لا يسير المرء منا في القاهرة القديمة إلا وتنتابه حالة من الحنين الغامض رغم كونه من ساكنيها، تلك الحالة التي تزداد كلما نظرت إلى تلك المساجد والمدارس والخانقاوات والأسبلة والأربطة والرباع والقياسر والوكالات والخانات وغيرها من منشآت هذه المدينة الساحرة التي أُطلق عليها مدينة الألف مئذنة، ففي حواريها نسج الخيال قصة الألف ليلة ولية، وخيال الظل، وسيرة الحارة الشعبية، وقصص الحرافيش وغيرها مما لا يكاد ينتهي على مر السنين. صحيح أن هذه الحكايا هي خيال في خيال، لكن لم يخرج هذا الخيال في صورة مكتوبة إلا بسبب طغيان القاهرة وآثارها الإسلامية العظيمة على نفس المرء، فتعمل فيه عملها خاصة إذا كان أديبًا أو ذا حسّ تفاعلي مرهف.

إن أكثر ما يزال مبرزًا سمة القاهرة الساحرة هي المرحلة المملوكية، تلك المرحلة التي بُنيت فيها هذا الكم الكبير من الآثار التي لا تزال شاهدة على هذا العصر بكل ما له وما عليه، حيث انتقلت من كونها مجرد عاصمة إقليمية إلى قلب العالم الإسلامي، وحاضرة الخلافة بعد سقوط بغداد، واستمرت على هذا الزهو والطغيان لكل من يزورها من الرحالة والحجاج والمستشرقين حتى يومنا هذا، ولهذا فإننا في هذه المقالات الثلاث أو الأربع سنقف مع القاهرة المماليكية، لنستكشف طبوغرافيتها آنذاك، ولنرى كيف تفاعل الإنسان فيها وبها، وكيف أثّرت فيمن قطنها، وكيف ازدهرت لتكون عاصمة العالم الإسلامي بلا منازع!

تكونت القاهرة المملوكية آنذاك من أربعة مراكز متفرقة؛ هي القاهرة الفاطمية التي تحيط ببعض أجزائها الأسوار الفاطمية القديمة، ثم مصر القديمة في موقع الفسطاط القديمة، ثم بولاق وكانت قبل ذلك جزيرة ثم تحولت إلى جزء من القاهرة خاصة مع بناء ميناء تجاري مهم بها، ثم أخيرًا مدافن القرافة شمال قلعة الجبل وجنوبها، ويمكننا أن نضيف بعض الضواحي الأخرى مثل باب اللوق وباب زويلة ومسجد ابن طولون.

وكانت القاهرة قد بدأت في النمو منذ نهاية عهد الفاطميين، وما من شك أنه منذ البداية بُنيت منازل جديدة نظرًا لأن المدينة كانت مزدحمة بسكانها إلى درجة الاكتظاظ، وبدأت فعلاً تنفجرُ وراء أسوارها، حتى أن الأبواب التي لا تزال قائمة، وخاصة باب زويلة صارت داخل المدينة منذ زمن بعيد، وبعد ذلك جدّت ظاهرة مختلفة حين اتصلت المدينة بالقلعة حتى لم تعد القلعة في نهاية الأمر معزولة وخاصة نهاية القرن الرابع عشر الميلادي/الثامن الهجري، حين وصلت مبان كثيرة بينها وبين المدينة، وقد أصابمارسيل كليرجيه حين كتب:

||كان لإنشاء القلعة رد فعل قوي جدًا على المناطق المجاورة لها، فهذه الضواحي بعد أن زحفت على الجبّانات انتشرت حتى وصلت إلى أسفل القلعة، فنُقل إلى الرميلة (أسفل القلعة) سوق من أهم الأسواق في أي مدينة عربية، وهي السوق التي تُباع فيها الخيل والحمير والجمال، وفي الموقع الذي كانت تحتله من قبل وحدات الجيش الفاطمي بُنيت حدائق وبُحيرات فسيحة، فأصبح هذا الحي أكثر جمالاً، وتمتّع به سكان القلعة، وظهرت في الغرب في ذلك الوقت حدائق أخرى خاصة عند باب اللوق، بحيث أصبحت هذه المناطق أشبه بالمتنزّه العام، وقد بقيت أجزاء منه حتى عصر المماليك||[1]

لقد اتسعت القاهرة في العصر المملوكي اتساعًا كبيرًا في الشمال والجنوب والغرب، فضلاً عن التغير الكبير الذي طرأ على المدينة القديمة الفاطمية من حيث الهدم والبناء، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين، الأول قوة السلاطين ومهابتهم وحفاظهم على الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في المدينة، والثاني يعود إلى ازدهار التجارة.

لقد نجح المماليك في جذب تجارة شرق حوض البحر المتوسط إلى القاهرة التي صارت مركزًا للنقل التجاري، وقد استفادوا من التجارة بين الهند وأوربا مما أدى إلى ثراء أهل القاهرة في العصور الوسطى، ولثراء المدينة وفتوتها كانت قادرة دائمًا على أن تضمّد جراحها بعد أي فتنة. كانت مدينة عامرة بالحياة والحركة، لم تؤثّر فيها الأوبئة المهلكة ولا الكوارث الطبيعية، وقد قال عنهافرسكو بالدي الذي زارها سنة 1384م/ 786هـ أن بمينائها عدد ضخم من المراكب الراسية يفوق كل ما رآه في موانئ جنوة والبندقية وأنكوني معًا، وقد ذكر أن عدد سكانها أكثر من سكان توسكانا بإيطاليا. وقد قال بعض الرحالة الآخرين أن المدينة أكبر من باريس سبع مرات. وأكّد بود جيبونسي أن المركبة تحتاج إلى يومين كي تطوف بها، وكتب الراهب جاك دي يفرون في عام 1325م/ 725هـ في عصر الناصر محمد بن قلاوون:

||إن أهل القاهرة يتمتّعون بثراء كبير نتيجة التجارة الهندية، فالمراكب تجلب كميات هائلة من التوابل والأحجار الكريمة عن طريق البحر الأحمر، وعن طريق البحر المتوسط تجلب السفن من أكل أنحاء العالم كل ما يمكن أن يروق للإنسان||[2]

وقد قدّر جوتشي دي دينو أن القاهرة تمتدّ لمسافة عشرة أميال طولاً وخمسة أميال عرضًا، وأن عدد سكانها يصل إلى ثلاثة ملايين نسمة، وقد علّل هذا العدد الضخم بأن المصريين حسب قوله يحيون ألف عام، وهو قول لا يخلو من مبالغة وإن كشف إلى الأعداد الضخمة من الناس التي كانت تعجُّ بها القاهرة.

وبعد قرن من الزمان وفي عام 1458م/862هـ قال روبرتو سانسفرينو: من الأفضل ألا أتحدّث عن مدينة القاهرة لأن كلام سيُؤخذ على أنه أساطير؛ إنها عظيمة الاتساع إلى حدّ لا يُصدّق، فهي أكبر من ميلانو بأربع مرات، وقد قال عنها أحد الرحّالة كان قد شاهد ميلانو أن القاهرة أكبر منها ست مرات. وقد شهدت القاهرة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي/ الثامن والتاسع الهجري ازدهارًا واتساعًا عظيمًا هدّد بجعلها وحشًا مختلّ التناسق مع باقي أنحاء البلاد على حد قولكلرجيه[3].

تقولدوريس بهرنز – أبو سيف:

||كانت القاهرة في ظل الحكم المملوكي (1250 – 1517م) أهم مدينة إسلامية وأكبرها في العالم. كان تحولها من العاصمة الأيوبية الثنائية الفسطاط – القاهرة إلى العاصمة المملوكية تحولاً هائلاً صاغته الرعاية المكثّفة للأرستقراطية الحاكمة، بعدما ضمن المماليك شرعية حكمهم بُعيد الانتصارات التي حققوها على الصليبيين والمغول، بدأوا باتباع سياسة دينية وهندسية ذات بُعدين غير متوازيين؛ فقد تلازمت مساهمتهم في إنشاء المساجد والمدارس والخانقاهات كما المؤسسات الخيرية، مع توسع مديني وازدهار هندستهم المعمارية في مدن المملكة؛ هكذا أمكن القاهرة العاصمة المملوكية مع الظاهر بيبرس ومركز الدولة العباسية التي باتت شكلية أن تتفوق على بغداد العاصمة السابقة للعالم الإسلامي||[4]

وقد شغلت القاهرة المملوكية مساحة ضخمة امتدت من ضريح الإمام الشافعي في الجنوب إلى قبة يشبك في العباسية اليوم في الشمال، ومن النيل غربًا وصولاً إلى الصحراء شرقًا، ونتيجة للازدهار التجاري والاقتصادي والاستقرار الأمني، وحركة التعمير التي أشرف عليها السلاطين أنفسهم، شرع المماليك في تنمية المناطق الخارجية من القاهرة، ليس لمواجهة احتياجات ازدياد السكان فحسب، ولكن أيضًا بسبب سياسة السلطان الناصر الطموحة ومن بعده من السلاطين، وكانت نتائج هذه التنمية منقطعة النظير، ففي اتجاه الشمال كان الجامع الكبير الذي شيّده السلطان بيبرس على مسافة 700 متر شمال غرب باب الفتوح بمثابة إشارة البدء لتعمير حي الحُسينية، لقد بُني هذا الجامع على موقع فضاء (ميدان) في منطقة كانت حينذاك قليلة السكان، لكنها تقع قريبًا من الطريق المؤدي إلى الشام وإلى الحج، ثم أصبحت فيما بعد الضاحية الشمالية لمدينة القاهرة، ومن المشروعات التي ساعدت على هذه التنمية مشروع حفر خليج “قناة” جديدة سنة 1325م/725هـ وهو الخليج الناصري على بُعد 1200 متر غربي الخليج القديم، والذي كان يلتقي به بمحاذاة جامع بيبرس، وكلاهما كانا يأخذان الماء من نهر النيل في الجنوب[5].


*باحث في التاريخ والتراث

[1] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفن والتجارة ص99، 100. ترجمة مصطفى العبّادي، مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر – نيويورك، 1968م.

[2] أولج فولكف: القاهرة، مدينة ألف ليلة وليلة ص96. ترجمة أحمد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1986م.

[3] أولج فولكف: القاهرة ص97.

[4] سلمى الخضراء الجيوسي وأندريه ريمون وآخرون: المدينة في العالم الإسلامي، فصل: “المدينة المملوكية” لدوريس بهرنز 1/399.

[5] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص115. ترجمة لطيف فرج، الطبعة الأولى، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – القاهرة، 1994م.


اقرأ المزيد:

البيمارستان القلاووني .. دُرّة شارع المعز!

أنشودة رولان.. المسلم في الملحمة الشعبية الصليبية(1)!

أنشودة رولان.. المسلم في الملحمة الشعبية الصليبية(2)!