في مجلسِ شِعرٍ بِرُواقِ السِّنَّاريَّة بالأزهر الشريف سنة 1919 تجري مُطارحةٌ شِعريةٌ بين جمعٍ من طلبة العِلم والأدب يتدارسون فيها شعر المتنبي ويتناشدونه، وفيهم فتًى ليس منهم لا يدري من الشعر إلا قليلًا، قد ملأ المجلسُ نفسَه، واستَنْبَثَ هذا الشاعرُ كامنًا في حَناياهُ كان ظنَّه قد تلاشى.

ثُمَّ بعد المجلس يُحادِث الفتى قريبًا له من أهل هذا النَّادي:

– لقد أحسنَ الله إليَّ على يدك إذ هديتَنِي إلى هذا المجلس، ولكنْ مَن هذا الشاعر ؟

فيرد: إنه المتنبي الذي ملأ الدنيا وشَغَل الناسَ

– إذن أريدك أن تُعيرَني ديوانَه

– لن أفعلَ حتى تقضِيَ لي أمرًا عند عَمَّتي

– لن أقضيَ لك أمرَك عند أُمِّي حتى تُعيرَني الديوانَ

– حسنًا ! إليك الديوانَ على أن تقضيَ لي أمري


نِزاع العربية والإنجليزية

أمَّا الفتى فهو محمود محمد شاكر، وأمَّا الجمع فناشِئَةٌ من طلاب الأزهر منهم ابن خاله الشيخ أبو الفضل محمد هارون، وأمَّا الكامن الذي تحرَّك في نفسه فهو الكلمة العربية التي اغتالها دانلوب «بلُغةٍ غريبةٍ تُنَازِع لغتَه على لسانه قبل أن تستحكمَ فيه».

وكان من عاقبة هذا السهم النافذ إلى قلبه أن استثقل العربية التي نشأ عليها في بيته، وعرف أهميَّتَها قبل أن تطغى عليها الإنجليزية، وصار الفتى ضعيفًا في العربية جدًّا، حتى رسب في امتحانها في السنة الرابعة.

فلم يكد الفتى يأخذ الديوانَ من ابن خاله حتى جعله وِردَه في ليله ونهاره، فكان لا يلقاه أحدٌ إلا والمتنبي في يده منشدًا لقصيدة أو مترنِّمًا بما يتراءى له من معانيه، حتى قال ابن خاله عبد السلام هارون «حتى كِدْنا نحفظ ما حَفِظ» فأتمَّ حفظ الديوان في العام الذي رسب فيه. وحَفِظَ أيضًا المعلقاتِ العشرَ الجاهليةَ، وعرف تاريخها وتاريخ أصحابها ومعانيها وغريب ألفاظها.

لقد فجَّر المتنبي عينًا دفينةً في أعماق نفسه، وسرت أنغام الشعر العربي تتردَّدُ فيها، وكأنَّه لم يجهلْها قطُّ، وعادتِ الكلمةُ العربيَّة إلى مكانها مرة أخرى.

لكن لم يكن هذا الديوان كافيًا ليتخلَّص الفتى من غلبة الإنجليزية على نفسه، لكنه أقام تنازعًا في نفسه بين العربية والإنجليزية، يقول: «نعم أحببْتُ العربيَّةَ حبًّا شديدًا، ولكن الإنجليزية كان لها التقدم دائمًا والغلبة أحيانًا».


جيل ثورة 19

عندما قام الحدث الجلل في مصر، ثورة 1919، كان التنازع القائم في نفس الفتى يزيد، بل هو لا يرى سببًا للثورة إلا هذا التنازع، يقول: «وانفجر الأمرُ انفجارًا بعد ثورة سنة 1919، ووقع النزاع بين الفطرة السَّلِيمة التي تستكنُّ في قلوب الشعوب، وبين الثقافة المُجتَلَبة التي تضرب على الأعين غِشاوِةً، وعلى القلوب سدًّا صفيقًا من الجهل والغطرسة».

تجمع المتظاهرين أمام محطة مصر - المعروف بميدان رمسيس حاليا
تجمع المتظاهرين أمام محطة مصر – المعروف بميدان رمسيس حاليا

بل ثَمَّ ما هو أكبرُ .. إنه يرى هذا التنازع قائمًا في نفوس الشعوب العربية والإسلامية الثائرة على الاحتلال، إذ يقول: «في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) انتفض العالم العربي والعالم الإسلامي، وبدأت أول انتفاضة في مصر في مارس 1919، وتتابعت الانتفاضات على درجات مختلفة في جميع بلاد العرب والإسلام، ثُمَّ زُلْزِل هذا العالمُ كلُّه حين ألغى مصطفى كمال الخلافةَ الإسلاميةَ سنة 1924 … وفي هذا الذهول الغامر ما بين سنة 1919 إلى 1924 نزع العالم العربي بفطرته السَّلِيمة إلى التشبُّث بالحبال الباقية التي تربط بعضَه ببعض، وهي اللسان العربي، وصار مفهومًا واضحًا عند الجماهير، أن إحياء اللغة العربية هو إحياء الأمة العربية … فكان الجيل الذي عاش تلك الأيام يتشبَّث بلغته، ويقاوم عناصر الهدم الخبيثة التي أطلقتها وزارة الاستعمار البريطاني».


فتى الثانوية وعلماء عصره

انتقل معه هذا التنازع المُرُّ إلى المرحلة الثانوية، وفي هذه المرحلة بدأ يتَّصل بجَمْعٍ من العلماء والأدباء، فاتَّصل بالرافعيِّ، وتتلمذ على سيد علي المرصفيِّ، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بمُحِبِّ الدين الخطيب.

لم يكن اتصاله في هذه المرحلة بهؤلاء الأعلام فقط، بل اتصل بغيرهم أيضًا مثل أحمد تيمور باشا، والشيخ محمد الخِضْر حسين، وأحمد زكي باشا، والشيخ إبراهيم أَطَّفَيِّش، والكُتْبِي محمد أمين الخانْجِي، والشاعر أحمد شوقي، وكان لبعضهم تأثيرٌ كبيرٌ في نشأته، لكنَّ الثلاثة الأُوَلَ الذين قدَّمْتُهم كان أثرُهم بالغًا جدًّا في مرحلة التنازُع هذا، وامتدَّ أثرُهم إلى غير هذه المرحلة أيضًا.

يقول عن الرافعي: «كُنتَ أخي وصديقي ومَن أستودِعُه سِرَّ قلبي المعذَّبِ في تنُّور الحياة المُوحِشَة التي يضْطَرم جوُّها بالصمت المتوهِّج والوَحْدة المُستَعِرة»

ويقول:

ولقد عَرَفنا الرافعيَّ زمنًا – طال أو قصر – فأجبْناه ومنحْنَاه من أنفُسِنا ومنحَنا من ذات نفسِه، ورَضِيناهُ أبًا وأخًا وصديقًا وأستاذًا ومؤدبًا، فلم نجِدْه إلا عند حسن الظنِّ به في كلِّ أبوَّته وإخائه وصداقته وأستاذِيَّته وتأديبه.

وأمَّا الشيخ المرصفيُّ، فقد قرأ عليه أمَّهاتِ كتب الأدب واللغة، فقرأ عليه كتاب الكامل، وحماسة أبي تمَّام، ولسان العرب، وشيئًا من أشعار الهذليين، وجزءًا من أمالي القالي والعقد الفريد لابن عبد ربه.

وأما مُحِبُّ الدين الخطيب فيقول عنه: «وكنتُ أؤمِّل آمالًا كثيرةً يمُدُّها خيالي وتَزِينُها أحلامي، وكان يقوم على تهذيب نفسي وتشذيب آمالي وأحلامي رجلٌ أُحِبُّ أن أعترِفَ بفضِله عليَّ، وهو الأستاذُ مُحبُّ الدين الخطيب». وكان يُوجِّهُه لقراءة الكُتُب المُهِمَّة لكُتَّاب عَصرِه.

فكان هؤلاء الثلاثةُ القدوةَ والأُسوةَ التي يحتاجها في هذه المرحلة «فالقدوة والأسوة هي مادَّةُ الشباب التي يَتِمُّ بها تكوينُه العقليُّ على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدُّرْبَة»


الرياضايات تدخل إلى الصراع

وفي الصف الثالث الثانوي حُبِّبَ إليه علمٌ ثالثٌ شَغَله عن المُنازَعَةِ الأُولى بعضَ الشُّغل، وهذا العلم الثالث هو الرياضِيَّات، يقول: «قذف الله في قلبي حُبَّها فكان لها كلُّ اهتمامي وعِظَمُ إقبالي، ولم يكن لي همٌّ سوى إتقانِها والتوسُّعِ فيها والتزوُّدِ منها ما استطعْتُ وفوق ما أستطيع، وإن كان ذلك لم يصرِفْني عن قراءة تراث العربية وعن الشعر خاصَّةً في العربية وغير العربية»

نعم لم تصرفه الرياضِيَّات عن قراءة تراث العربية، فقد قرأ في هذه الفترة -غيرَ ديوان المتنبي وحِفْظِ المعلقات – كتابَ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كاملًا، وقرأ معجم لسان العرب لابن منظور كاملًا، وقرأ كتاب سيبويه – وكان له أثرٌ كبيرٌ عليه سنراه بعد قليل-، وقرأ دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، ومفتاح العلوم للسَّكَّاكي وكُتُبَ التَّفْتَازَاني في علوم البلاغة وغيرَها من الكتب.

كانت هذه المرحلة إيذانًا بانتهاء نزاع العربية والإنجليزية، وإرهاصًا لنزاعٍ جديدٍ لم يَأْنِ وقتُ اضْطِرامه بعدُ وهو نزاع الشعر الجاهلي.


الأدب الجاهلى يتربع النزاع

بالرغم من وَلُوعِه الشديدِ بالرياضيات طغى الأدبُ عليها خاصَّة الشعر الجاهلي الذي كان يَدْرُسه على شيخه المرصفي، بل لم يكتَفِ طغيان الأدب على الرياضيات حتى سخَّرها في دراسة الشعر الجاهلي، يقول: «بدأتُ أقرأ ما بقي لدينا من دواوين شعر الجاهليَّة شاعرًا شاعرًا، ثُمَّ أشعارَ مئاتٍ من أهل الجاهليَّة ممَّن لا دواوينَ لهم، أو كانت لهم دواوينُ ولم تقع لي بعدُ دواوينُهم … أوغلْتُ في القراءة وأكثرْتُ ملتزمًا بهذا النظام الذي هداني إليه وَلُوعي بالرياضيات فيما أظنُّ».

كان الوَلُوع بالرياضيات من صُنع الله له كما يقول، فقد حسَمَتْ هذا الصراع الكبير في نفسِه عندما انتهت المرحلة الثانويَّةُ وأخذتْه حَيْرَةُ اختيار الكليَّة التي يلتحق بها.

يقول: «لم يستطع وَلَعي بالرياضيات أن يقومَ بشَغَفِي بالأدب والتاريخ فتحولْتُ مخالِفًا سيرةَ زُملائي في القسم العلمي … فكان هذا التحوُّل هو أيضًا بدءَ تحوُّلِ حياتي تحوُّلًا تامًّا. هجرْتُ الرياضياتِ هجرًا مُصمَتًا ، وأقبلْتُ على الشعر والأدب والتاريخ بقلبي كُلِّه” ويقول: «علَّمني كتابُ سيبويهِ يومئذٍ أن اللغة هي الوجه الآخر للرياضيات العُليا».

وهكذا انتهى صراعٌ عنيفٌ في نفس الفتى، لقد بلغ من تمكُّنه من الإنجليزية مبلغًا جعله – وهو في هذه السن – يُفضِّل نفسَه على المستشرق الإنجليزي مرجليوث – أكبرِ مُسَعِّرٍ لفتنة الشعر الجاهلي – فيقول: «أنا بلا شَكٍّ أعرِفُ مِن الإنجليزِيَّة فوق ما يعرِفُه هذا الأعجمُ مِن العربيَّة أضعافًا مضاعفَةً، بل فوق ما يُمكِنه أن يعرفَه منها إلى أن يبلُغ أرذلَ العُمر، وأستطيع أن أتلعَّبَ بنشأة الشعر الإنجليزي منذ شوسر إلى يومنا هذا تلعُّبًا هو أفضلُ في العقل مِن كُلِّ ما يدخُلُ في طاقتِه أن يكتُبَه عن الشعر العربي».

لكن نزعه عرق العربية الذي تأصل في أصلابه، وعادت إليه الكلمة مرة أخرى.