محتوى مترجم
المصدر
The H. P. Lovecraft Archive
التاريخ
2009/08/20
الكاتب
هوارد فيليبس لافكرافت

ذكرياتي مشوّشة جدًا. لدي شك كبيرٌ من أين تبدأ؛ إذ أحيانًا أشعرُ بمشاهد مُرَوّعة للسنوات الممتدة خلفي، بينما في أوقات أخرى تبدو لي اللحظة الراهنة نقطة منعزلة في لا نهائية رمادية عديمة الشكل.

أنا لستُ متأكدًا حتى كيف أوصل هذه الرسالة. فبينما أعرف أنني أتحدث، لدي انطباع مُبهم بأن هناك حاجة إلى بعض الوساطة الغريبة وربما الرهيبة لتَحْمِلَ ما أقول للنقاط التي أود أن أُسْمَع فيها. هويتي، أيضًا، غائمةٌ بشكل مربك. يبدو أنني أعاني من صدمة كبيرة، ربما بسبب الأثر البشع تمامًا لدوامات تجربتي الرهيبة.

دوامات التجربة هذه، بالطبع، كلها تنبع من ذاك الكتابُ المليء بالدود. أتذكر أين وجدته، في مكان خافت الإضاءة قرب النهر الأسود الزيتي الذي يلفّه الضباب دائمًا. كان هذا المكان قديمًا جدًا، والأرفف المرتفعة حتى السقف الممتلئة بالمجلدات المتعفنة تتصل ببعضها بلا نهاية عبر جدران وتجاويف الغرفة الخالية من النوافذ.

كانَ الكتابُ هناك، بجانب أكوام لا شكل لها من الكتب على الأرض وفي صناديق غير مصقولة؛ كان في هذه الكومة التي وجدت فيها الشيء. لم أعرف أبدًا العنوان، لأن الصفحات الأولى كانت مفقودة؛ لكنه سقط مفتوحًا على نهايته وأعطاني لمحةً عن شيءٍ ما جعل حواسي تترنح.

كان هناك صيغةً –نوع من قائمة بأشياء لكي تقال وتفعل- بدت لي سوداوية ومحُرّمة؛ شيئًا قد قرأت عنه من قبل في فقرات مختلسة هي خليط من الاشمئزاز والافتتان خطها هؤلاء المنقبون القدماء الأغراب في أسرار الكون المحمية والتي أحببت نصوصهم المتحللة تلك حتى استحوذت عليّ.

لقد كانت مفتاحا –دليلا – إلى بوابات وتحويلات، حَلِمَ وهَمَسَ بها المتصوفون منذ أن كان جنسنا صغيرًا، والتي قادت إلى التحرر والاكتشافات لما وراء الأبعاد الثلاثة وعوالم الحياة والأشياء التي نعرفها. ولمدة قرون لم يذكر أي إنسان جوهرها الأوليّ أو يعرف أين يجدها، لكن هذا الكتاب كان قديمًا جدًا بكل تأكيد. لا آلة طابعة، لكن يد راهب ما شِبه ممسوس، رسمت هذه العبارات اللاتينية المشؤومة في مخطوطات من العتاقة المذهلة.

أذكرُ كيف شَزَرَ وضحك الرجل العجوز في فتور، وقام بإشارة مثيرة للفضول بيده عندما تناولت الكتاب. رفض أن يأخذ مالًا مقابله، فقط بعدها بفترة خمنت لماذا. وبينما أهرع للمنزل خلال تلك الضفاف الضيقة العاصفة المتشحة بالضباب كان لدي هذا الانطباع المخيف بأن هناك أقدامًا خفيفة مبطنة تتبعني خلسة. البيوت المترنحة التي تعود لقرون على الجانبين بدت حيةً وبضغينةٍ طازجة ومَرَضيّة، كما لو أن سبيلًا من الفهم الشرير كانت مغلقة حتى الآن وفُتِحَت فجأةً.

شعرتُ أن هذه الجدران، والأسقف المُهدِدِة من القرميدِ المتعفن، والجص الممتلئ بالفطريات، وألواح الخشب –تنظر شزرًا بألواح زجاج نوافذها الكريستالية التي تبدو كالعيون – تُحْجِم بصعوبة عن التقدم والقيام بسحقي.. ولكنني كنت قد قرأت فقط شذرة صغيرة من تلك الطلاسم التجديفية قبل أن أغلق الكتاب وأحمله بعيدًا.

أتذكر كيف قرأت الكتاب أخيرًا، بوجهٍ شاحب، ومحبوس في عُلّيِّة عكفت فيها طويلًا على عمليات بحث غريبة. البيتُ الكبير كان ساكنًا، لأنني لم أصعد إلى أعلى حتى منتصف الليل. أعتقد – لأن التفاصيل غير مؤكدة تمامًا – أنني كان لدي عائلة وقتها، وأنا أعرف أنه كان هناك العديد من الخدم. فقط متى كانت السنة لا أذكر؛ إذ إنني منذ ذلك الحين عرفت أعمارًا وأبعادًا عديدة، وكل مفاهيمي عن الزمن قد تحللت وأعيد تشكيلها.

قمت بالقراءة على ضوء الشموع – أتذكر تَقَطُّر الشمع العنيد – وكانت هناك دقات تأتي بين الحين والآخر من أبراجٍ بعيدة. بيد أنني تتبعت هذه الدقات بإصرار ٍ غريب، كما لو أنني خشيت أن أسمعَ نغمةً متطفلة تأتي من بعيد بينهن.

ثم أتت أولى الخربشات والاضطرابات عبر النافذة الناتئة من العُلّيِّة، والتي نظرت من خلالها لأعلى إلى أسطح بيوت المدينة. أتت ما أن قرأت الجملة التاسعة من تلك المقاطع البدائية، وكنت أعرف بواسطة ارتجافاتي ما يعنيه هذا. لأن من يمر عبر البوابات دائمًا ما يظفر بظلٍ، وأبدًا لن يكون وحيدًا مجددًا. لقد استحضرت شيئًا ما، والكتاب كان بكل تأكيد المشتبه به في ذلك. تلك الليلة عبرتُ البوابة إلى دوامة ملتوية من الزمن والرؤى، وعندما وجدني الصباح في العلية رأيت الجدران والأرفف والمعدات التي لم أكن قد رأيتها من قبل أبدًا.

لم يعد باستطاعتي أبدًا أن أرى العالم كما عرفته من قبل. مختلطًا بالمشهد الحالي، كان هناك دومًا قليل من الماضي وقليل من المستقبل، وكل غرض كان مألوفًا ذات مرة، غدا دخيلًا في المنظور الجديد لنظري المتوسع. من الآن فصاعدًا أسير في حلم بديع من أشكال نصف مألوفة؛ ومع كل بوابة جديدة أعبرها أتعرف بألمٍ أقل على أشياء من المجال الضيق الذي كنت مقيدًا به لفترة طويلة. ما رأيتُهُ عني، لم يره أحدٌ غيري؛ نما لدي صمتٌ وحذرٌ خشية أن يُظَنَ أنني جُننت. خافت مني الكلاب، لأنهم شعروا بالظل الخارجي الذي لم يغادرني قط. لكني ظللت أقرأ أكثر –في كتب ومخطوطات خفية، منسية، قادتني لها رؤيتي- ودُفِعتُ عبر بوابات جديدة من المكان والوجود والحياة –أنماطٍ نحو جوهر الكون المجهول.

أتذكر الليلة التي صنعت فيها الخمس الدوائر النيرانية أُحادية المركز على الأرض، ووقفت بمنتصف الأكثر قربًا للمركز أرتّل تلك الصلاة الوحشية التي جلبها الرسول من تارتاري. ذابت الجدران، وجرفتُ أنا بريح سوداء عبر لُجاج دوامات رمادية وعلى عمق أميال مني كانت هناك جبال ذات قمم مدببة.

بعد فترة من الوقت كان هناك سواد تام، ثم بدأ ضوءُ عددٍ لا يحصى من النجوم بالتشكل على هيئة أبراج سماوية غريبة وغير مألوفة. أخيرًا رأيت أسفل مني كوكبًا يشع اخضرارًا، ميزت عليه الأبراج الملتوية لمدينة مبنية على طراز لم أسمع أو أقرأ عنه أو أحلم به من قبل. وما أن أخذت أقترب من المدينة رأيتُ بناءً مربعًا كبيرًا من الحجر في مساحةٍ مفتوحة، وشعرتُ بخوفٍ بشع يتشبث بي. صرختُ وصارعتُ، وبعد فراغ ما كنت مرة أخرى في عليتي متمددًا على الدوائر الخمس الفسفورية على الأرض.

تجوّل تلك الليلة لم يكن أغرب من تجوّل الليالي السابقة؛ ولكن كان هناك مزيد من الرعب لأنني كنت أعرف أنني أقرب إلى تلك الدوامات والعوالم الخارجية مما كنت عليه من قبل. بعد ذلك كنت أكثر حذرًا مع تعويذاتي، لأنني لم أكن أرغب في الانفصال عن جسدي وعن الأرض في نوبات مجهولة حيث قد لا أتمكن من العودة أبدًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.