الحلقة الأولى الحلقة الثانية

كنا قد توقّفنا في مقالنا السالف مع قلعة الجبل، وبعض أهم ما اشتملت عليه من منشآت ومبان ودواوين، وفي هذا المقال، نستكمل فيه حديثنا عن المدينة المملوكية بعامة، وعن قلعة الجبل بخاصّة، ففي العصر المملوكي، أصبحت القلعة مدينة أو منطقة عسكرية مستقلة بها من الاستحكامات الدفاعية ما يذود عنها إذا سقطت حتى القاهرة، لكنها على أية حال كانت بمثابة أحد أحياء القاهرة آنذاك، بل على رأسها أحيائها باعتبارها مدينة الحُكم، ومركز السلطنة، ومقر الإدارة.

لقد شيّد الناصر محمد بن قلاوون (ت741هـ) “الإيوان الكبير” بها، وهو قاعة العرش الرئيسية التي أُقيمت في نفس موقع جامع محمد علي اليوم، وحلّت محل الإيوان الذي كان والده المنصور قلاوون قد شيده من قبل، وكان لهذا الإيوان ثلاث وظائف هي: قاعة للعدالة في يوم أو يومين من الأسبوع ينظرُ فيها السلطان على أهم القضايا السياسية أو الجنائية الكبرى بمعاونة كبار القضاة والكتّاب والأمراء، وقاعة لاستقبال السفراء “الرسل” وكبار الضيوف، ونقطة الأوج للمواكب الرسمية التي يقيمها السلطان لاستعراض المماليك. وقد حاز هذا الصرح على إعجاب الرّحّالة الأجانب وقد كانوا يطلقون عليه اسم “ديوان يوسف”، على أنه أُهمل في أخريات الدولة المملوكية، ومن حسن حظّنا أن بقايا ذلك الإيوان العظيم قد حفظه لنا رسّامو الحملة الفرنسية في لوحتين من لوحاتهما لا تزالان بين أيدينا إلى اليوم، وقد كان ذلك الإيوان في زمن الحملة يشتمل على اثنين وثلاثين عمودًا شاهقًا من الجرانيت الأحمر وقبّة، كما كان مفتوحًا من ثلاث جهات، وتُعتبر هندسته المعمارية متفوقة على معمار جميع جوامع القاهرة بما فيها جامع السلطان حسن كما يذكر أندريه ريمون[1]!

وقد ذكر المقريزي أن هذا الإيوان وضع له الناصر محمد بن قلاوون نظامًا صارمًا سار عليه هو أولاده وأحفاده من بعده، فمن من بروتوكولات هذا المجلس أن الجلوس فيه كان منظمًا للغاية، فكل من كبار رجال الدولة والقضاة كان يعلم مكانه بالضبط، وكان الناصر وخلفاؤه من بعده يستقبلون فيه التظلمات المكتوبة “القصص” من المدنيين والجند على السواء، ونترك المقريزي يصف ذلك بقوله:

||كان جلوسه على كرسيّ إذا قعد عليه يكاد تلحق الأرض رجله، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك وسرير السلطنة، وكانت العادة أوّلا أن يجلس قضاة القضاة من المذاهب الأربعة عن يمينه، وأكبرهم الشافعيّ، وهو الذي يلي السلطان، ثم إلى جانب الشافعيّ الحنفيّ، ثم المالكيّ، ثم الحنبليّ، وإلى جانب الحنبليّ الوكيل عن بيت المال، ثم الناظر في الحسبة بالقاهرة، ويجلس على يسار السلطان كاتب السرّ، وإن كان الوزير من أرباب السيوف، كان واقفا على بعد مع بقية أرباب الوظائف، وإن كان نائب السلطنة، فإنه يقف مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه ويساره من السلاحدارية والجمدارية والخاصكية، ويجلس على بُعد بقدر خمسة عشر ذراعا عن يمنته ويسرته ذوو السنّ والقدر من أكابر أمراء المئين، ويقال لهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف، وهم وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحُجّاب والدوادارية، لإعطاء قصص الناس وإحضار الرُّسل وغيرهم من الشُكاة وأصحاب الحوائج والضرورات، فيقرأ كاتب السرّ وموقّعو الدست القصصَ على السلطان، فإن احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيما يتعلق بالأمور الشرعية والقضايا الدينية، وما كان متعلقا بالعسكر فإن كانت القصص في أمراء الإقطاعات قرأها ناظر الجيش، فإن احتاج إلى مراجعة في أمر العسكر تحدّث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، وما عدا ذلك يأمر فيه السلطان بما يراه||[2]

لكن لم يلتزم بتلك النظم الظاهر برقوق والناصر فرج وسلاطين الدولة البرجية فيما بعد، قال:

||ما برح [الناصر] يواظبُ على الجلوس به في يومي الاثنين والخميس، وعنده أمراء الدولة والقضاة والوزير وكاتب السرّ وناظر الجيش وناظر الخاص وكتاب الدست، وتقف الأجناد بين يديه على قدر أقدارهم، فلما مات الملك الناصر اقتدى به في ذلك أولاده من بعده، واستمرّوا على الجلوس بالإيوان إلى أن استبدّ بمملكة مصر الملك الظاهر برقوق، فالتزم ذلك أيضا، إلّا أنه صار يجلس فيه إذا طلعت الشمس جلوسا يسيرا يقرأ عليه فيه بعض قصص لا لمعنى سوى إقامة رسوم المملكة فقط||[3]

وقد حوت قلعة الجبل في العصر المملوكي كذلك على القصر الأبلق، وهو قصر بناه السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 713هـ، وعُدّ بمثابة قاعة أخرى للعرش لكنها أقل احتفاء بالرسميات، وحيث كان السلطان يجلس يوميًا فيما عدا اليومين اللذين يقضيهما في الإيوان الكبير أسبوعيًا، وقد سمي بالقصر “الأبلق” لأن واجهة القصر كانت مبرقشة باللونين الأسود والأبيض، وقد تم تشييده على غرار قصر السلطان بيبرس في دمشق، وكان موقع هذا القصر في شمالي “دار العدل” أو “الإيوان” أو مسجد محمد علي اليوم، وقد كان قصرًا “عظيم البناء شاهقًا في الهواء، بإيوانين أعظمهما الشماليّ، يطلّ منه على الإسطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر إلى سوق الخيل[4] والقاهرة وظواهرها إلى نحو النيل وما يليه من بلاد الجيزة وقراها، وفي الإيوان الثاني القبليّ باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير أيام الموكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلاثة قصور جوّانية، منها واحد مسامت لأرض هذا القصر، واثنان يصعد إليهما بدَرَج[5]. وقد تهدّم هذا القصر منذ بداية العصر العثماني، ولم يتبق منه سوى بعض الآثار[6].

وفي الجهة الجنوبية من القلعة كان يوجد الحوش، وهو المنطقة الخاصة بإقامة السلطان الذي تحتلُّ “دور الحريم السلطانية” جزءًا منه، ثم أصبح فيما بعد مكانًا لإقامة الاحتفالات الرسمية؛ حيث إنهم لم يعودوا يستخدمون الإيوان أو القصر الأبلق إلا في المناسبات الاستثنائية، وفي سنة 737هـ شيّد السلطان الناصر حظيرة للماشية والأبقار والأوز في مكان فضاء كان يُستخدم كمحجر لأعمال التشييد بالقلعة[7].

حوت القلعة من جهتها الغربية آنذاك على “الإسطبلات السلطانية” وكانت تُشرف على ميدان الرميلة أو الميدان الأسود “قرّة ميدان” ومسجد الناصر حسن، وكان وجودها بالقرب من الميدان ضروريًا لأنه المكان الذي يتدرب فيه الأمراء والجنود المماليك، فضلاً عن صلاة السلاطين للعيد به، ولعبهم الكرة مع خواصّهم فيه، وهي لعبة البولو الشهيرة[8]، وقد كان المشرف على هذه الإسطبلات من أهم وأكبر أمراء العصر المملوكي وهو “الأمير آخور كبير”، وكثير من هؤلاء الأمراء ارتقوا إلى منصب السلطنة المملوكية؛ لأن الخيول كما نعلم كانت بمثابة ناقلات الجند ومدرعات الهجوم كما في أيامنا هذه، لذا كان “الأمير آخور” من أهم أمراء ومقدّمي ذلك العصر[9].

ولم تكن القلعة لسُكنى السلطان والنائب وأسرتيهما فقط، فقد كانت بمثابة مدينة عسكرية متكاملة، اشتملت كذلك على “دور ومساكن للمماليك السلطانية، وخواصّ الأمراء بنسائهم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم[10] وفَرشخاناتهم[11] وشُربخاناتهم[12] ومطابخهم وسائر وظائفهم، وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاوون، وكان بها أيضا طِباق المماليك السلطانية ودار الوزارة، وتعرف بقاعة الصاحب، وبها قاعة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص، وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه، وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء، وبها دار النيابة، وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك، وبها المساجد والحوانيت والأسواق[13].

ونظرًا للأهمية السياسية والعسكرية لهذه المدينة الحصينة مقر الحكم المملوكي العظيم، فقد كان من الأهمية بمكان ألا تنقطع المياه عنها طيلة العام، فلم تعتمد على السقايين كما اعتمد القاهريون في حياتهم اليومية حينذاك، ولذلك قرّر الناصر محمد بن قلاوون سنة 713هـ بناء أربع سواقي على النيل، ومن ذلك الموقع كان يتم نقل المياه ورفعها من موضع إلى آخر بواسطة قناة مائية عُرفت فيما بعد باسم قناة الغوري، حتى تصل إلى سور صلاح الدين حيث أُقيمت شبكة القنوات المؤدية إلى القلعة، وقد كان وصول المياه بهذه الطريقة عاملاً من عوامل ضعف الوضع الإمدادي للقلعة، ذلك أنه كان يمكن للغزاة بسهولة أن يقطعوا وصول هذه المياه إلى القلعة، وهو ما فعله الظاهر جقمق في الدولة المملوكية البرجية حين حاصر المماليك السلطانية في القلعة وأجبرهم على الاستسلام والرضوخ.

ومن هنا فكر الناصر بإقامة مشروع ضخم سنة 727هـ حيث أراد أن يجعل مياه النيل تعبر من تحت القلعة عن طريق تنفيذ مشروع حفر قناة “خليج” يبدأ بالقرب من حلوان على بُعد عشرين كيلومترًا جنوبي القلعة، وأرسل مُتولي العمائر (يُناظر وزير الإنشاءات في يومنا) لدراسة المشروع واحتياجاته، لكنه اضطر إلى التخلي عنه نظرًا لكلفته العالية[14]، ولو تم هذا المشروع لكن ثورة إنمائية كبيرة لشرق القاهرة، فضلاً عن استقرار وضع الإمداد المائي للقلعة.


* باحث في التاريخ والتراث

[1] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص121.

[2] خطط المقريزي 3/ 364، 365.

[3] خطط المقريزي 3/ 361.

[4] في ميدان القلعة اليوم أو الرميلة قديما.

[5] خطط المقريزي 3/ 366.

[6] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص121.

[7] خطط المقريزي 3/ 366.

[8] خطط المقريزي 3/ 358.

[9] خطط المقريزي 3/ 366.

[10] الطشت خاناه: هو بيت الطشت، وهو المكان المخصص لغسل الملابس وحفظ آنيتها. القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 9.

[11] الفرش خاناه: هو بيت الفرش، وهو المكان المخصص لحفظ مفروشات السلاطين والأمراء وخيامهم. القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 10، 11.

[12] الشراب خاناه هو بيت الشراب وهو المكان المخصص لحفظ مواد الشراب وآنيته من السكر والأواني الصيني وغير ذلك. القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 9.

[13] خطط المقريزي 3/ 358.

[14] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص122، 123.