في 18 يناير/كانون الأول 1985، طار خبر إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه في السودان بتهمة الردة وفق قوانين سبتمبر 1983 التي فرضها الرئيس السوداني آنذاك جعفر النميري. أثار إعدام طه موجة سخط عربية بعد أن رحل المفكر، لكن هذا الإعدام نفسه أمد في عمر أفكاره ومنحها وهجًا رغم إنهائه مسيرة صاحبها.

ولد المفكر والسياسي السوداني الملقب بـ«الأستاذ» بولاية الجزيرة السودانية عام 1909. توفي والداه في صغره، ثم انتقل إلى الخرطوم لدراسة هندسة المساحة. تزوج طه عقب تخرجه ببضع سنوات، وأسهم في الحراك السياسي ضد المستعمر الإنجليزي. في عام 1945، أنشأ طه مع عدد من أصدقائه «الحزب الجمهوري»، وكان رئيسه وكاتب بيانه الأول.

اعتقل طه لدوره القيادي في مظاهرات شعبية عام 1946، احتجاجًا على اعتقال سلطة الاحتلال لامرأة سودانية ختنت ابنتها، وهو ما خالف قوانين إنجليزية حديثة. أودعَ طه السجن عامين، صرف فيهما وقته للعبادة والقراءة، ثم اعتكف نحو ثلاث سنوات في منزله، ليخرج عام 1951 على الناس بدعوته السياسية والدينية.

أثارت آراء طه جدلًا كبيرًا، وحكمت عليه محكمة سودانية بالردة عام 1968. ومع حل نظام النميري جميع الأحزاب السياسية، أعاد المؤيدون لأفكار طه تنظيم أنفسهم في حركة تحت اسم «الإخوان الجمهوريون». لاحقًا، سيستدعي النميري حكم الردة السابق في محاكمة سريعة انتهت بإعدام طه الرافض لشرعية المحكمة وتشريعات النظام وسياساته الأخيرة. دفعت نهاية طه أتباعه إلى وضعه في مصاف بعض أعلام الصوفية الذين عجز العامة عن تقبل مقالاتهم.

اقرأ أيضًا: تاريخ الحركة الإسلامية في السودان


الدين والإنسان في الفكرة الجمهورية

طرح طه رؤية مختلفة لمفهومي الإسلام والإيمان، إذ يرى الإسلام هو الأرقى والأخص، بينما الإيمان أعم وأشمل. كان الرسول محمد طليعة أمة المسلمين، كان كأنه تركهم في المستقبل وجاء لأمة المؤمنين في عصره، فقد كان المسلم الوحيد بينهم. في المقابل، مثل الصديق أبي بكر طليعة المؤمنين، لكنه لم يكن من أمة المسلمين، إذ كان بينه وبين النبي أمد بعيد.

يرى طه أن الإسلام، كما جاء به القرآن، ليس رسالة واحدة، وإنما هو رسالتان. بلغ الرسول الرسالتين، لكنه بلغ الرسالة الأولى مفصلة بالتشريع، وبلغ الرسالة الثانية إجمالًا، لأن القرآن لم يبين منه بالتشريع وبالتفسير إلا الطرف الذي ناسب الزمان وطاقة الناس حينها. قامت الرسالة الأولى على آيات الفروع في الإسلام، وقد نزلت في العهد المدني لمخاطبة أمة المؤمنين بما يناسب عقولهم وطاقاتهم وواقعهم الذي استدعى العمل بالرق وتعدد الزوجات والحجاب وحتى الزكاة مثلًا.

لقد نسخت الرسالة الأولى بآيات الفروع ما سبقها من آيات أصول أكثر سماحة ورحمة وعالمية تنتمي إلى الخطاب المكي، لكن ذلك النسخ قد زال أوانه وحان وقت العودة إلى آيات الأصول الرحبة، أي إلى الرسالة الثانية من الإسلام القادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة. وقد أكد طه أن القرآن المكي أصل والقرآن المدني فرع.

كانت رؤية طه للصلاة أحد أسباب الحكم بردته، إذ فرّق بين نوعين/درجتين من الصلاة. أطلق طه على أداء الصلاة المفروضة الموقوتة ذات الحركات البدنية المعهودة والمشروعة، «صلاة التقليد»، ورأى أنها مؤقتة غير دائمة، فمتى يرتقِ الفرد من مرحلة الإيمان إلى مرحلة الإسلام، تسقط عنه وينتقل إلى عبادات قلبية وروحانية أكثر تجريدًا وخصوصية سماها «صلاة الأصالة».

هاجم طه الأزهر وأئمته، حتى اختار لأحد فصول كتبه عنوان «تاريخ الأزهر تخلف فكري وتملق للحكام»، إذ أخذ عليهم مداهنة عبدالناصر وغيره من الحكام، وتكفير المفكرين ومحاربة المصلحين.

كان طه رافضًا للحركة الوهابية عامة، التي رآها بعثًا متشددًا لمذهب ابن تيمية، ودعوة سياسية متخلفة تتلبس بالدين. أنكر طه أن يكون بين رجال الدين السعوديين علماء، فلم يكن يرى فيهم إلا الجهل الموبق، وإنكار كروية الأرض والصعود إلى القمر وغير ذلك. تعجب طه من تطاول رجال الدين السعوديين على تشريعات البلاد الأخرى وهم يغضون الطرف عن توريث الملك واحتكار الثروات والظلم الاجتماعي، بل ولا ينكرون تفشي الربا في المملكة بكلمة، وهو ما حرمه الله بنص قرآني لا مرية فيه.

كانت آراء محمود محمد طه الدينية، وفي المركز منها مفهوم الرسالة الثانية المحوري، تقود إلى تعطيل الجانب الأكبر من الإسلام الموروث، لكن من داخل النسق الديني ذاته، غير أنها كانت سلاحًا ذا حدين. يمكن رؤية الضرر الذي سببته أفكار طه الدينية بدعواه السياسية والاجتماعية واضحًا في الفصل الأخير من حياته، إذ أعدم عقابًا على آرائه الدينية في الظاهر، بينما تلى الإعدام حكم الردة بنحو عقد من الزمان، وما أجرى تفعيله بتلك الصورة إلا معارضته السياسية للنميري وتشريعاته الأخيرة.


نشأة الإنسان والحافز الأخلاقي في الفكرة الجمهورية

يشغل الإنسان المكانة المركزية في فكر محمود محمد طه، ولا يجوز أن يُتخذ إنسان غاية إلى ما سواه، حتى لو كان أحمق، إذ هو الغاية وراء كل سعي جماعي، بل هو الغاية من الإيمان ذاته لأن بالإيمان تبدأ حوالة المشاكل الكبرى على الله، فتطمئن نفس الإنسان في مواجهة الكروب.

يرى طه أن الإنسان حيوان نزل منزلة الكرامة بالعقل، يتنقل في منازل الكمال تنقلا سرمدياً، وله في هذه النشأة الطويلة أربع مراحل متصلة الحلقات. المرحلة الأولى من النشأة الإنسانية هي الفترة الانتقالية من المادة غير العضوية إلى المادة العضوية، ثم بدأت المرحلة الثانية بحيوان الخلية الواحدة، وانتهت بالحيوانات الثديية، لتبدأ الثالثة ساعة ظهور العقل مع آدم النبي، وهي المرحلة التي تعيش البشرية اليوم آخر أيامها.

لم تأت المرحلة الرابعة من النشأة الإنسانية بعد، وفيها يتميز الإنسان بالترقي إلى الحاسة السادسة والسابعة. الحاسة السادسة المنتظرة عند طه هي الدماغ الموحد لمعطيات الحواس بحيث تمنح الإنسان إدراكًا شاملًا لكل شيء، والحاسة السابعة هي القلب الذي وظيفته تحقيق الحياة الكاملة، وإن ظلت كمالًا نسبيًا مستمر التطور تجاه الكامل المطلق الذي خلقنا على صورته: الله.

بخصوص الحافز الإنساني والأخلاقي،أنكر طه وجودهما بمعزل عن الإيمان، لأن إنسانية الإنسان لا تتحقق بغير إقامة العلاقة بينه وبين الله، هنا يفرق طه بين مستويي إيمان: أولهما، مستوى في العقل الواعي هو القصود عادة بالمصطلح، والآخر، إيمان على مستوى اللاوعي، مترسب في العقل الباطن لا يخلو منه موجود، لكن يظل الأول هو الأبقى ساعة الاختبار.

اتفق طه مع أعلام الداروينية العرب السابقين (شبلي شميل، سلامة موسى، إسماعيل مظهر) في جانب مهم من آرائهم، مثل كون الحياة إحدى ظواهر المادة وجزء منها منذ الأزل، وأن الكائنات الحية أعقاب متسلسلة. تعد المرحلة الثالثة من نشأة الإنسان نقطة الاختلاف الرئيسية بين طه والداروينيين العرب، حيث يرى طه أن العقل برز في الإنسان بتدخل إلهي.


المرأة والمجتمع في الفكرة الجمهورية

بشكل عام، اعتمدت نظرة طه لطبيعة العلاقة بين المرأة والرجل على الإيمان بتطور اجتماعي يقود إلى مساواة تامة بين الرجل والمرأة، وهو ما يراه هدف الإسلام منذ البداية.

أنكر طه أن يكون الحجاب أو عزل النساء عن الرجال أصولًا في الإسلام، وإنما هي تشريعات انتقالية.السفور والاختلاط هما أصل مراد الدين، ثم ضرب الحجاب عقوبة على سوء التصرف في السفور، ومنع الاختلاط ريثما يقوى الرجال والنساء على ممارسة حقهن كاملًا في السفور والاختلاط من غير سقطة أو ذلة، في مجتمع صالح نظيف مبرأ من عيوب السلوك جميعها.

من أجل بلوغ المجتمع الذي تنال فيه المرأة حريتها وحقوقها كاملة، طالبها طه بخمس واجبات لا بد من الاضطلاع بها منها المظهر المحتشم (الفستان ساتر ينزل عن الركبة، ثوب أبيض غير شفاف، تجنب المساحيق والبواريك والكعب العالي والعطور الصارخة).

عند التطرق إلى وضع المرأة القانوني والاجتماعي في آيات الفروع المفتقر إلى المساواة بالرجل، مثل أحكام الميراث وشهادات الديْن، فسره طه بما كان من خضوعها لوصايته وقلة إدراكها وعدم التحامها بالحياة وضعف عقلها. إن آيات الأصول المقرة بالمساواة التامة قد ادُّخرت للناس، وهي أكثر ملاءمة لحياة اليوم بعد انفتاح المرأة على التعلم والعمل واكتساب الخبرات ومضيها في طريق الاستغناء التدريجي عن الرجل. نادى طه بتخصيص بند ثابت في عقد الزواج يشترط على الزوج عدم التعدد، مع إقراره بإمكانية التعدد في بعض الحالات مثل عقم المرأة أو مرضها مرضًا لا يرجى منه شفاء، وإن كان ينكر أن يكون الطلاق أصلًا في الإسلام.

على الرغم من ذلك، حمل طه رؤية تقليدية لدور المرأة، تجعل المنزل مكانها الأسمى حيث تربي المجتمع وتعده رجالًا ونساءً.

كانت الحقوق والحريات عند طه فردية بالأساس، ورأى أن الإسلام يرفض كل طمس لهوية الفرد أيًا كان، وجعل تلك الحقوق أساسًا للواجبات. أقر طه بأن الأصل في الحقوق الفردية الإطلاق، لكنه نبه إلى إمكانية مصادرتها حين يعجز عن القيام بمقتضاها، واعتبر الحرية المقيدة هي حرية مطلقة تناسب قدر احتمال أهل الأرض، وبهذا يكون القيد لازمة مرحلية تصاحب الفرد خلال تطوره، ومن هنا كان فهم طه للاختلاط والحجاب وسائر قضايا المرأة والمجتمع.

الديمقراطية عند طه هي الأصل في الإسلام، يستند في ذلك إلى قوله تعالى «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر»، وهي عنده من آيات الأصول. ليست الشورى عند طه إلا حكم فرد رشيد يعد الأمة لتصبح ديمقراطية، وهي فرع في الإسلام، وليست آية «وأمرهم شورى بينهم» بآيـة ديمقراطية، وإنما آية تنزلت من آية الديمقراطية لتعد الناس ليستأهلوا الديمقراطية حين يأتي أوانها. يستلزم تحقيق الديمقراطية تطبيق الاشتراكية التي تعني تشارك الناس خيرات الأرض.

بشكل عام، كانت آراء طه الاجتماعية والسياسية الأكثر أهمية وإثارة لحركة الاجتماع السوداني في حينها، وإذا كانت أعدمت بحبل آرائه السياسية فلعل البعض يرى استحالة تحقيقها من الأساس دون زلزلة للإسلام الموروث الذي مثل عائقًا أمام التغييرات الاجتماعية الضرورية في أنظارهم، خاصة في قضايا الديمقراطية والمساواة الاجتماعية وحقوق المرأة على سبيل المثال.


العالم والصراع الإسرائيلي في الفكرة الجمهورية

يدل النظر إلى حال البشر في نظر طه إلى حتمية قيام حكومة واحدة، وكذا لزوم بروز مذهبية اجتماعية عالمية موحدة، تلتقي عندها الإنسانية جمعاء بصرف النظر عن اختلاف اللون واللسان والموطن. تلك الوحدة العالمية مسألة وقت لا غير، لكنها تستلزم السلام أولًا، بعد أن صارت الحرب غير ذات موضوع، وظهر عجزها عن حل مشاكل اليوم بل إنها تزيدها تعقيدًا.

عجزت الحضارة المادية الغربية، بشقيها الشيوعي والرأسمالي، عن تحقيق الوحدة الفكرية لقيامها على القيمة المادية لا الفكرية، تمامًا مثلما عجزت عن مزج الاشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد، وغدت البشرية اليوم في حاجة الى مدنية توفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية الكاملة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، و لا سبيل إليها بغير الإسلام.

يؤكد طه على التفرقة بين الاشتراكية والماركسية، فالثانية من مدارس الأولى، و يؤخذ عليها سحب الفكرة التطورية من الماضي على المستقبل، وتلبيسها الديكتاتورية لباس الديمقراطية، وإنكار الإله. ولا ينكر طه أن الماركسية، كما طبقت في روسيا والصين، كانت مرحلة من مراحل التاريخ البشري الضرورية التي خدمت أغراضها.

نبه طه إلى أن الماركسية لا تقدم للإنسان غير الخوف، والتضليل، بعد أن قطعت علاقتها بالله. فالإنسانية تتطلب هزيمة الماركسية، لأن الطريق إلى الاشتراكية أولًا، وإلى الشيوعية ثانياً، وإلى الديمقراطية نهاية، لا يقع إلا على أنقاض الماركسية. تنبأ طه بالسقوط الحتمي للاتحاد السوفيتي أمام الغرب، كحال الديكتاتوريات في مواجهة الديمقراطيات، سالم أو حارب.

يرى طه خطأ الاعتقاد الشائع بقتال المسلمين لليهود قرب نهاية الزمان، إذ سيتحول اليهود وجميع الملل إلى الإسلام وستنتفي الحاجة إلى أي حرب. بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي، أنكر طه على العرب في عصره ذهولهم عن حقيقة أمرهم ومقدرة عدوهم، إذ لم يعتبروا بدرس شتاء عام 1956 القاسي، وأعادوه في 1967 بمزيد ضحايا وخسائر ومرارة. أيد طه والجمهوريون مبادرة السادات بزيارة القدس، وطالبوا العرب والفلسطينيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والتعايش مع إسرائيل في سلام.

لم ينكر الجمهوريون ما تشكله إسرائيل من تحد مصيري، لأن العرب يواجهون فيها الحضارة المادية الغربية بمنجزاتها الهائلة، لكنهم رأوا أن مشكلة الشرق الأوسط الكبرى هي انعدام المذهبية الموحدة للعرب، وحين يصلح العرب أحوالهم بنهضة دينية تعيد لهم مجدهم لن تكون إسرائيل مشكلة. تقتضي رسالة المسلمين المقدسة عدم خوض صراع حضاري بحت مع إسرائيل، وإنما تلقيح الحضارة المادية وتتويجها بالمادية الروحية.

لم يكن محمود محمد طه منظرًا تأسيسيًا أو دارسًا متبحرًا لكثير مما ناقشه، لكنه كان مفكرًا بالمعنى العربي للكلمة، وهو ما يدل على جرأة في اقتحام الملفات وإصدار الأحكام العامة الاختزالية النهائية، وإلى هذه الخصلة ترجع تنبؤاته الكبرى في السياسة العالمية بشكل خاص.