للتوكسوبلازما كما الإنسان الآلي، ينتظر من يتحكم في رأسه؟ أم أن الطفيل أحدث الفصام وكانت تصرفات لويس وين الغريبة نتيجة مرضه العقلي؟ أم أن الأمر برمته محض صدفة ومجرد تزامن وليس سببية؟

لسنا ندري، لكننا نعلم أن لويس وين ليس الوحيد، وأن فنانين غيره اختبروا الأمر ذاته. فان جوخ كان أحدهم.

فان جوخ وأمراضه العقلية: أكان الرسم إحداها؟

نعلم أن فان جوخ مشهوراً جداً، لكننا لا نعلم سبب شهرته تلك على وجه التحديد، ربما جاءت شهرته نتاج الفجوة الكبيرة ما بين حياته البائسة ولوحاته التي لم يُعرها أحدٌ اهتماماً خلال حياته، وبيعت في مزادات بالملايين عقب انتحاره. ربما لاقى جوخ تعاطف الناس بسبب رسائله ذات الطابع المأساوي الرقيق، وربما فعلاً بسبب لوحاته وأسلوبه الفريد.

اتسم أسلوب جوخ بالغرابة في اختياره الفرشاة الغليظة والألوان الساطعة، فجاءت خشونة لوحاته رمزاً مُعبراً عن كثافة المشاعر التي اختلجته آنذاك.

لم تظهر في لوحات جوخ، المشاعر فقط، بل ظهر أيضاً الدافع وراء تلك المشاعر، أمراضه العقلية.

من المستحيل الجزم بتشخيص نفسي لإنسان عاش قبل قرن ونصف من خلال رسوماته وبعض الأعراض النفسية داخل رسائله والقليل من آراء المقربين منه، لكن «مارشال سانشيز» الطبيب النفسي بمركز العلوم الصحية لدى جامعة تكساس في هيوستن، يَعزُو غرابة أطوار فان جوخ إلى عدة اضطرابات نفسية، شكلت شخصية جوخ ونظرته إلى العالم.

استناداً إلى نوبات الاكتئاب والهوس التي وشت بها رسائل جوخ، وما عُرف عنه من فترات النشاط الزائد التي أتبعتها فترات اكتئاب وخمول شديد، رجح مؤرخو الفن- المختصون بدراسة الأمر- إصابته باضطراب ثنائي القطب. وفي تقارير أخرى في بداية الألفية الحالية، قدم أطباء نفسيون تحليل لشخصية فان جوخ لإصابته باضطراب الشخصية الحدية، لوجود أعراض كالاندفاعية، وإدمان الكحوليات، واهتزاز صورته الذاتية، والخوف الشديد من الهجر، وقد أيّد الباحثون هذا التشخيص لقصور اضطراب ثنائي القطب وحده عن تفسير أعراض فان جوخ مجتمعة.

لوحة ليلة مرصعة بالنجوم فان جوخ
لوحة «ليلة مرصّعة بالنجوم»، أشهر لوحات فان جوخ

«ليلة مرصعة بالنجوم»: هل فان جوخ من رسمها فعلاً؟

ربما تفوق لوحة «ليلة مرصعة بالنجوم» في شهرتها فان جوخ نفسه، فحتى هؤلاء ممن لا يعرفون شيئاً عن الرسام، قد رأوا في وقت ما في حياتهم تلك اللوحة في مكان ما.

وبمنأى عن بواعث اللوحة في نفس الناظر إليها، تُرسِل اللوحة كذلك إشارات أخرى عن مرض فان جوخ النفسي؛ تفاصيل صغيرة لم يُرد جوخ أن يُوردها في اللوحة لكنه فعل على مستوى لا واعٍ، فجاءت تفاصيل اللوحة هكذا:

التفاف النجوم والرياح في سماء لوحة ليلة مرصعة بالنجوم
التفاف النجوم والرياح في سماء لوحة «ليلة مرصعة بالنجوم»

1. السماء والهوس

في الطب النفسي، تُعرَف حالة الهوس بأنها حالة من النشوة، يختبر فيها المريض الأشياء بطريقة لا واقعية ومبالغ فيها، للحد الذي يجعله أحياناً يرى الهلاوس. وتعتبر حالة الهوس أحد شقي اضطراب ثنائي القطب الذي عاناه جوخ.

رسم ڨان جوخ خلال مسيرته الفنية القصيرة نحو 860 لوحة زيتية، معظمها في عاميه الأخيرين، وهو أمر ربما يكون الشاهد الأول على نشوته ورغبته في إظهار نفسه، لكن تفصيلاً آخر في لوحته تُظهِر هذا الهوس، وهو منظر السماء.

في منظر السماء لجوخ تبرز النجوم والرياح، إذ استغرق جوخ في التفافها، ربما لغرضٍ فني، وربما كانت تلك نظرته المشوهة عن الواقع، أحدثها مرضه.

استخدم جوخ الألوان الساطعة فجاءت معبرة عن كثافة شعوره
استخدم جوخ الألوان الساطعة فجاءت معبرة عن كثافة شعوره

2. «النفسحركية» وضربات الفرشاة

استخدم فان جوخ أسلوباً في الرسم يُدعى «إمباستو»، وهي كلمة إيطالية تعني «الملمس»، ويقوم على وضع طبقة غليظة من الطلاء على أرضية اللوحة، ويسعى الرسّام لجعل عناصر اللوحة بارزة، فتعطي انطباعاً أن الرسم يخرج مُغادراً اللوحة.

عُدّت آثار الفرشاة العنيفة توقيعاً خاصاً لجوخ، لكنها قد لا تزيد على كونها سمة «نفسحركية»، أي تعبير حركي لما يدور في نفس الفنان، فاستخدام جوخ للفرشات الغليظة أفشى رغبته في التعبير دون قيود، وأضاف امتزاجها بالألوان الساطعة جرأةً إلى حريته.

عُرف هذا الاتجاه الفني بعد ذاك باسم «ما بعد الانطباعية»، إذ إن ألوان وملمس الرسمة، يفوقان محتواها نفسه، في التعبير عن الشعور الغائر خلف كواليس رسمها، وقد يكون ثقل طبقات الطلاء وخشونة الفرشاة المستخدمة لا لشيء إلا للتماشي مع كثافة مشاعر الفنان لحظة الرسم.

الكنيسة المُطفأة تتوسط أضواء البيوت
الكنيسة المُطفأة تتوسط أضواء البيوت

3. مرحلة الاكتئاب في حياته

في أسفل اللوحة، رسم جوخ بيوتاً مضاءة، تتوسطها كنيسة مطفأة الأنوار، عبرت الكنيسة عن مرحلة في حياة فان جوخ حين قوبل طلبه للتدريب الديني بالرفض، واختار جوخ أن يجعل الكنيسة مُطفأة للتعبير عن سواد تلك الفترة في حياته، فهي من أول المواقف التي تعرض فيها للرفض، وبدأت منها مرحلة الاكتئاب التي تمثل نصف مرضه، فالاكتئاب هو الشق الآخر لاضطراب ثنائي القطب.

وبعيداً تماماً عن مرضه النفسي، ذهب محللون بالاتجاه المضاد تماماً، فرأى البعض أن فان جوخ أُصيب بمرض عصبي، أثر على رؤيته، وجعله يرى العالم مُلوناً بالأصفر. رأى البعض أنها مرض «صُفرة المرئيات» Xanthopsia، وهي حالة مرضية تُصيب العين نتيجة خلل كيميائي في التفاعلات الحيوية، تجعل المريض يرى العالم باللون الأصفر، فيما ذهب آخرون إلى أن السبب إفراط فان جوخ في شرب «الأفسنتين»، وهو أحد أنواع الكحوليات الذي قد يُسبِّب الرؤية الصفراء.

«كل الطرق تؤدي إلى روما»، فلا يهم إذا كان سبب أسلوب فان جوخ مرضاً عضوياً، أو أنه أضفى أعراضه النفسية على لوحاته، لا نعلم على وجه اليقين مرضه النفسي، ولسنا متأكدين تماماً ممّا إذا كان هذا المرض قد لعب دوراً كبيراً في لوحاته، أو أنه عامل صغير من ضمن عوامل عدة. بتعبير آخر، لسنا ندري فعلاً هل حقاً رسم فان جوخ كل هذه الروائع؟ أم أن «اضطرابه النفسي» كان يعبر عن نفسه للعالم؟

حين صرخ إدوارد مونش

عانى الرسام النرويجي الشهير «إدوارد مونش» في أواخر حياته من مرض في عينه اليمنى، إذ إنه لسبب مجهول عانى من نزيف أثر على قرنية عينه اليمنى، وتسبب في ضعف نظره في العين التي طالما استخدمها للرسم.

تكتّل الدم في عين الرسّام مكوِّناً أشكالاً ونقاطاً صارت تسطو على رؤيته للبيئة من حوله. أثّر مرض مونش عليه من مسارين، من جهة صار يرسم لوحات يرثي فيها نفسه أو يرسم عينه المريضة، ومن جهة أخرى قام مونش برسم الأشكال الزائدة الغريبة التي رأتها عينه نتيجة المرض بينما لم يرها الآخرون من حوله.

كان إدوارد مونش على دراية بتأثير مرضه البصري عليه، وسرعان ما تعافى من ذلك التأثير، لكنه هو الآخر -كما البقية- عانى مرضاً عقلياً طبع لوحاته بطابعه الخاص. حيث عانى مونش من القلق والاكتئاب، وتدور الشكوك حول إصابته بالفصام، أو ربما اضطراب ثنائي القطب، إذ تعج مذكراته بكثير من الهلاوس السمعية والبصرية.

لوحة الصرخة إدوارد مونش
لوحة «الصرخة»، لـ «إدوارد مونش»، ثاني أشهر لوحة في التاريخ
كنت أسير في الطريق إلى جانب صديقي وقت الغروب، حين صارت السماء فجأة بلون الدم. انحنيت إلى سياج وقد غلبني التعب، ورأيت السحب الملتهبة تقطر دماً فوق جرف البحر الأزرق المائل للسواد. استمر صديقاي في السير لكني توقفت من الخوف، ومن ثَمَّ سمعت صرخة، أخذ يتردد صداها في الطبيعة.

هكذا حكي إدوارد مونش كيف اهتدى للوحته الأشهر، «الصرخة».

بدا واضحاً أن مونش كان يُهلوِّس، وأن شيئاً مما حكاه في هذا الموقف لم يكن صحيحاً، عكف مونش في الثمانية عشر شهراً التالية يرسم لوحته تلك اعتماداً على الهلوسة التي لم يرها أحدٌ سواه. نعم، صدق أو لا تصدق، كانت لوحة الصرخة نتاج الهلاوس التي سببها مرض إدوارد مونش النفسي، ولولا مرضه هذا لكانت اختفت الآن ثاني أشهر لوحة في التاريخ.

الفنان مُسير أم مخير؟

حتى الآن لا نعلم على وجه التحديد ما الذي أصاب لويس وين، هل كان الفصام حقاً؟

ربما.

هل كان طفيل التوكسوبلازما سبب الفصام؟

ربما أيضًا.

هل كانت رسومات لويس وين نتاج قريحته الخاصة؟ أم كانت أنماطاً أملتها عليه السكيزوفرينيا؟

هل كان وين مصاباً بالخرف؟ أم كانت متلازمة أسبرجر؟

لم نعرف التفسير بعد.

ماذا عن فان جوخ؟ هل تعمّد صنع أسلوبه المتفرد هذا؟ أم كانت المشاعر هي منْ تُمسِك فرشاته؟

هل لجأ فان جوخ للرسم ليُخفف من معاناته؟ أم كانت المعاناة هي من تقود زمام فنه؟

أكانت الصرخة حقاً لإدوارد مونش، أم ذاك مرضه يصرخ في وجه العالم؟

في الواقع، لم نعرف الحقيقة بعد، ويبدو أننا لن نعرفها أبداً، ربما سنقف مشدوهين قروناً أمام إبداعاتهم محاولين سبر غموضها، ربما سيكتشف أحفادها في المستقبل أدلة جديدة تُرجِّح إحدى كفتيّ الميزان. بيد أننا حتى الآن لا نعرف منْ رسم هذا حقاً؛ أكان الفنان أم كان المرض؟ لا نملك الجواب الحاسم، لكننا على الأقل نملك بعض الشكوك، والآن صرنا نعرف أن المرض النفسي يفعل الكثير، وأنه في بعض الحالات ربما يمكن للمرض أن يرسم اللوحات!