في خضم الحياة اليومية نلجأ إلى الاعتماد على التكنولوجيا المتطورة المتاحة في أجهزة الكمبيوتر والموبايل من أجل قضاء أعمالنا المختلفة وتسليتنا، نظرًا لما توفره تلك الأجهزة من وسائل ترفيهية لا متناهية، متمثلة في الألعاب والأفلام والمسلسلات ومنصات التواصل الاجتماعي.

وبسبب اعتمادنا شبه الكلي على تلك الأجهزة صار من الصعب الشعور بالملل، فهي دائمًا في متناول أيدينا ونستطيع استخدامها وقتما أردنا بمجرد إحساسنا العابر بالضجر.

والسؤال الآن: كيف تؤثر هذه الوسائل المتنوعة في عقولنا وقدرتنا على التفكير؟ وهل يؤثر حصولنا الدائم على التسلية سلبًا أم إيجابًا في قدراتنا الإبداعية؟ وهل للشعور بالملل فائدة في حياتنا، أم أن علينا محاربة هذا الإحساس دومًا؟

الشعور بالملل حالة عقلية

تشير الجمعية الأمريكية لعلم النفس إلى أن الشعور بالملل (Boredom) يعني «السأم بسبب عدم التفاعل مع المحفزات الموجودة في البيئة التي تحيط بنا، ويُعَد أحد أنواع المشاعر التي لا يفضلها البشر على الإطلاق، وقد يصفون أنفسهم بأنهم مصابون بالاكتئاب».

وعد بعض الفلاسفة الملل شرًّا كبيرًا يواجه البشرية، ويُذكر أن الفيلسوف سورين كيركجارد قال: «الملل جذر كل الشرور»، ويُنْسَب لأرثر شوبنهاور قول: «العدوان الأساسيان لسعادة الإنسان هما الألم والملل»، كما يُنسب لتوماس كارليل قول: «أطمح أن أموت تعبًا لا مللًا».

وتقدم إحدى المراجعات البحثية تعريفًا إضافيًّا للملل:

حالة من الصراع بين الميل إلى استكمال أمر ما والبعد عنه لأنه صار مزعجًا بسبب عدم وجود محفزات كافية لاستكماله.

وفي محاولة من أجل التوصل إلى تعريف أكثر دقة، بحث عالم النفس جون إيستوود – الحاصل على درجة الدكتوراه في جامعة يورك بمدينة تورونتو الكندية – في الدراسات والنظريات المختلفة كي يحدد تعريف الملل، وتوصل إلى وجود ارتباط بينه والانتباه.

وتوصل إيستوود إلى التعريف التالي: «الملل رغبة غير متحققة في ممارسة فعل مُرضٍ أو مُشبِع»، وهو أمر يعني أن الشعور بالملل لا يرتبط بحالة الإنسان المزاجية، فقد يعانيه المرء، سواء كان مثارًا أو لا.

واستنتاجًا مما سبق نجد أن الملل – في ظاهره – شعور كريه يحاول الإنسان تجنبه، وينتج من انعدام التفاعل مع البيئة المحيطة بالإنسان. السؤال الآن: هل الملل مفيد أم مضر؟

ملل حتى الموت

ظل الملل مدة طويلة خارج إطار اهتمام أخصائيي علم النفس، الذين بدأوا مؤخرًا في دراسة أسبابه وتأثيره في حالة الإنسان النفسية وصحته، وقد أشار عدد كبير من الباحثين إلى أن الملل قد يؤدي إلى أضرار ومخاطر كثيرة مقارنة بفوائده.

هل تفضل الجلوس بلا حراك وحيدًا ضجرًا تفكر، أم الشعور بالألم؟ طرح علماء النفس بجامعتي فرجينيا وهارفارد هذا السؤال، فصمموا تجربة يجلس خلالها الشخص على كرسي مدة ربع الساعة للتفكير فقط، مع وجود خيار وحيد آخر يتضمن التعرض لتيار كهربي بسيط.

وأشارت نتائج هذه الدراسة إلى أن ثلثي الرجال محل الاختبار فضلوا خيار الألم الكهربي عن الجلوس ساكنين للتفكير، ووصل الأمر إلى أن أحد المشتركين في الاختبار عرَّض نفسه إلى نحو 190 صدمة كهربائية خلال هذه المدة القصيرة!

ولم يقتصر الأمر على الرجال فقط، فقد اختارت ربع السيدات التعرض للصدمة الكهربائية أيضًا، ويُرجِع الباحثون زيادة عدد الرجال الذين اختاروا الصعق الكهربائي مقارنة بالنساء إلى أنهم «ساعون إلى الإحساس» (Sensation seeking)، أي يميلون إلى اختبار الأحاسيس والمشاعر والتجارب الجديدة.

ولا تتوقف أضرار الملل عند هذا الحد، فقد وجد جيمس دانكِرت – أستاذ علم النفس الإدراكي في جامعة واترلو – الذي شارك إيستوود في تقديم كتاب «Out of my skull» أن الإنسان سهل الإصابة بالملل لا يستطيع أداء المهام التي تتطلب تركيزًا بكفاءة، وقد يختبر أعراضًا حادة ترتبط بالاكتئاب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه «ADHD». وعن ذلك يوضح دانكِرت: «الملل المزمن قد يشبه الاكتئاب، إلا أنهما تجربتان مختلفتان شعوريًّا».

ويخمن إيستوود أن الملل قد يكون عامل خطر للإصابة بالاكتئاب: «حينما يمل الناس فقد يمتنعون عن المشاركة في الأنشطة المُشْبعة، ويدخلون في دائرة من معاناة المشاعر السلبية».

إضافة لما سبق، قد يواجه الفرد سهل الإصابة بالملل مخاطر معاناة القلق، وإدمان الكحوليات والمواد المخدرة، واضطرابات الطعام، وانخفاض كفاءة أداء الأعمال المختلفة.

فوائد إبداعية غير متوقعة

رغم أضرار الشعور المستمر بالملل، قد يكون اختباره ضروريًّا لتحفيز مخيلتك وقدراتك الإبداعية، وهو الأمر الذي كشفت عنه دراسة الباحثتين ساندي مان وريبيكا كادمان الهادفة إلى تحديد العلاقة بين الملل والقدرة على الإبداع.

انقسمت الدراسة إلى جزأين: تضمن الأول 80 مشاركًا بعضهم يمارس مهمة كتابية مملة، وبعضهم الآخر لا يفعل أي شيء، ثم يبدأ أفراد المجموعتين أداء عمل يستدعي الإبداع، وهو ذكر كل الاستخدامات المتاحة لزوج من الأكواب البلاستيكية.

أما الجزء الثاني فتضمن 90 مشاركًا يؤدون مجموعة مختلفة من المهام المملة تشمل القراءة والكتابة، ولا يمارس المتبقون أي نشاط، ثم يعمل أفراد المجموعة بعد ذلك على أداء نفس المهمة الإبداعية.

أشارت نتائج الدراسة إلى أن الأفراد الذين مارسوا أنشطة مملة قدموا إجابات إبداعية أكثر مقارنة بأولئك الذين لم يختبروا الملل، وهي نتائج تقترح تعرض الإنسان الذي يختبر الملل إلى «تأثير أحلام اليقظة» الذي يسمح له بالتفكر بعيدًا عن مصادر التشوش والإزعاج، بالتالي يصير الفرد أكثر إبداعًا.

ويدلي عالم النفس إيستوود بدلوه في هذا الأمر موضحًا: «شعورك بالملل حالة من انعدام الراحة. إنك متحمس من أجل البحث عن شيء آخر غير ما تفعله، الأمر الذي يمثل فجوة قد تمثل فرصة حقيقية لاكتشاف شيء ما».

ويتفق الكتاب المحترفون مع هذه النظرية، فقد ادَّعى بعضهم ضرورة وجود لحظات مملة تدفعهم إلى الإبداع، وهو ما قالته كاتبة القصص البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي خلال حوار مع شبكة بي بي سي في العام 1955: «لا يوجد شيء يكافئ الملل يدفعك نحو الكتابة».

ويقدم الكاتب نيل جايمان نصيحة إلى الكتاب الشباب قائلًا:

اسمح لنفسك بأن تشعر بالملل حتى لا يجد عقلك شيئًا يفعله إلا أن يقص لنفسه قصة ما.

وتقص كاتبة مجموعة قصص هاري بوتر الشهيرة جي كي رولنج خلال لقاء كيفية توصلها إلى فكرة كتابها في أثناء استقلالها القطار من مانشستر إلى لندن: «لم أمتلك قلمًا خلال الرحلة وشعرت بالخجل من أن أطلب شيئًا، الأمر الذي جعلني غاضبة، وحينما أتذكر الأمر أجد أنه أفضل شيء حدث لي، فلقد أعطاني فرصة الجلوس 4 ساعات كاملة للتفكير في موضوعات كتابي».

استغل الملل في إطلاق إبداعك

ينفر الإنسان بطبعه من الملل، إلا أن الشعور به لا يضر، فبعض الناس لا يحصلون على أفكار مميزة إلا وقت الاستحمام، وتحصل مجموعة أخرى على أفكارها خلال أداء الأنشطة الروتينية، مثل تنظيف المنزل وغسل الأطباق. المميز في هذه الأنشطة عدم حاجتها إلى التفكير العميق، فالإنسان يؤديها وعقله هائم، أي إنه قد يفكر في أي أمر باستثناء العمل الذي يؤديه.

ومن الأنشطة المفيدة التي تدعم التفكير الإبداعي المشي، فقد وجدت دراسة أن قدرة الفرد على الإبداع تزيد بمعدل 60% في أثناء المشي. وطبقًا للباحثين لا يتعلق الأمر بالبيئة التي يسير فيها الفرد، إنما يتعلق بعملية المشي نفسها. وينصح بعض المبدعين بالتجول في الأماكن المفتوحة، خاصة تلك التي تحوي مناظر طبيعية يحب الإنسان أن يتأملها.

ولعل النصيحة الأهم لتعزيز إبداعك هي عدم الاستسلام لاستخدام الموبايل المفرط، خاصة منصات التواصل الاجتماعي التي تعزز حصول الفرد على الإشباع السريع، مانعة إياه من الوصول إلى حالة الملل التي تدعم التأمل والتفكر.

ولا يعني وجود فوائد للملل استسلامنا إليه، فالانخراط فيه غير محبذ، وقد يؤدي كما ذكرنا سابقًا إلى مجابهة بعض المشكلات. وفيما يلي دعونا نذكر بعض النصائح المهمة التي تجنبنا معاناة الشعور السلبي المصاحب للملل.

  • وازن بين ممارسة الأنشطة والراحة: اعمل على ممارسة الأنشطة المتنوعة التي تتضمن التفاعل مع الآخرين، لكن لا تهمل وقت الراحة أبدًا الذي يسمح بإعادة شحن طاقة عقلك.
  • جرب أشياء جديدة: مارس الرياضة، أو تعرف إلى هواية جديدة، أو اقرأ كتابًا. كل ما سبق أمور من شأنها تعزيز شعورك بالاستمتاع وتجنب الضجر.
  • اقضِ بعضًا من وقتك في الطبيعة: الجلوس في الحدائق ومشاهدة الطيور من الأمور التي تعزز التأمل وتعمل على تهدئة العقل.

وبعيدًا عن الملل، تقدم جمعية علم النفس الأمريكية مجموعة من النصائح التي تعزز قدراتك الإبداعية، وتشمل هذه النصائح:

  • احمل أداة لتسجيل الأفكار: احتفظ بورقة أو مفكرة أو أي شيء يمكنه تسجيل الأفكار التي تجول فجأة بخاطرك.
  • اجعل معرفتك أكثر شمولًا: إن التعرف إلى معلومات جديدة يوسع مداركك ويعزز قدراتك الإبداعية بصورة ملحوظة.
  • أحط نفسك بأفراد وأشياء مثيرين: حضور الأوبرا وزيارة المتاحف إلى جانب الحصول على العشاء مع الأصدقاء لهي أمور تعزز قدرة الفرد على التفكير.

الانخراط في الملل أو عدم الشعور به على الإطلاق أمران يجب أن نحذرهما، فعلينا أن نتجنب الملل المستمر باكتشاف كل ما هو جديد، وفي نفس الوقت عليك تجنب التسلية المفرطة التي تقدمها وسائل التكنولوجيا. الوسطية هي الحل الأمثل!