في ليلة ساحرة يتجمع فيها الأصدقاء حول الموسيقى كما اعتادوا، تفتقت أذهانهم عن فكرة «طب ما تعمل راديو نتجمع حواليه؟»، قالوها إلى أكثرهم حُبًا وشغفًا وتعمقًا بالموسيقى، فكرة مُشتركة بين مجموعة من الأصدقاء تحولت إلى إذاعة إلكترونية متخصصة استمرت نحو 10 أعوام، تحت اسم «راديو مدينة البط»، غير أن لكل شيء نهاية، منذ أيام فاجأ مؤسس الراديو مُستمعيه أنه سيكون العام الأخير للإذاعة.

في مارس 2013 دُشّن راديو مدينة البط من مصر، كما يقول مؤسسه-الذي رفض ذكر اسمه- وسنُطلق عليه لقب «صاحب الراديو»، كان راديو مدينة البط واحدًا من الإذاعات الإلكترونية التي انتشرت آنذاك، وربما كان من أشهرها راديو «جرامافون» شقيقه الذي استمر نحو أربعة أعوام، حيث انطلق عام 2011، وتوقف عام 2015.

نوستالجيا في زمن الصخب

السياق الزمني مهم، انطلق راديو مدينة البط في النصف الأول من عام 2013، ذلك العام الذي امتلأ بالصخب السياسي في مصر، على الجانب الآخر منه أناس كانت كل رغبتهم في الابتعاد عن الأحداث السياسية، وجاء راديو مدينة البط يُلبّي احتياجًا لديهم، فقد كان أشبه بمساحة آمنة لكل مُحبي الموسيقى.

عند سؤال صاحب الراديو عن سبب الاسم قال «اسم لذيذ، والناس بسببه بيستغربوا الاسم، وتفتكره أكتر، وكمان بيدي رؤية بصرية عن الراديو»، ومدينة البط-كما هو معروف- هي مدينة مُتخيلة يعيش فيها الشخصية الخيالية الأمريكية دونالد دك أو كما هو معروف بالعربية بطوط.

ساعد صاحب الراديو -البالغ من العمر حينها 21 عامًا- في انطلاقة مدينة البط عدد من الأصدقاء المتخصصين في مجال التكنولوجيا، أما المحتوى الموسيقي؛ فكانت من اختيارات صاحب الراديو نفسه التي تميزت بالغرابة والفرادة، دون أي تدخل من الإعلانات «الراديو بالنسبالي مزيكا وميبقاش فيه برامج»، بجانب ذلك لم يهتم صاحب الراديو بوضع الخطط «طول الوقت الراديو ماشي بالحب، حُبي أنا للمزيكا وحسب وقتي، بس طبعًا بتقابلني مشاكل مادية من وقت للتاني».

صديقنا في كل مكان

لصاحب الراديو فلسفته الخاصة، وما تعنيه له الإذاعة كان مُلخصها «حاجة بعملها وقت ما أحب مع الناس، ولو اتحول لنمط تجاري هيكون مسئولية»، تلك الروح أحبها مُستمعي الراديو الذي تجاوز عددهم 36 ألف شخص، ومن بينهم جودي عادل التي تعلقت بالراديو منذ بدايته «أنا لفيت بالراديو بلاد كتير، فيه ليالي كنت ببقى فيها وحدي على جبل ومش معايا غير الراديو، وفي رحلات الهايكينج بتاعتي، لف معايا مصر كلها والوطن العربي وأوروبا، وحتى القطب الشمالي في آيسلندا، الراديو بقى صديقي».

أحبت جودي الموسيقى التي يبثها صاحب الراديو «بيقدم مزيكا حقيقية مش المينستريم، مزيكا من مراحل عمرية مختلفة ومن أنواع وثقافات مختلفة، الاهتمام الأول عنده مش اللغة، إنما المزيكا نفسها والرسايل اللي عايز يوصلها بيها»، نشأت علاقة ما بين جودي وصاحب الراديو «اتعودنا نتلم على حفلة أم كلثوم، كل خميس الساعة 11، كنا نسمعها سوا أنا وصحابي وصاحب الراديو ونعلق عليها، بقينا مُجتمع صغير من غير ما نعرف بعض».

موسيقى مختلفة

بالفعل كان أهم ما يُميز راديو مدينة البط هو الموسيقى التي يُقدّمها، بمُجرد أن تضغط زر التشغيل ستسمع موسيقى مُختلفة، موسيقى قادمة من أنحاء العالم المختلفة، ربما من مالي في أفريقيا، أو تشيلي في أمريكا الجنوبية، لا يُهم، المُهم هو أنك ستسمع موسيقى لم تسمعها من قبل، يقول صاحب الراديو عن ذلك «أنا باحث جيد، وبحب المزيكا جدًا من وقت ما أنا طالب في ثانوية عامة، ومعنديش كومفورت زون، وبحب الجغرافيا والتاريخ وهما بيلضموا مع بعض».

دون أن يدري سرَتْ روح صاحب الراديو بين مُستمعيه، ومن بين هؤلاء أيضًا، عصام شوقي، «كان بيشغل حاجات غريبة، مزيكا كولومبي، أماكن مالناش احتكاك بيها، مزيكا ع الودن سماعها لطيف، وكنت أدخل أدور وأسيرش عشان أفهم»، ظلّت تلك العادة لصيقة بشوقي حتى بعد مرور سنوات «اتجوزت وخلفت ولسة بسمع الراديو لحد دلوقتي».

تعرّف شوقي لأول مرة عبر الراديو على أغنية «My Way» لفرانك سيناترا، كما كانت الإذاعة مدخلًا بالنسبة له لموسيقى الراي الجزائرية «وعرفت الحفلة الشهيرة آند دور تروا سولاي، للشاب خالد ورشيد طه والشاب فُضيل»، كذلك تعرفت جودي على موسيقى ومُطربين جُدد عبر الإذاعة «عرفت نيك درايك، وليونارد كوهين، الشيخ أحمد برين، وموسيقى الجاز في العشرينيات، دي كلها حاجات كانت جديدة عليا وبقت من مفضلاتي».

مشوار الـ10 أعوام

لم يتوقع صاحب الراديو مُطلقًا استمرار مدينة البط لعشر سنوات «كنت عارف إنه عاجلًا الدنيا هتاخدني وهتظهر مشاكل لأنه بالاجتهاد الشخصي»، غير أن الأيام مرّت وحقق الراديو مشوارًا قوامه عشر سنوات، «يمكن مع الوقت لقيت الناس بتسمع، وأنا ليا صحاب كتير أونلاين كل معرفتهم بأخباري إن الراديو شغال فأنا كويس، وإذا مش شغال يسألوا عليا».

كما أن صاحب الراديو لا ينسى أن الراديو رافقه في أوقاته الصعبة «فكرة إن ناس بتسمع معايا كانت بتونسني كتير»، وعلى مدار سنوات أعدّ صاحب الراديو «بلاي ليستات أوفلاين»، خلال الأوقات التي يغيب فيها، وفي أوقات أخرى كان يبثّ من مكانه موسيقى يسمعها برفقة مستمعي الراديو.

منذ صغره تكوّن لدى صاحب الراديو أرشيف ضخم من الموسيقى، مُرتّب ومنظم حسب السنوات وأنواع الموسيقى، عرف الشاب مصادر مُتنوعة للبحث عن الموسيقى عبر الإنترنت؛ من المدونات والمنتديات إلى عالم التورنت الواسع (برنامج لتحميل الملفات)، إضافة إلى نُسخ شخصية من أصدقائه الموسيقيين.

مجتمع الموسيقى السرى

لم يقتصر راديو مدينة البط على الموسيقى فقط، بل تخللته أوقات بث فيها برامج إذاعية قديمة «زي حكواتي ومغنواتي، كان برنامج في السبعينيات»، وأحيانًا أخرى مسلسلات إذاعية لفؤاد المهندس، ومسرحيات موسيقية ينتقيها صاحب الراديو، كما لم يغفل عن أفلام هامة مثل الكيت كات والكيف، وتتذكر جودي أنها سمعت عبر الراديو فيلم «Sweeney Todd»، «كنا ساعات بنطلب منه بردو، وأنا فاكرة إن صاحب الراديو شغلي فقرات أطلبها لأغاني أو فرق بحبها زي البيتلز، كان يعملي كوليكشن عن فرقة البيتلز ونتناقش فيها».

لم يكن الراديو مساحة لسماع الموسيقى فقط، بل خلق مجتمع شغوف بالموسيقى، أشبه بكود سري بينهم، ومساحة تقيهم شرور العالم، وفيه خلق صاحب الراديو روحًا تسري بين أعضائه، حتى أنه سرّب بينهم الموسيقى التي يُحبها، ولم يتوقع أنهم سيحبونها، مثل موسيقى البوست روك وموسيقى الأمبينت-موسيقى تعني بنغمات المقطوعة الموسيقية وجوها العام أكثر من إيقاعها.

المجهول الذي أمتع الآلاف

حرص صاحب الراديو على أن تكون شخصيته مجهولة «فيه راحة كدا بتكون وانت مش متاح»، غير أنه خلق علاقة قوية مع المُستمعين، يُعلّقون على منشوراته عبر صفحة الراديو «كنا بنمسك في رقبته لما الراديو يقف»، تتذكر جودي، وأحيانًا كان يتواصل معه المُستمعين بطرق شتى، منها «كنت ببعتله صور من كل مكان الراديو بيسافر فيها معايا».

فاجأ صاحب الراديو في الشهر ذاته الذي انطلق فيه الراديو المُستمعين بنيّته التوقف هذا العام، بسبب المشاكل التقنية والتكاليف المادية التي زادت «والوقت اللي عندي قلّ كمان»، بخاصة مع حرصه على خلوه من الإعلانات، كتب صاحب الراديو المنشور الذي اعتقد أنه لن يراه سوى عدد محدود «لأن لوغاريتمات الفيسبوك نسيتنا، وأنا مكنتش حريص على تنشيط الراديو على السوشيال ميديا»، إلا أن نحو مئة شخص علقوا على المنشور، إضافة إلى عدد آخر قام بمشاركته «كنت عارف حب الناس للراديو، بس مش بهذا الكم».

وصف صاحب الراديو المنشور الذي كتبه بأنه نوع من الاعتذار «لأن الراديو كان بقاله فترة مش نشيط»، كما كان حريصًا على ذكر أنها آخر سنة «عشان أدي نفسي وليهم مساحة»، لكن كثير من المستمعين عرضوا عليه الدعم المادي، أو المساعدة بأي شكل يطلبه، لا يدري صاحب الراديو ما إن كان بإمكانه تنفيذ ذلك أم لا، خاصة مع رفضه التام لتحويل الراديو إلى نمط تجاري.

حتى الآن لم يتخذ صاحب الراديو قرارًا بعينه، ما زال يُفكّر في الحلول المطروحة «يمكن لو فيه حد تاني معايا بيساعدني، ودعم مادي للمشاكل التقنية اللي بتزيد، ممكن يبقى فيه احتمال أكبر للاستمرارية».

توقُّف الراديو يعني طوي ذاكرة الكثير ممن ارتبطوا به، داخل مصر وخارجها، وطوي آخر الإذاعات الموسيقية الإلكترونية القائمة على مجهود فردي، لا يتمنى جودي وعصام وبقية المُستمعين ذلك، بل لديهم رغبة في أن يظل راديو مدينة البط يُقدم كل أنواع الموسيقى المألوفة وغير المألوفة؛ من بيتهوفن وإلفيس بريسلي إلى أم كلثوم وسيد درويش، وحتى موسيقى من مالي وتشيلي أو فلكلور صيني!