خمس حالات اغتيال… 12 حالة قتل للسلطان بعد عزله… حالتا قتل خلال معركة بين السلطان وأعدائه… خمس حالات شابت وفاتها شبهات اغتيال – غالبًا بالسم – سواء بعد العزل أو في نهاية الحكم… أي أننا أمام 24 حالة تقريبًا لسلاطين لم تنتهِ عهودهم بطريقة لا تحمل رائحة القتل.[1]
مقدمة صادمة؟

في ظنّي يجب أن تكون ذلك، حتى تتماشى مع طبيعة هذا العصر الصادم في كل شيء، فدعني أوضح لك أن هذه الحالات الـ 24 التي نتحدث عنها رفقة ما يزيد على الـ 40 انقلابًا عسكريًا، جميعها حدثت في قرنين ونصف من الزمان فقط، والأغرب من ذلك أنّ هذا العصر برغم هذه الأوضاع، شهد ازدهارًا ملحوظًا في فترات غير بسيطة من الوقت، فنحن نتحدث هنا عن فترة مختلفة حقًا في تاريخ مصر.


الحكم لمن غلب

فليلاحظ القارئ أولًا أن دولة المماليك تختلف عن باقي الدول السابقة والمعاصرة لها، بأنها لم تقمْ على حكم أسرة، كالأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل قامت على حكم فئة من الناس، أي أنها أشبه بانفراد حزب أو مؤسسة بحكم دولة.[2]

يقدم الكاتب وليد فكري هذه النقطة على أنّها المظهر الأول للاختلاف ما بين عصر المماليك، وما بين العصور السابقة لذلك، وهذا الأمر ترتب عليه مجموعة من الملامح التي ميّزت عصر المماليك:

1. لم يعد الأمر قائمًا على مبدأ الوراثة كما كان الوضع من قبل، وفي بعض الأحيان راعى المماليك هذه المسألة، لكن لم يكن الغرض من ذلك سوى خدمة بعض التحالفات بين الأمراء.

2. لم تكن العلاقات القائمة بين المماليك وبعضهم البعض مبنية على الارتباط الأسري أو القبلي، بل قامت أساسًا على مبادئ احترام القوة والزعامات.

3. بناءً على ذلك، من المتوقع أن نجد مبدأ «الحكم لمن غلب» هو الأكثر سيطرة على هذه الفترة، فمن يملك القوة والإمكانيات ينجح في السيطرة على الحكم، وبالتالي يحاول كل شخص إبعاد الآخرين بطرق وحشية وغير شرعية بالمرة من أجل الفوز بالحكم، ومحاولة الحاكم الحفاظ على ما يملك بكل طاقته، لأنّه يعرف بأنّه لو خرج من مكانه لن تكون نهايته طيبة، فيظهر المبدأ الثاني لهذه الفترة «الحاكم إما في القصر أو في القبر».[3]

كل هذه الأشياء ربما تفسر لنا سر التقلبات الشديدة التي أصابت عصر المماليك، فانتشر التآمر بين الأمراء، وظهرت المؤامرات بكثافة شديدة، وأصبح الصراع الدائم هو الحالة التي يعيش فيها السلطان، إمّا ينجح في الحفاظ على موقعه، أو يُهزم ويخشى بعدها من القتل والملاحقة، وهكذا الحال بالنسبة لمن يواجههم، فهي معركة إمّا قاتل أو مقتول.


سلطان طفل وأمير متحكم

مات السلطان الظاهر برقوق، فحُمل الأمراء ابنه الناصر فرج إلى العرش وهو ابن العاشرة، وأتموا له المراسم، من أيمان مغلظة بالولاء وتكليف من الخليفة وانحناء وتقبيل للأرض بين يديه، إلخ… ما علينا من هذا المشهد المكرر، والمكررة معه لعبة «مات السلطان الكبير… هاتوا ابنه الصغير وسلطنوه، ليصبح ألعوبة لنا، وحل وسط يمنع تصارعنا على العرش… وإذا جاء يوم وأزاح أحدنا الآخر وركب السلطان، فحلال عليه ركوبته، أو حرام، لا تفرق كثيرًا فالنتيجة واحدة: سلطان طفل وأمير متحكم».[4]

لعل هذه هي الظاهرة الأكثر شيوعًا خلال فترة حكم المماليك، فعلى الرغم من عدم اعترافهم بمبدأ الوراثة في الحكم، إلّا أنّ وجود طفل في موقع السلطان ظهر في العديد من المرّات، ويكون الحكم الفعلي لأمير، يتولى مسئولية البلاد تدريجيًا حتى يصبح هو الحاكم.

وفي حالة عدم وجود اختيار محدد لهوية الشخص الذي سوف يتولى أمور الحكم، فإنّ الصراعات والفتن تصبح أقوى، فيعمل كل طرف على التخطيط للطريقة التي تُمكنه من الوصول إلى الحكم وإبعاد الآخرين، وهو ما يعني شلالًا جديدًا من الدماء.

لا يمكن القول بأنّ حدوث هذا الأمر في كل مرة كان المقصد من ورائه نية سيئة، لكنّه الحذر والخوف من المؤامرات المحتملة، فلا يندفع أحد في السيطرة على كرسي الحكم حتى يطمئن للأوضاع، أو لأنّ هذا هو الترتيب المنطقي الذي احتاج إليه الأمر آنذاك، فيكون السلطان الطفل خلفًا لأبيه كترتيب منطقي، ويتولى أحد الأمراء مسئولية البلاد.

فنجد قطز قد تحققت معه الحالة الأخيرة، فقد كان نائبًا عن السلطان الطفل علي بن أيبك، كما كان نائبًا لوالده من قبل، ثم بعد ذلك في واحدة من الاجتماعات العاجلة لمناقشة خطر المغول الذي يقترب من الحدود المصرية، والتي كان يتولى إدارتها قطز بصفته النائب عن السلطان، وبعد بحث العديد من المسائل المتعلقة بالجيش، يقرر قطز مناقشة القضية الأخطر قائلًا: «لا بد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يحسن تدبير المملكة… فانظروا ماذا ترون».

والكل يفهم ما يريد قطز قوله وأنّ مسألة توليه الحكم هي مسألة وقت، ليتم له الأمر ويصبح هو الحاكم[5]، ويتولى قيادة الجيش في معركة عين جالوت ويحقق الجيش المصري النصر في المعركة.


مات الملك… عاش الملك

لم يكن غريبًا في عصر الفتن أن تجد هذا المشهد يتكرر مع العديد من السلاطين، حيث يقرر أتباعه أن يتركوه وحيدًا ويغادرونه أو يبيعونه للعدو، إمّا هربًا بأنفسهم من أفعاله التي تؤثر بالسلب عليهم وعلى حياتهم، أو لأنّ مصالحهم أصبحت مهددة، فلا بد من البحث عن طرفٍ آخر للوقوف معه في المستقبل.

فالعلاقة بين المماليك لم تكن قائمة على مبادئ وقيم حقيقية، بل هي مبادئ مفتعلة يحكمها مبدأ وحيد هو المصلحة والقوة، ربما يظن صاحبها أنّه يفعل الصواب حين يقف في مواجهة صديقه السابق، ويمكننا أن نرى هذا المشهد فيما فعله بيبرس مع قطز، حيث قام بقتل صديقه بعد عودته من معركة عين جالوت، وأصبح هو الحاكم الجديد للبلاد.

ولأن قاعدة «مات الملك… عاش الملك» قرينة قاعدة «الحكم لمن غلب»، فسرعان ما انقضت أيام قطز كأن لم تكن، لتستقبل قلعة الجبل سيدًا جديدًا، وحلقة جديدة في السلسلة المملوكية المراد لها الاستمرار حتى يقضي الله أمرًا كان معلومًا.[7]

ولعل كل هذه المؤامرات تجعلنا نتساءل عمّا يدفع أي سلطان للاعتقاد بأنّ ما حدث مع غيره لن يتكرر معه شخصيًا، فما دام قد قرر أن يبيع أصدقاءه، فما الذي يمنع أن يُباع هو في المستقبل؟

ربما يمكن توضيح الإجابة في نقطتين:

1. حالة النسيان التي تصيب الناس مباشرةً بعد أي حادث، وأنّهم يتبعون مبدأ «مات الملك… عاش الملك»، فيغيّرون من موقفهم بسهولة تامة، وهذا ما حدث مع قطز، فمن حالة الاستعداد لاستقبال البطل، إلى الولاء لسلطان جديد، كان هذا هو الوضع في مصر في آنذاك، فيظن من يتولى الحكم أنّ هذا النسيان سيجعل الناس يدينون للولاء له ويبدأ عصر جديد.

2. الاعتقاد بأنّه سيكون قادرًا على التعامل مع الفتن والمؤامرات، وأنّه سيكون أذكى ممن سبقوه، فلن يقع في نفس أخطائهم، وبالتالي لن يحتاج الناس إلى الخروج عليه.

وأيًا تكن الأسباب، فالسلطة تعمي الإنسان وتجعله يسعى إليها، وطالما وُجدت الفتنة فلن يُغلق بابها، لذلك كان من المنطقي أن تستمر المؤامرات بين المماليك إلى النهاية.


كيف انتهى حكم المماليك؟

تواجه الفريقان خارج القاهرة، وسرعان ما بدأ أتباع الكامل شعبان يتسربون من حوله، نظر حوله غير مصدق… حتى من كانوا يتملقونه ويشاركونه شرب الراح والعربدة في الليالي الملاح باعوه لعدوه… حتى صديقه وصنيعته الأمير غرلو تركه وانضم للمنقلبين عليه.[6]

يتكون الكتاب من 15 مقالًا يذكر فيهم الكاتب وليد فكري النهايات الدامية لسلاطين المماليك طوال فترة حكمهم التي امتدت من عام 1250م إلى 1517م، فكانت النهاية لآخر سلطان مملوكي وهو «طومان باي»، والذي تم إعدامه على يد العثمانيين عند باب زويلة.

وتبدأ في هذه اللحظة مرحلة جديدة في الحكم المصري، المرحلة التي يصفها الكاتب بأنّها «الاحتلال العثماني لمصر»، حيث لم ترَ مصر الخير خلالها، وتوقفت عن أي إنجازات أو مساهمات في الفن وغيرها من الأنشطة.

ربما كانت فترة حكم المماليك مليئة بالعديد من المؤامرات والصراعات والفتن، فهم لم يكونوا ملائكة، لكنّهم أيضًا لم يكونوا شياطين، وقد نجحوا في تقديم ميراث حضاري هائل، وتركوا بصمة في الإدارة والحكم.

والدرس المستفاد من هذا الشيء، هو أن نتعلّم أن قراءة التاريخ والحكم على الدول، لا يجب أن تكون من خلال النظرة المطلقة، فكل دولة قد يكون لها مميزاتها وعيوبها، نحن نحتاج إلى بحث الأمر دائماً بالطريقة الصحيحة، حتى ندرك هذا الأمر، والشيء المؤكد فعلًا عن فترة حكم المماليك أنّها كانت «دولة ذات بصمة»[8]، وأن خيط الدم فيها امتد من اللحظة الأولى للأخيرة، فكأنّ القتل وقتها قد أصبح أسلوب حياة.

المراجع
  1. وليد فكري، «دم المماليك: النهايات الدامية لسلاطين المماليك»، الرواق للنشر والتوزيع، 2016، ص11.
  2. السابق، ص12.
  3. السابق، ص13.
  4. السابق، ص141.
  5. السابق، ص42.
  6. السابق، ص122.
  7. السابق، ص74.
  8. السابق، ص173.