حبس العالم الأيام الماضية أنفاسه وهو يتابع تحركات الجيش الروسي على النقاط الحدودية الملاصقة لأوكرانيا في انتظار اندلاع أولى المعارك التي توقع الكثيرون أن تكون شرارة الحرب العالمية الثالثة، فجأة تعلن القوات الروسية سحب مجموعة من وحداتها والعودة إلى القواعد، المؤسسات الأوكرانية متأهبة وتقول إنها تتوقع هجومًا عسكريًّا بحلول نهاية الأسبوع الجاري.

في وسط ذلك يخرج بيان من البرلمان الروسي ليعلن عن واحدة من المفاجآت التي خبَّأها الكرملين لضرب الخاصرة الأوكرانية من الخلف، إنهما «لوهانسك ودونيتسك».

قصة ممتدة

إنها نوفوروسيا.. خاركوف، لوهانسك، دونيتسك، خيرسون، ميكلويف، أوديسا، لم تكن هذه المناطق كلها تابعة لأوكرانيا في عصر القيصر، لقد حصلوا عليها في العام 1920 بأمر من الحكومة السوفيتية، الرب وحده يعلم السبب.
فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي

تبدو القصة الأقرب للكثيرين أن مقاطعتي لوهانسك ودونيتسك جزءًا تاريخيًّا ممتدًّا من الإمبراطورية الروسية، وأن التبعية الأوكرانية مجرد واقع حديث، لكن البداية مغايرة لذلك كله.

فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وكان ما يعرف بجمهورية دونباس «Donbas Republic» أو جمهورية دونيتسك هي عبارة عن مقاطعتين في الجنوب الشرقي من أوكرانيا الحالية، كانتا منطقتين أشبه ما يكون بمناجم الفحم والمعادن، ولم يكن هناك عمران يذكر.

لم يكن قرار الانفصاليين في تلك المقاطعات التبعية لروسيا أو أوكرانيا، وإنما تكوين جمهورية انفصالية مستقلة على تلك الحدود المشتعلة على الرغم من التلاحم الجغرافي الذي يجعلهم جزءًا فعليًّا من أوكرانيا.

لكن البداية التاريخية لتحول المدينتين من مجرد منجم فحم إلى مناطق سكانية بين الدول متنازع عليها كانت بريطانية الأصل، حينما حصل رجل الأعمال الويلزي «جون هيوجيس» على مناقصة من الحكومة الروسية عام 1868 لإنشاء مصنع لتصنيع المعادن في مدينة دونيتسك.

لم يكن هيوجس أول أجنبي يحضر إلى روسيا للقيام بأعمال تجارية، فقد كانت تلك عادة القيصر الروسي في تلك الفترة، التعامل مع أجانب من دول أوروبا في أعمال الإنشاءات والتجارة وغيرها.

وبالفعل حضر هيوجس إلى المدينة في العام 1870 ومعه 8 سفن محملة بأدوات ومعدات بناء وما يزيد عن 100 مختص في أعمال التنقيب عن المعادن، وكذلك عمليات البناء وتصنيع المعادن، ونجح برنامج هيوجس الصناعي وأنشأ وحدة للتنقيب ومصنعًا ضخمًا في المدينة، وجاء القرار فيما بعد بإعطاء المدينة اسم هيوجوسوفكا نسبة لرجل الأعمال الويلزي، وتحوَّل الاسم بالمنطوق الروسي إلى يوزوفكا، وظلت على هذا الاسم حتى العام 1961 حينما حصلت على اسم دونيتسك رسميًّا في السجلات الحكومية، وأصبحت المدينة حتى الوقت الحالي قلعة لصناعة وتطوير المعادن المستخرجة في أوكرانيا.

 أما عن اسم دونباس Donbas فقد كان من إطلاق البلاشفة بعدما سيطروا على مقادير الأمور في روسيا وقرروا طرد جميع المؤسسات والشخصيات الأجنبية خارج روسيا وإزالة أي ميراث لها، وكان مزيجًا من اسم المدينتين اللتين تشكلان النطاق، وهما دونيتسك ولوهانسك.

الهدية

إن التاريخ والثقافة العامة هنا هما ما يوحِّدان دونيتسك وأوديسا ولفيف وكييف، الناس هنا يتحدثون اللغة الأوكرانية ويرتدون ملابس على الطراز الأوكراني، لطالما كان هذا هو الحال قبل أن تخضع المدينة لفرض الثقافة الروسية في 1933.
آرثر رودناينكو، رئيس الحزب الأوكراني القومي في دونيتسك

يقودنا التاريخ إلى نقطة مفصلية في تاريخ دونيتسك ولوهانسك، فكلاهما وخلال القرن التاسع عشر كانتا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، قبل أن تطلق روسيا حملتها العسكرية لاحتلال القرم ومعها دونيتسك ولوهانسك، ما يخبرنا أن التاريخ الفعلي للمدن ليس روسيًّا بحال، وأن تاريخهما كان أوكرانيًّا وشملته الإمبراطورية العثمانية في توسعاتها، لكنه لم يفقد صفته الأوكرانية، على عكس ما إليه سعت الإدارة الروسية من فرض هيمنة من نوع مختلف عبر زيادة أعداد الإثنية الروسية داخل المدن لتكون ظهيرًا داخل المدينة بجانب الوجود العسكري.

وحمل التاريخ الروسي اعترافًا ضمنيًّا بتلك التبعية في العام 1954 حينما أعلنت قيادة الاتحاد السوفيتي باسم نيكيتا خروشوف تسليم القرم والمدينتين إلى القيادة الأوكرانية كهدية من الاتحاد السوفيتي، وحينما حصلت أوكرانيا على استقلالها عند انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991 وقَّعت اتفاقية مع الحكومة الروسية تقضي ببقاء القرم ومدن الجنوب الشرقي تحت السيادة الأوكرانية، وفي ذلك الجانب المشترك من البحر الأسود بالقرب من مدينة سيفاستوبول الأوكرانية.

وبعدها بأعوام ثلاثة فقط وقَّع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وثيقة مع الحكومة الروسية في العاصمة المجرية بودابست تقضي باستقلال أوكرانيا بشكل كامل والتعهد بعدم التعرض لها سياسيًّا أو عسكريًّا أو اقتصاديًّا، وأن تكون الوثيقة ملزمة للحكومة الروسية، لكن بعدها وبوقت ليس بالطويل، أرسلت الحكومة الروسية قوات إلى المدن الحدودية التابعة للسيادة الأوكرانية بحجة حماية الأقلية الروسية في أوكرانيا قبل أن تنسحب منها لاحقًا.

وبعد كل تلك العقود تخرج المزاعم الروسية لتعلن التبعية التاريخية لتلك المدن لروسيا من باب أن خروشوف قدمها لأوكرانيا كهدية، لكن الحجة الروسية تتجاهل الجانب التاريخي للمدن وهويتها الأوكرانية والسبب الذي دعا خروشوف لتقديم تلك المدن بعينها لتصبح تابعة للسيادة الأوكرانية بعد عقود طويلة من السيطرة السوفيتية.

الثورة الأوكرانية

رفض الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانكوفيتش في نوفمبر من العام 2013 توقيع اتفاقية تبادل تجاري مع الاتحاد الأوروبي، بدا الأمر واضحًا للعيان في داخل أوكرانيا بعدما تأكد للجميع أن الرجل لا يخبِّئ جهدًا في إظهار ولائه للرئيس الروسي بوتين، وهو ما دفع الحراك الداخلي في أوكرانيا إلى الانتفاض ضد يانكوفيتش والمطالبة برحيله في فبراير من العام نفسه، وبالفعل تنجح الثورة في غضون ستة أيام يُعلَن في نهايتها الرئيس الأوكراني السابق استقالته ورحيله إلى روسيا.

لكن انطلاقة الثورة في العاصمة الأوكرانية كانت البوابة التي أعلنت منها روسيا حراكها العسكري الجديد ضد أوكرانيا بدخول قواتها إلى القرم من جديد والاستيلاء عليها عسكريًّا لأهميتها الاستراتيجية لروسيا، وذلك بعدما رحل رجل الكرملين من قصر الحكم في كييف.

وفي الشهر نفسه خرجت مظاهرات في «دونباس» من قبل المجموعات الموالية لروسيا تطالب بانفصال دونيتسك ولوهانسك وانضمامهما للسيادة الروسية، لكن القوات الأوكرانية تدخَّلت وقتها في مواجهة عنيفة مع احتجاجات الانفصاليين وأوقفتها.

صار الموقف منذ ذلك التاريخ معقدًا أكثر من اللازم، فاللعبة التي لطالما استخدمتها روسيا في المناطق التي تود السيطرة عليها اشتعلت من جديد تحت عنوان «حماية الأقلية الروسية»، والتي دفعت العديد من الموالين للروس إلى المطالبة بضم المدن إلى روسيا، فيما أعلن العديد من المحتجين داخل مدينتي دونباس استقلالها وإعلانها جمهورية مستقلة غير خاضعة للتبعية الأوكرانية أو الروسية.

ومن هنا صار داخل «دونباس» ثلاث فرق؛ الأولى يرى أن المدن أوكرانية بالتاريخ والجغرافيا واللغة، والثانية ترى أنها جزء من الإرث السوفيتي واجب الاسترداد، والثالثة ترى أنها مستقلة عن هذا وذاك، لكن ذلك كله لم يكن لينفتح إلا بعدما اندلعت الثورة الأوكرانية وخشيت روسيا من تقلُّص نفوذها بالداخل.

«على مدى 23 عامًا ظلوا يقدِّمون الصورة السيئة عن الاتحاد السوفيتي، لم يكن حكم الاتحاد السوفيتي يتمحور حول المجاعة والظلم، بل تمحور حول المناجم والمصانع والنصر في الحرب العظمى، كان اتحاد العلم والتعليم والثقة في المستقبل».

 هكذا يعلن أحد موالي روسيا المسنين في دونيتسك عن رغبته في أن تكون المدينة جزءًا من الحكم الروسي كامتداد للمجد السوفيتي، لكن الملاحظ بحسب ما نشر أحد المراكز البحثية أن الفئة الأكبر من موالي روسيا في دونباس هم من كبار السن ممن عاصروا فترة حكم الاتحاد السوفيتي، على عكس الأجيال الجديدة التي ترى مسألة الاستقلال أو التبعية الأوكرانية، وهو ما يعمق من حدة الانقسام داخل ذلك النطاق.

روسيا واللعبة الأخيرة

لا يبدو أن الأيام الحالية تنذر بهدوء نسبي في أزمة روسيا وأوكرانيا بعد إعلان الكرملين سحب قواته من الحدود والتراجع عن غزو الداخل الأوكراني، فيما تشكك القيادة الأوكرانية وقيادات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ذلك، لا سيما بعد سيناريو 2014 المأساوي.

لكن حالة الشد والجذب الأخيرة انتقلت إلى قصر الدوما التشريعي في موسكو، والذي أصدر مرسومًا بقانون يسمح لروسيا بالاعتراف بإقليم دونباس كإقليم مستقل عن أوكرانيا على الرغم من تبعيته الدولية واعتراف جميع دول الأمم المتحدة بتبعيته للسيادة الأوكرانية، ما يأتي كخطوة أخيرة من الدب الروسي لزعزعة الوضع في أوكرانيا.

أثار المرسوم المنتظر توقيعه من الرئيس الروسي حالة من الشد والجذب في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الذين أعلنوا رفضهم لذلك المرسوم، والحديث عن كونه تمهيدًا لجعل ذلك الإقليم خارج السيادة الأوكرانية سياسيًّا، مما يفتح الباب للدخول الروسي تحت غطاء قانوني ينزع الشرعية الأوكرانية عن الإقليم.

وعلى الرغم من استمرار حالة الشد والجذب بين الأطراف الدولية في تلك المنطقة، والتي كانت بداية اشتعالها رغبة أوكرانيا في الانضمام لحلف الناتو ورفض روسيا ذلك القرار واعتباره تهديدًا للسيادة الروسية، إلا أن بوادر الحرب لا زالت ترفرف في الأفق.