مدينة على شاطئ البحر، عليها سور صخرٍ والبحر في قبلتها، وهي حسنة عامرة آهلة، كثيرة الديار، وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهي تحمل إلى مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبًا وعذوبةً، ولها ربضان كبيران، وشرب أهلها من الآبار، ولها وادٍ يجري في زمان الشتاء، وليس بدائم الجري… وبها مبانٍ فخمة، وحمامات حسنة، وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة.
الحميري يصف مالقة في كتابه «الروض المعطار»

ما تزال الأندلس حاضرة في أذهان المسلمين بتاريخها وحضارتها، وما فتأت حواضرها العمرانية تتراءى أمام أعيننا بما كانت تمثله للإسلام من تاريخ وحضارة لما يقارب الثمانية قرون. ومدينة مالقة الإسبانية واحدة من تلك الحواضر الأندلسية الجنوبية الفريدة، فقد كانت يومًا «حسناء الأندلس».

أسس الفينيقيون مدينة مالقة (بالإسبانية Malaga) على الساحل الجنوبي الشرقي للأندلس على رأس خليج تشرف عليه من الجهة الشرقية ربوة مرتفعة تسمى بجبل فارو (بالإسبانية Gibral Faro)، وأطلقوا على تلك المدينة أو المستعمرة اسم Malacka أو Malaca. ومالقة الآن مدينة إسبانية واقعة في جنوب البلاد وهي عاصمة مقاطعة مالقة في منطقة أندلوسيا، تطل على البحر المتوسط وتقع وسط منطقة كوستا دل سول، وهي أهم ميناء إسباني بعد برشلونة.

قال عنها المقري: «ومالقة حيث الجو الصقيل، والروض الذي يطيب به المقيل، والراحة التي تمتزج بالأرواح كما قيل».


الفتح الإسلامي لمدينة مالقة

كان فتح مالقة من أيسر وأسهل الفتوح الإسلامية في الأندلس، إلا أنه تم فتحها مرتين، وتلك كانت طبيعة فتح الكثير من البلدان الأندلسية. كان الفتح الأول في زمن طارق بن زياد (سنة 92هـ)، فبعد فتح قرطبة على يد مغيث الرومي، أرسل طارق حملات أخرى إلى غرناطة وإلبيرة ومالقة، فافتتحت مالقة وفر سكانها إلى الجبال، ثم لحق جيشها بالجيش المتجه إلى إلبيرة وغرناطة، فحوصرت غرناطة قليلا وفتحت، ثم فتحت إلبيرة. وكان فتحًا هامشيًا قصيرًا، ما لبث فيه أهل مالقة أن استعادوا مدينتهم من الجيش الذي بقي لحفظها وتحصنوا فيه وقاوموا المسلمين كبعض مدن الأندلس.

والفتح الآخر: كان فتحًا حقيقيًا أكد الفتح الأول، والراجح أنه كان في عام (94 – 95هـ / 713م)، عندما أرسل موسى بن نصير ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير لاستكمال فتح شرق الأندلس.

قامت مدينة مالقة بدورٍ كبير في البناء السياسي والاقتصادي لدولة المسلمين في الأندلس، وبلغت قمة المجد في عصر الموحدين، وأكثر منه في عصر النصريين

ولمدينة مالقة أثر يذكر وفضل يشكر عند عبد الرحمن الداخل خاصة والأمويين عامة؛ لا سيما وأنها كانت من أسرع المدن دخولًا في طاعتهم وتأييدًا لدعوتهم؛ مما أفاض عليها الكثير من الخير والرعاية في أكثر عهد الإمارة والخلافة، وبرزت مالقة كذراع أيمن متقدم في جسم الدولة الأموية، وباتت إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان التي جمعت بين مرافق البر والبحر، يقصدها التجار والمراكب من كل مكان. وقد استمرت في هذا التألق حتى نهاية القرن الرابع الهجري، إذ كانت في عهد الحكم المستنصر من أهم كور الأندلس التي وجه اهتمامه بها برًا وبحرًا.

ومع بزوغ فجر القرن الخامس الهجري حدثت الفتنة الأندلسية بسقوط قرطبة وانتهاء الخلافة الأموية في الأندلس وقيام عهد الفتنة، حيث استقل بمالقة بنو حمود عام (407هـ)، وصارت مالقة قاعدة المملكة الحمودية (422 – 448/ 449هـ )، ثم إنه تم إخضاع مالقة إلى بني زيري (448/ 449 – 483هـ)، ثم خضعت مالقة لحكم المرابطين عام (483 – 541هـ)، ثم خضعت لسلطة الموحدين (548 – 626هـ) طواعية من غير قتال.

وفي عام (626هـ)، وبعد ضعف الموحّدين، ضمَّ محمد بن يوسف بن هود مالقة إلى مملكته، وظلّ حاكمها حتى توفي سنة (635هـ / 1238م)، حظيت فيها مالقة بالتطور والاستقرار مثلما شهدته أيام الموحدين، ثم كانت مالقة حاضرة كبرى من حواضر مملكة بني الأحمر (بنو نصر) بغرناطة (635 – 892هـ)، واتخذها بنو الأحمر العاصمة الثانية لهم بعد غرناطة، فلعبت دورًا سياسيًا خطيرًا كان له أكبر الأثر في تكوين المملكة وصمودها، كما لعبت دورًا حضاريًا كبيرًا خاصة في الإنتاج المعرفي والاقتصادي.

وهكذا قامت مدينة مالقة بدورٍ تاريخي كبير في البناء السياسي والاقتصادي لدولة المسلمين في الأندلس، وذلك في عصر الطوائف والمرابطين، وبلغت قمة المجد والازدهار الحضاري في عصر الموحدين، وأكثر منه في عصر النصريين، الذي شهد دورًا جهاديًا كبيرًا لمالقة في محاربة الصليبيين في القرنين الثامن والتاسع الهجريين.


مالقة: الجنة من ههنا

كان لموقع مالقة الجغرافي الممتاز على طرق المواصلات البحرية في منطقة حوض غرب البحر المتوسط أثر كبير في الانتعاش والازدهار التجاري الذي تمتعت به، فكانت في معظم فترات العصر الإسلامي من المراكز التجارية والموانئ الهامة في بلاد الأندلس، كما كانت إحدى المحطات البحرية، سواء لشحن وتفريغ السفن أو لإصلاح ما يتعطب منها، فتشير المصادر الجغرافية إلى أن مالقة كانت مقصد المراكب ومحج التجار، وأن أسواقها عامرة ومتاجرها زائرة.

كانت مالقة قبلة التجارة والرحلات،ومن أهم مراكز صناعة الحرير والخزف والجلود، وتميزت بأنهارها الكثيرة وزراعاتها الرائعة ومحاصيلها الوفيرة

لذا امتازت مدينة مالقة بكثرة الأنهار والنهيرات العديدة على بسائطها الماء الغزير؛ مما أهلها أن تكون عامرة بالسكان والمدنية الحديثة. قال الحميري: «ولها ربضان كبيران، وشرب أهلها من الآبار، ولها وادٍ يجري في زمان الشتاء، وليس بدائم الجرى، … وبها مبانٍ فخمة، وحمامات حسنة، وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة».

كما عمِّرت مالقة بزراعة التين حتى اشتهرت به، فكان رأس صادراتها إلى بلاد العالم. قال الحميري: «وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهي تحمل إلى مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبًا وعذوبةً»، وكان يقام في أيام جني ثمار التين عيد يحتفل به أهل مالقة وأعيانها. واشتهرت مالقة بزراعة الجوز وكانت فاكهة اللوز بمالقة ليس لها نظير في الأرض، كما اشتهرت بزراعة الموز والسكر والرمان والزيتون.

وكانت ثغور الأندلس الجنوبية، ولاسيما مالقة وألمرية، من أغنى الثغور الإسبانية وأزخرها بالحركة التجارية، وكانت مالقة وألمرية من أعظم موارد الأندلس في صناعة الحرير. وقد نقلت المدن الإيطالية، التي اشتهرت بصناعة الحرير في العصور الوسطى، عن الأندلسيين معظم فنونهم وطرائقهم في هذه الصناعة المربحة، وكانت مدينة فيرنتزا (فلورنس) تستورد كميات كبيرة من الخام من غرناطة، حتى أواخر القرن الخامس عشر.

ولبثت صناعة الأواني الخزفية الجميلة مزدهرة حتى العصر الأخير، وما زالت بقايا هذه الصناعة الأندلسية القديمة قائمة حتى اليوم في بعض المدن الإسبانية ولاسيما في إشبيلية ومالقة، وما زالت المتاحف الإسبانية تغص بكثير من الأواني الخزفية الأندلسية والموريسكية البديعة الصنع والزخرف. وكذلك لبثت صناعة الجلود الفاخرة الملونة، حتى نُفي الموريسكيون، وقد نقلت بعد نفيهم على يدهم إلى أوروبا.

وقد اشتهر بمالقة الكثير من الأعلام، منهم ابن أخت غانم من أعيان مالقة ولهم مشاركة في علم الفلاحة. قال ياقوت: «وقد نسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم: عزيز بن محمد اللخمي المالقي وسليمان المعافري المالقي».

وممن اشتهر بمالقة الأمير الأديب أبو الوليد إسماعيل بن يوسف بو محمد بن الأمير الرئيس أبي سعيد فرج أمير مالقة المعروف بالأمير ابن الأحمر. وكان أديبًا ضليعًا، وقد تناول في كتابه «نثر فرائد الجمان في نظم فحول الزمان»، أكابر الكتاب والشعراء في القرن الثامن الهجري، ولمع الأمير ابن الأحمر في أواخر القرن الثامن، وتوفي سنة 807 هـ / 1404 م.


هكذا ضاعت مالقة

ظلت مالقة لمدة 8 قرون بيد المسلمين، وكانت من أواخر المدن الأندلسية التي سقطت بيد النصارى. فقد جرَت محاولات إسبانيّة للسيطرة على مالقة عامي (887هـ، 888هـ)، ولكنها فشلت بفضل استبسال الزغل، الذي تولّى الحكم فيها بدلًا من أخيه، وعادت المحاولات من قشتالة ولكنها استطاعت السيطرة على مالقة بعد حصار طويل وذلك في (891هـ).

تتابعت محاولات القشتاليين للسيطرة على مالقة، على مدار خمس سنوات، حتى تمكنوا من حصارها والاستيلاء عليها عام 892هـ / 1487م، وكان سقوطًا فادحًا.

كانت مدينة بَلِّش مالقة (Vélez Malaga) حصن مالقة، وسقوطها يعرض مالقة لأشد الأخطار، وأدرك مولاي الزغل في الحال أهمية بلش فهرع إليها في بعض قواته، ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل بلش في الدفاع عن مدينتهم لم تغن شيئًا، وسقطت بلش مالقة في يد النصارى في جمادى الأولى سنة 892 هـ / أبريل (نيسان) سنة 1487م. وعلى إثر سقوطها غادرها معظم أهلها، وتفرقوا في أنحاء الأندلس الأخرى الباقية بيد المسلمين، وجاز كثير منهم إلى عدوة المغرب، واستولى النصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كل صوب.

وكانت مالقة ما تزال أمنع ثغور الأندلس، وقد أضحت بعد سقوط جبل طارق عقد صلتها الأخيرة بعدوة المغرب. وكان فرناندو الصليبي ملك قشتالة يحرص على أن يقطع كل وسيلة ناجعة لقدوم الأمداد من إفريقية وقت الصراع الأخير، وكان الاستيلاء على مالقة يحقق هذه الغاية.

ومن ثم فإنه ما كاد النصارى يظفرون بالاستيلاء على بلش والحصون المجاورة، حتى زحفوا إلى مالقة وطوقوها من البر والبحر بقوات كثيفة، وذلك في جمادى الثانية سنة 892هـ / يونيو (حزيران) 1487م. وامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين وعلى رأسهم نخبة مختارة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعدد الثقيلة. وكانت مالقة تدين بالطاعة للأمير محمد بن سعد الزغل صاحب وادي آش، ولكنه لم يستطع أن يسير إلى إنجادها بقواته خوفًا من غدر ابن أخيه أمير غرناطة، فترك مالقة إلى مصيرها وهو يذوب تحسرًا وأسى.

ولكنه فكر في وسيلة أخيرة لعلها تجدي في إنقاذ الأندلس من خطر الفناء الداهم؛ هي أن تستغيث بملوك الإسلام لآخر مرة، فأرسل رسلاً إلى أمراء إفريقية وإلى سلطان مصر الأشرف قايتباي. ولم يكن من المنتظر إزاء بعد المسافة أن تصبر مالقة على ضغط النصارى حتى يأتيها المدد المنشود، وكان يتولى الدفاع عن الثغر المحصور جند غمارة وزعيمهم حامد الثغري.

وأبدى المسلمون فى الدفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد، وحاولوا غير مرة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنصارى في بضع مواقع محلية، ومع ذلك فقد ثابر النصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتى قطعت كل علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الأمداد والأقوات. وعانى المسلمون داخل مدينتهم أهوال الحصار المروع، واستنفدوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، وأكلوا الجلود وأوراق الشجر، وفتك بهم الجوع والإعياء والمرض، ومات كثيرون من أنجاد فرسانهم، ولم يجدوا في النهاية لهم ملاذًا سوى التسليم على أن يُؤمَّنُوا في أنفسهم وأموالهم.

وهكذا سقطت مالقة بعد دفاع مجيد استطال ثلاثة أشهر في أيدي النصارى، وذلك في أواخر شعبان سنة 892هـ / أغسطس آب 1487م. وبعد سقوط مالقة نشأت مقاومة داخلية في المدينة تزعمها البطل القائد حامد الثغري الذي قتل ودفن في كهف بقرمونة (بأشبيلية).


الغدر الإسباني المتربص

لقد كان دخول النصارى إليها مختلفًا عن دخولهم لغرناطة رغم أنهم تعهدوا بتأمين أهلها على أموالهم وأنفسهم كما فعلوا في هذه الأخيرة. فإذا كان النصارى قد احترموا بنود اتفاقية غرناطة على الأقل خلال السنوات الأولى، فإن بنود اتفاقية تسليم مالقة لم يكد يجف حبرها على الورق حتى سفكت الدماء وانتهكت الأعراض واسترقّ الأحرار وبُعث ببعضهم هدايا للبابا.

وإذا كان أهل غرناطة لم يحملوا السلاح في وجه الغزاة عند دخولهم لغرناطة، فإن فرسان مالقة من البربر الغماريين والمالقيين، على رأسهم حامد الثغري وعلي دربال، آثروا الموت على رؤية الغازي النصراني سيدًا لمالقة. وكان لهم رحمهم الله ما أرادوا حيث تمركزوا في جبل الفارو (Gibralfaro 0) وقاتلوا حتى نفدت قواهم، فتم قتل واعتقال الغماريين وسجنهم في زنازين تحت الأرض.

وهكذا لم يحافظ فرناندو على ما بذله لأهل مالقة من عهود لتأمين النفس والمال، وأصدر قرارًا ملكيًا باعتبار أهلها المسلمين رقيقًا يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتاعهم، ويفرض على كل مسلم أو مسلمة مهما كان السن والظروف، الأحرار منهم والعبيد الذين في خدمتهم، فدية للنفس والمتاع، قدرها ثلاثون دوبلا من الذهب الوازن اثنين وعشرين قيراطًا، أو ما يوازي هذا القدر من الذهب والفضة واللآلئ والحلي والحرير، وأنه يسمح لمن أدوا هذه الفدية، إذا شاءوا، بالعبور إلى المغرب وتقدم السفن لنقلهم، وأنه لا يسمح للمسلمين ذكورًا أو إناثًا بالعيش أو الإقامة في مملكة غرناطة، ولكن يسمح لهم أن يعيشوا أحرارًا آمنين في أية ناحية من نواحي قشتالة، وأنه لا يتمتع بهذه المنح بنو الثغري وزوجاتهم وأولادهم، وبعض أفراد أشار إليهم القرار.

ودخل النصارى المدينة دخول الفاتحين، وعاثوا فيها وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والمتاع، وفر من استطاع من المسلمين إلى غرناطة أو وادي آش أو جاز إلى العدوة. وكان هذا التصرف نموذجًا لما يضمره ملك النصارى نحو معاملة المسلمين المغلوبين، ولما تنطوى عليه سياسته من نكث للوعود والعهود. وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة في وصف محنة أهل مالقة «وكان مصابهم مصابًا عظيمًا تحزن له القلوب وتذهل له النفوس، وتبكي لمصابهم العيون».

وكان سقوط مالقة أمنع الثغور الأندلسية في يد النصارى ضربة أليمة للمملكة الإسلامية الممزقة، يحرمها من كثير من ضروب الإمداد والغوث التي كانت تأتيها من وراء البحر، وكان واضحًا أن ملك قشتالة يرمي إلى قطع هذه الأمداد بكل الوسائل. ولم يكن باقيًا بعد ضياع جبل طارق ومالقة بيد المسلمين من الثغور سوى ألمرية والمنكب، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعة والمجاهدين، بالرغم من بعدهما عن شواطئ العدوة، وكان لابد من الاستيلاء عليهما، قبل أن تقطع كل صلة للأندلس نهائيًا بعدوة المغرب وشمال إفريقية.

وقضى فرناندو قبل تنفيذ هذه الخطة زهاء عام، يعمل على تطهير منطقة مالقة، والاستيلاء على ما بقي من الحصون الشرقية والغربية، حتى استولى عليها جميعًا ولم يبق منها بيد المسلمين شيء.

كما قام فرناندو برفع الصليب في أعلى برج التكريم (أحد أبراج قصبة مالقة المنيعة)، بدلًا من راية التوحيد، وتحويل المسجد الجامع إلى كنيسة سانت ماريا.

ولعل من أشهر المراثي التي نظمت في رثاء الأندلس عقب المحنة بقليل، رثاء طويل مؤثر لشاعر أندلسي مجهول، يبدو أنه عاصر حوادث المحنة من بدايتها حتى نهايتها. وإليك مقتطفات من تلك المرثية المشجية التى رتبت وفقًا للوقائع والتواريخ، حيث يقول يرثي مالقة:

فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة *** قــد استفرغت ذبحًا وقتلا حجورها وجزت نواصيها وشلت يمينها *** وبــدل الويل المبيــن سرورها وقد كانت الغربية الجنن التي *** تقيها فأضحى جنـة الحرب سورها وبلِّش قطعت رجلها بيمينها*** ومـن سريان الـداء بــان قطورها وضحت على تلك الثنيات حجرها *** فأقفر مغناها وطاشت حجورها

مفارقة عجيبة

لم يحافظ فرناندو على ما بذله لأهل مالقة من عهود لتأمين النفس والمال، وأصدر قرارًا ملكيًا باعتبار أهلها المسلمين رقيقًا يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتاعهم

ولعلنا نختم بمفارقة عجيبة ذكرها الجغرافيون والمؤرخون في كتبهم، تبرز ما كانت تمثل مالقة في أعين أهلها وما لم يكن بها من حسبان. قال الحميري: «وذكرها الأُوَل في كتبهم فقالوا: مدينة مالقة لا بأس عليها، ولا فرق، آمنة من جوعٍ وسبيٍ ودمٍ، مكتوب ذلك في العلم الذي يكتب، وقد قيل إن هذه الكلمات وجدت في بعض حجارتها نقشًا بالقلم الإغريقي».

وقد علق على ذلك بقوله: «وجميع هذه الآثار التي أمنها منها، وبقاؤها عنها، قد لحقت بها، وجمعت لها سنة 459هـ، بمحاصرة عباد بن عباد لها، واستطالة برابر قصبتها على أهلها، فشملهم الضر، وعمهم الفقر، ثم استحلت حرماتهم وسفكت مهجاتهم، فما نجا في البحر إلا الشريد، ولا تخلص إلا السعيد، فخلت ديارهم، وتعطلت آثارهم».

وهكذا انقضت 800 سنة من عمر مالقة في الإسلام، سُجِّل تاريخها بكل ما فيه من الأفراح والعز والمجد، وما شابه من الأحزان والذلة والضعف، خاصة زمن السقوط الذي كان من أهم أسبابه عدم وجود أسطول بحري يدافع عن مالقة، وانغماس فئات من أهلها في اللهو والملذات، وبعدهم عن الدين وأخلاقه.

المراجع
  1. الحميري: صفة جزيرة الأندلس منتخبة من كتاب الروض المعطار، عنى بنشرها وتصحيحها وتعليق حواشيها: إ. لافي بروفنسال، الناشر: دار الجيل، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1408هـ / 1988م.
  2. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ 1، 2، 5/ الرابعة، 1417هـ / 1997م، جـ3، 4/ الثانية، 1411هـ / 1990م.
  3. كامل السيد أبو مصطفى: مالقة الإسلامية فى عصر دويلات الطوائف (القرن الخامس الهجرى- الحادى عشر الميلادى) "دراسة فى مظاهر العمران والحياة الاجتماعية"، مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر والتوزيع، 1993م.
  4. خالد بن عبد الله آل زيد الشريف: مدينة مالقة ممنذ عصر الطوائف، دراسة سياسية اقتصادية (422 – 892هـ)، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية / جامعة أم القرى، 1425 / 1426هـ.