يبدو شفافا عديم اللون كطبيعة الزجاج. لا يفصح عادة عن قدراته الخارقة إلا في وقت الشدة، ما إن يتعرض لحادثة حتى تظهر للعيان صفاته المميزة. يتنكر في صورة الزجاج لكنه لا يتشظى لمئات القطع الصغيرة ما أن يسقط أو يرتطم به جسم صلب. يطلقون عليه زجاج غير قابل للكسر، لكن الحقيقة أن هذا اللقب ليس صادقًا تمامًا.


زجاج ليس زجاجيا

يعرف الزجاج عادة بأنه مادة مكونة في الأساس من أكسيد السيليكون. لا تمتلك هذه المادة هيكلا بلوريا –ولتلك الحقيقة يدين الزجاج بشفافيته – وتبدو كما لو كانت سائلا تجمدت جزيئاته في أماكنها العشوائية ثم تصلبت. ومن السهل كسر الزجاج الذي يمتلك صلادة متوسطة تقدر بقيمة 5.5 على مقياس Moh للصلادة، ويستعمل لأغراض شتى من المواد الضوئية إلى أدوات المائدة.

أما «الزجاج» غير القابل للكسر فهو نوع مختلف تمامًا من المواد. في الواقع ينطوي هذا الزجاج تحت مظلة البوليمرات البلاستيكية التي تنتمي للّدائن الحرارية Thermoplastics، ما معنى هذا؟

يطلق الكيميائيون كلمة بوليمر على المواد التي تتكون من وحدات متكررة من جزيء ما. تعتمد البشرية على العديد والعديد من هذه المواد البوليميرية للقيام بوظائف عديدة، كل حسب خصائصه التي تنتج عن خصائص الوحدة البنائية المكونة له، أما البلاستيكية فهي صفة تتسم بها المواد القابلة للتشوه دون كسر.

فرضا قمت بالضغط على كوب بلاستيكي محدثًا فيه انبعاجا واضحا لا يمكن إصلاحه مرة أخرى، إن كان هذا الكوب بلاستيكيا تماما فإن شكله سيتشوه لكنه لن ينكسر. إذا استبدلت ضغطك على الكوب باستخدام الحرارة لتشويه الكوب – رفعت درجة الحرارة بشدة في فرن ووضعت فيه الكوب – فإنك ستلاحظ أنه يصبح لينا طيعا بشدة تحت درجة حرارة محددة وصلبا جامدا فوقها وهذا السلوك هو ما يعرف باللدانة الحرارية thermoplasticity.


لبنات البناء

إذا نظرنا عن كثب لتركيب الزجاج الذي هو – مجازا – غير قابل للكسر، سنجد أن الوحدة البنائية هي ميثيل ميثأكريليت التي يعود الفضل في إخضاعها للبلمرة لأول مرة إلى أوتو روم، مؤسس شركة روم وهاس الكيميائية الضخمة. كان ذلك في السنة الأولي من القرن العشرين الذي سيشهد صراعا محموما بين شركات الصناعات الكيماوية فيما بعد. أطلق روم على نتيجة أبحاثه اسم Plexiglas الذي أصبح ولا يزال علامة تجارية بارزة في الصناعات التي تحتاج مواد شفافة ذات صلابة عالية، بينما سوقته الشركة الإمبراطورية للصناعات الكيميائية تحت اسم لوسيت Lucite.

تبع اكتشاف بوليمر الميثيل ميثأكريليت اكتشاف بوليمر آخر يتسم بنفس الصفات المفيدة من صلابة وشفافية رغم تكوينه من وحدة بنائية مختلفة تماما. كان هذا هو بوليمر البولي كربونات.

تتكون البولي كربونات من وحدات بنائية شهيرة تسمى بثنائيات الفينولات وبخاصة النوع «أ» منها. تعود التسمية لتكون هذه الجزيئات من حلقتين من البنزين تحمل كل منهما مجموعة هيدروكسيل (الفينول هو حلقة بنزيل تحمل مجموعة هيدروكسيل)، ترتبطان معًا عند ذرة كربون تتوسط مجموعتي ميثيل. ترتبط هذه الوحدة ككل مع الوحدات الأخرى عن طريق مجموعة وظيفية، أي مجموعة من الذرات تحمل صفة مميزة عند تواجدها معًا ولها نشاط خاص. في حالة الزجاج غير القابل للكسر، تسمى هذه المجموعة بمجموعة الإستر الكربوناتي Carbonate ester فيصبح اسم البوليمر ككل عديد الكربونات polycarbonate.

كان دانييل فوكس من شركة General electric وهيرمان شنيل من شركة باير هما أول من اكتشفا – كل على حدة – إمكانية ربط مجموعات ثنائيات الفينول معًا لتكوين مادة تتميز بصلابة شديدة أطلقت عليها General electric أولا اسم «ليكسان Lexan» عندما قامت بتسويقها. شق البوليمر الجديد طريقه بسهولة نحو معظم ميادين الصناعة الحديثة آنذاك من مستلزمات كهربائية لمضادات الحرائق. كانت القدرة الفائقة لهذه المادة على التحمل قد فتحت لها الأبواب على مصراعيها حتى قبل أن تستخدم لأغراض «عدم الكسر».


الأرضية المشتركة

ينطوي هذا الزجاج تحت مظلة البوليمرات البلاستيكية التي تنتمي للدائن الحرارية Thermoplastics

تتشابه هذه المواد البلاستيكية العجيبة مع الزجاج في كونها مواد غير متبلرة. أثناء الصناعة وتحت تأثير الحرارة الشديدة لا تتمكن البلورات من التشكل بسبب عدم وجود المرونة الكافية في حركة الجزيئات التي عادة ما تكفلها الحرارة الشديدة.

البوليكربونات تتميز بصعوبة تعريضها للكسر للدرجة التي تسمح لها باحتمال طلقات نارية مباشرة من مسافة قريبة جاعلة منها الخيار الأول للأغراض العسكرية والأمنية.

العائق هنا هو التجاذب الشديد والقوى البين-جزيئية الشديدة المتواجدة بين جزيئات ثنائيات الفينول المدعمة بحلقات أروماتية صلبة. لا تتمكن الوحدات البنائية من الانسياب إلى حيث تتكون البلورات ولا يسمح لها وضعها للتعديل من اتجاهها لتصبح أكثر ملائمة. نرى أيضا أنه بغياب البلورات، تغيب العوامل التي تؤدي لمعظم التأثيرات الضوئية التي تكسب المادة سلوكا ضوئيا خاصا. هكذا نحصل على مادة صلبة، قادرة أحيانا على تحمل الرصاص دون أن تنكسر بل وشفافة أيضا كالهواء.

بسبب اختلاف نوعية وجودة البوليمرات المستخدمة في صناعة الزجاج الغير قابل للكسر. على المرء أخذ الحيطة فيما يتعلق بالفصل بين مفهوم «غير قابل للكسر» و «غير قابل للتشظي». يميل بوليمر الميثيل ميثأكريليت لأن يوصف بانه غير قابل للتشظي أي لا يميل للتفكك في صورة شظايا عند تعرضه للضغط أو الارتطام. على الجانب الاّخر نجد ان البوليكربونات تتميز بصعوبة تعريضها للكسر للدرجة التي تسمح لها باحتمال طلقات نارية مباشرة من مسافة قريبة جاعلة منها الخيار الأول للأغراض العسكرية والأمنية. احتلت البوليكربونات أيضا عرش الاستخدامات التقنية الحديثة من الأقراص المدمجة إلى شاشات الهواتف النقالة والتلفاز LCD. تثبت هذه الحقائق أن البوليمرات مثلت بالنسبة لعلماء القرن العشرين ما مثلته الأحجار بالنسبة للإنسان القديم، مادة قابلة للتطويع تعده بتنفيذ احتياجاته المختلفة التي لا تلبث أن تتزايد تعقيدا وتداخلا والتي ما أن يجدها حتى يسرع لاستغلال كل ما بإمكانها أن توفره من مزايا بل وأن يتحايل – كما حدث للزجاج الحقيقي- على أعتى عيوبها.

المراجع
  1. Advances in polycarbonate: editors- Daniel J.Brunelle, Michael R.Korn
  2. Chemistry Connections: Kerry Karukstis, Gerald Van Hecke
  3. Polymethyl methacrylate