(الجزء الأول: هنا)

رأينا في مقالنا السابق، كيف تحدّث عدد من الرحّالة والمستشرقين عن القاهرة في العصر المملوكي، فقد انبهروا بما شاهدوه فيها من حركة البناء والتوسّع، ومن الثراء والتجارة، ومشاهد الألوان المتناغمة والكثيفة لجماهير الناس كل بحسب طائفته وحرفته ومكانته الاجتماعية، وبدأنا في الحديث عن طبوغرافية القاهرة المملوكية، وأهم أقسامها آنذاك، وفي هذا المقال نستكمل حديثنا عن هذه الطبوغرافية في مناطق الغرب والجنوب، فضلا عن الحديث عن قلعة الجبل، وقد كانت بمثابة مدينة عسكرية مستقلة آنذاك.

لقد كان حفر الخليج الناصري أو قناة الناصر محمد بن قلاوون من جنوب القاهرة إلى شمالها حتى خانقاه سرياقوس بالقليوبية من ناحية الغرب عاملًا من عوامل التنمية في العصر المملوكي، وللرغبة في وجود ماء أكثر قربًا من القاهرة البعيدة عن النيل وقتها، وقد أُسند هذا المشروع إلى نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون الناصري، فتم انجازه في خلال سنة 725هـ، وكانت هذه القناة “الخليج” تخرج من النيل عند منطقة موردة البلاط بمحاذاة الرأس الشمالي لجزيرة الروضة ثم تتجه شمالًا بموازاة الخليج الحاكمي القديم من ناحية الغرب وعلى بعد 1500 متر منه، وينعطف بعدها نحو الشمال الشرقي بمحاذاة المقس، ثم يلتقي مع الخليج القديم الذي حفر في بداية الحكم الإسلامي لمصر، بالقرب من جامع بيبرس.

وقد كان طول هذا الخليج خمسة كيلومترات تقريبًا، ويتّسع لعبور المراكب المحملة بالشحنات المتجهة إلى سرياقوس، وسمح هذا الخليج بإقامة السواقي لري البساتين التي أُنشئت حوله وبالقرب منه، فضلاً عن زيادة البناء والتوسع في الجهة الغربية من القاهرة، وشيدت كذلك سبع قناطر (جسور متقوّسة) فوقه، وفي المسافة ما بين الخليج القديم والخليج الناصري الجديد، والتي قُدرت ب1644 فدانًا، قام الناصر محمد بن قلاوون بمنح العديد من الأمراء نوعًا من حقوق الانتفاع “حِكر” في أجزاء كبيرة من هذه الأراضي، وكان على هؤلاء القيام ببعض التجهيزات والإنشاءات الأولية مثل الجوامع والحوانيت والحمامات، وبتشجيع إقامة سكان على قطع صغيرة مقابل دفع إيجار لصاحب الحكر، ويُقدِّر المقريزي عدد الأحكار التي مُنحت في هذه المنطقة بأكثر من ستين حكرًا تراوحت مساحاتها ما بين 15 فدان إلى ثلاثين إلى أقل من ذلك، وعلى كل ظل التوسع باتجاه الغرب محدودًا نظرًا لفيضان النيل وأثره في عمليات المد والجزر التي كانت تظهر في تلك المناطق[1].

وكان لتراجع نهر النيل في جهة الشمال الغربي أثره المهم في تكوين بناء بولاق الجديدة، ومكن الناس من بناء مجموعة من المساكن فوق الأرض التي انحسر عنها النهر، وقد حدث أن جنحت سفينة تُسمى الفيل نشأ عن تحطيمها وغرقها أن تكوّن شاطئ رملي أطلقوا عليه اسم جزيرة الفيل، فتغيّر مجرى النهر وترك فضاءً صالحًا للبناء عليه، فبدأ السكان منذ سنة 1313م/712هـ وتبارى الأمراء والجند والتجار وعامة الشعب في تعميرها، وهكذا نشأت بولاق[2].

أما المناطق الجنوبية من القاهرة الفاطمية، فقد أدى بناء القلعة في العصر الأيوبي إلى تطوير حركة البناء والتشييد في تلك المناطق، وقد أُعيد الاعتبار لجامع أحمد بن طولون مركز القاهرة الجنوبي والذي كان قد تم هجره وأصبح أنقاضًا، ثم تعهده السلطان حسام الدين لاجين (696 – 698هـ) وأنذر نفسه بتجديده، ويبدو أن لاجين قد استثمر في هذا المشروع 200 ألف دينار وأجرى بالجامع توسعات، كما شيّد المبنى الجميل المزود بقبة والذي نجده اليوم في وسط صحن الجامع، وبعد الانتهاء من تجديد صرح ابن طولون استعاد الحي المحيط به نشاطه وحيويته، ومن المؤكد أيضًا في إطار هذه النهضة قام السلطان العادل كتبغا (694 – 696هـ) بإقامة ميدان بين بركة الفيل وتل الكبش، ثم شيّد بعدها بقليل مدرسته والضريح المشترك للأميرين علم الدين سنجر وسلار نائب السلطنة، وأعطى السلطان الناصر محمد بن قلاوون دفعة قوية لهذه الحركة المتصاعدة باتخاذه لسياسة تتسلم بالعزيمة، فقد منح أيضًا المناطق القريبة من بركة الفيل الكبيرة والتي ستصبح فيما بعد من أرقى أحياء القاهرة وأكثرها أناقة، وتنافس الأمراء والتجار وعامة الناس في عمارة تلك المنطقة فبنوا البيوت والمساجد والحمامات، وخلف جامع أحمد بن طولون في تل الكبش أمر الناصر بن قلاوون سنة 722هـ بإعادة تجهيز المناظر وهي مقصورة أو بيت يُستخدم للنزهة أو للتمتع بمناظر جميلة أو للإقامة، وذلك بمناسبة زواج ابنته من ابن الأمير الكبير أرغون[3].

ولم يتوقف توسع القاهرة الجنوبية عند هذا الحد، فقد تحدث المقريزي عن تكاثر العمائر في “الشارع” الذي يصل بين باب زويلة وحي الصليبة في جنوب القاهرة، كما أشار إلى وجود الأسواق التي تضم الحوانيت بهذه المنطقة، لكنها كانت أقل ازدحامًا من أسواق القاهرة المكتظة بالسكان[4].

وتقدّم لنا مؤلفات المقريزي[5] تحديدًا لمواقع الحمّامات العامة والأحياء السكنية بما فيها الحارات، والجوامع والمساجد والمدارس، مع مجموعة أخرى من الدلالات التي تُساعدنا على وضع خريطة للمناطق المأهولة بالسكان آنذاك، وهي كما يلي في عصر المقريزي المتوفى سنة 845هـ/1442م:

المنطقة الجوامع والمساجد الحمامات العامة الأحياء السكنية
شمال القاهرة “الحسينية” 5 = 3.4 % 1 = 2.6 %
القاهرة “المدينة الفاطمية” 69 = 47.5 % 46 = 90.2 % 27 = 71.1 %
منطقة جنوب القاهرة 49 = 33.6 % 4 = 7.8 % 9 = 23.7 %
منطقة غرب القاهرة 23 = 15.7 % 1 = 2 % 1 = 2.6 %

أما قلعة الجبل -المعروفة بقلعة محمد علي اليوم- التي كانت مركز الحكم السياسي والعسكري للدولة المملوكية، فقد أمر الناصر صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) وزيره ونائبه على مصر بهاء الدين قراقوش (ت597هـ) ببنائها، فقطنها أخوه العادل الأيوبي لبعض الوقت، لكن أول من انتظم في سكناها من الأيوبيين كان الكامل محمد بن العادل (ت 635هـ)، والحق أن قيام صلاح الدين على مشروع تحرير الشام من الصليبيين، قد اضطره إلى زيادة الاستحكامات الدفاعية للقاهرة من خلال وسيلتين دفاعيتين مهمتين قام بهما النائب بهاء الدين قراقوش أفضل قيام وهما:

(1) سور القاهرة، وقد ضم حواضرها المهمة آنذاك كالفسطاط والقاهرة الفاطمية وما بينهما من عمران، وظل هذا السور عاملاً مهمًا من عوامل الدفاع عن القاهرة في العصر المملوكي بما فيه من أبراج وأبواب، وهو يختلف عن سور القاهرة الفاطمية الذي لم يعد في عصر صلاح الدين قادرًا على الدفاع عن المدينة فضلاً عن ضعفه فقد بُني جزء منه بالطوب اللبن.

(2) إقامة قلعة تتوسط هذا السور العظيم في الجهة الشرقية، تطورت بصورة ملحوظة في عصر الكامل الأيوبي، وبصورة أكثر في عصر المماليك من بعد[6].

ففي ظل عهود بيبرس وقلاوون وبخاصة الناصر محمد تضاعفت الإنشاءات بالقلعة وجُعلت منها منطقة قصور، ومسرحًا لحفلات المماليك الرسمية وفقاً لعبارة المؤرخة دوريس بهرنز أبو سيف، فقد شيّد بيبرس بالقلعة “بيت الذهب” و “دار العدل” و ثكنات للمماليك، وشيّد قلاوون “قبة ودار النيابة” مقر نائب السلطان، وكان الناصر محمد هو المُشيِّد الرئيسي في القلعة سواء في الجزء الجنوبي حيث توجد مجموعة المقار السكنية أو في الجزء الشمالي حيث كان يُقيم العسكريون والتي كان قد تم تنظيمها أساسًا في ظل الأيوبيين، وقد خلف الجامع الذي شيّده الناصر الجامع القديم الذي بناه الأيوبيون، وتم إعادة تشييد جامع الناصر سنة 718هـ، كما أُدخلت عليه تعديلات كبيرة سنة 735هـ.


*باحث في التاريخ والتراث

[1] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص119، 120.

[2] ستانلي لين بول: سيرة القاهرة ص217.

[3] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص123، 124.

[4] خطط المقريزي 3/ 182، 183.

[5] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص139.

[6] انظر: خالد عزب: أسوار وقلعة صلاح الدين ص9 – 12.


اقرأ المزيد:

من يكتب التاريخ؟

التيارات الدينية المتنافسة في التشيع المعاصر