اضغط لمطالعة الحلقات السابقة..

لقد ازدهرت التجارة في القاهرة المملوكية، حتى إنّ العلاقات المملوكية الأوربية في طيلة القرون السابع والثامن والتاسع والعاشر كانت تقوم على أساس تجاري متين، وما كان سيطرة البرتغاليين منذ بداية القرن العاشر الهجري على جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي، وإقامة مستعمرات لهم في الهند إلا بسبب احتكار المماليك لتجارة التوابل الهندية والآسيوية.

لقد كانت التجارة تمارس في الأسواق بطبيعة الحال، وكان السوق صفان من الحوانيت على جانبي الطريق، قد يكون مسقوفًا أو مكشوفًا، وكانت تلك الحوانيت دكاكين صغيرة تفتقر إلى التهوية والضوء الجيد، ويجلس صاحبها على مصطبة مفروشة بالسجّاد أو الحصير خارج الدكّان ويجلس إلى جواره العميل، وبالرغم من تواضع تلك الحوانيت في هيئتها إلا أن بعضها كان يطوي كنوزًا ثمينة، ويُغلق الحانوت بباب ذو مصراعين أفقيين يُستخدم العلوي منها وقت النهار كمظلّة للحانوت، والسفلي كنضد للبيع والشراء، وقد يشترك أكثر من تاجر في حانوت واحد، ويتناوبون فيه العمل على ورديات، فيحدّثنا المؤرخ جمال الدين بن تغري بردي (ت874هـ/1469م) عن حانوت صغير ملاصق لجامع أحمد بن طولون كان يُمارس فيه ثلاث من التجّار عملهم بالتعاقب، الأول كان يبيع غزل القطن من الفجر حتى الظهر، والثاني يستخدم الحانوت كمخبز حتى صلاة العصر، أما الثالث فيبيع فيه الحُمّص والفول[1]!

ولقد كان التجّار يتجمّعون حسب تخصصاتهم، فعند باب الفتوح في شمال القاهرة وُجد الجزّارون وباعة الحبوب والتين المجفّف، وعلى مقربة منهم كان السروجيون يُمارسون نشاطهم فإذا ما قصدنا الجامع الأقمر لداعبت أنوفنا روائح متباينة في إثارتها للشهية تتصاعد من المطابخ والفاكهيين والشوائيين وبوجه عام من باعة الأطعمة، وحول الجامع الأقمر تراكمت مئات الفوانيس الشمعية التي تُستخدم بكثرة في شهر رمضان وهي على درجة كبيرة من الرقة تنبعث من بريق معدنها الأبيض. وإذا ما اتجهنا إلى باب النصر شرق باب الفتوح فسنلقى أنفسنا وسط شلال دافق من الأقمشة المبسوطة يعرضها كل من كانت حرفته تتعلّق بلباس أهل القاهرة من حائكين وصبّاغين وغيرهم، وعلى مقربة منهم عُلّقت شباشب أزواجًا في صفوف مُدّت على حبال، وفي البقة الواقعة بين جامعي الأقمر والخرنفش يحسب المرء نفسه في معرض هائل للطيور يتداخل فيه صوت الدجاج مع إرجاع البلابل وهديل الحمام، فقد كانت الطيور تُعرض في هذا المكان بأنواعها، قال المقريزي: “يسلك أمامه فيجد سوقا يعرف أخيرا بالوزارزين والدجاجين يباع فيه الأوز، والدجاج والعصافير، وغير ذلك من الطيور، وأدركناه عامرا سوقا كبيرا من جملته دكان لا يباع فيها غير العصافير، فيشتريها الصغار للعب بها[2].

ومن المهم الإشارة إلى أن المناطق السكنية في المدينة كانت تمتد حول منطقة النشاط الاقتصادي؛ لأن تمركز المنشآت ذات الاغراض التجارية أو الحرفية في هذه المنطقة يجعل من الصعب استخدامها للإقامة وذلك باستثناء المباني الجماعية، وتم تنظيم هذه المناطق السكنية على أساس تقسيمها إلى أحياء تُسمى “حارات”، ويحدّد المقريزي طبيعة الحارة بأنّها “كلّ محلّة دنت منازلها“، أي كل مكان تتقارب فيه المنازل، ويسرد المقريزي قائمة تضم 38 حارة/حي[3].

وبجوار الجامع الأزهر كان يوجد سوق الفرائين، وتُباع فيه أنواع الفراء كالسمّور والوشق والعمائم والسنجاب، فكان يستخدمها في أول الأمر قوّاد السلطان وكبار الموظفين، ثم استخدمها بعد ذلك في نهاية القرن الرابع عشر نساء الطبقة الثرية، وكان هناك في هذه المنطقة أيضًا سوق النجّارين حيث تُباع المحفورات الخشبية ومن أشهرها بطبيعة الحال المشربيات، ولم يكن بمقدور هؤلاء الصنّاع الذين استخدموا أصابع أقدامهم في العمل أن يصلوا بصنعتهم إلى تلك الدرجة من المهارة والدقة والسرعة لو أنهم استخدموا أيديهم[4].

وبالقرب من الغورية والجامع الأزهر وُجدت سوق مزدهرة للكفتيين، وهي صناعة النحّاس المُكفَّت أو المطعّم الذي كان عنصرًا أساسيًا ولا غنى عنه في جهاز العروس، وقد تحدث المقريزي عن هذه الصناعة بشيء من الانبهار والاعتزاز بها، وألمح إلى أنها كانت قد بدأت في الانحسار في عصره في منتصف القرن التاسع الهجري، قال:

||سوق الكفتيين: هذا السوق … يشتملُ على عدّة حوانيت لعمل الكفت، وهو ما تُطعّم به أواني النحاس من الذهب والفضة، وكان لهذا الصنف من الأعمال بديار مصر رواج عظيم، وللناس في النحاس المكفت رغبة عظيمة، أدركنا من ذلك شيئًا لا يبلغ وصفه واصف لكثرته، فلا تكاد دار تخلو بالقاهرة ومصر من عدّة قطع نحاس مكفت، ولا بدّ أن يكون في شورة العروس دكة نحاس مكفت. والدكة: عبارة عن شيء شبه السرير يعمل من خشب مطعم بالعاج والأبنوس، أو من خشب مدهون، وفوق الدكة دست طاسات من نحاس أصفر مكفت بالفضة، وعدّة الدست سبع قطع بعضها أصغر من بعض، تبلغ كبراها ما يسع نحو الأردب من القمح، وطول الأكفات التي نقشت بظاهرها من الفضة نحو الثلث ذراع في عرض إصبعين، ومثل ذلك دست أطباق عدّتها سبعة بعضها في جوف بعض، ويفتح أكبرها نحو الذراعين وأكثر، وغير ذلك من المناير والسرج وأحقاق الأشنان والطشت والإبريق والمبخرة، فتبلغ قيمة الدكة من النحاس المكفت زيادة على مائتي دينار ذهبا، وكانت العروس من بنات الأمراء أو الوزراء أو أعيان الكتاب أو أماثل التجار تجهز في شورتها (جهازها) عند بناء الزوج عليها سبع دكك، دكة من فضة، ودكة من كفت، ودكة من نحاس أبيض، ودكة من خشب مدهون، ودكة من صيني، ودكة من بلور، ودكة كداهي: وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين، أدركنا منها في الدور شيئا كثيرا، وقد عدم هذا الصنف من مصر إلّا شيئا يسيرا||[5]

وبجوار التجارات الكثيرة، والصنائع المتعددة، تصدّرت تجارة الرقيق والتوابل على التوالي تلك التجارات، فقد حظي الشركس والسلاف والجرجيون والأتراك على إقبال كبير، فكان ثمن الواحد منهم أعلى من مثيله من الزنوج، فعلى سبيل المثال اشترى السلطان قلاوون في حداثته بمبلغ ألف قطعة ذهبية.

وخشية من وقوع الحريق في القاهرة المملوكية وأسواقها بالتحديد، كما حدث في سنة 711هـ/1311م كانت السلطة والمحتسبون والولاة يأمرون التجّار والناس “أن يُعمل بجانب كلّ حانوت بالقاهرة ومصر[6] زيرٌ أودنّ كبير ملأن ماء[7].

أما التوابل، فقد كان تجّارها يجنون من ورائها أرباحًا طائلة حتى إنه قيل عنها أنها سقطت في بدء الخليقة من الجنة فحملتها مياه النيل وقذفت بها إلى أرض مصر، وأهم أنواع التوابل التي كانت ترد هي القرفة والقرنفل والمستكة والفلفل والزعفران وحتى القرن الخامس عشر كان البلسم شديد التوفر في القاهرة، وسُمي تجّار التوابل بتجّار الكارم، ومنذ القرن الثامن والتاسع الهجري ظهر أثر تجار الكارم على المجتمع المماليكي، وصاروا بمثابة طبقة رجال الأعمال في عصرنا هذا؛ وكان لهم رئيس بمثابة رئيس نقابة اليوم هو “رئيس الكارمية”، ولقد وصلت ثروة بعضهم مبلغًا عظيمًا جعل الدولة تقترض منهم في بعض أوقات الأزمات؛ فهذا التاجر الكبير، والصدر الشهير تاج الدين الكارمي تُوفي سنة 732هـ/1332م مخلّفًا وراءه ثروة قُدّرت ب100 ألف دينار ذهبي، أي ما يعادل 15 مليون دولار اليوم، هذا غير البضائع والأثاث والأملاك بحسب العلامة ابن كثير[8].

وقد كان لهؤلاء الكارمية جهود كبيرة في إقامة المنشآت الخدمية الموقوفة مثل المدارس والمساجد والأربطة وغيرها، وتعجّ مصادر التراجم المملوكية بسيَر العشرات من هؤلاء، فهذا سراج الدين التاجر الكارمي الإسكندراني المتوفى سنة 714هـ/1314م “كان من أعيان الكارم، وذوي الجود والمكارم، رئيساً وجيهاً، فاضلاً نبيهاً، وقف وقوفاً جيده، وبنى مدرسة بالثغر [السكندري]”[9].

اشتُهرت القاهرة كذلك بتجارة بعض المنتجات الحيوانية، مثل درقات السلاحف، وريش النعام، والسياط من جلد فرس النهر، والجلد المراكشي، وقد كانت الخامات المعدنية تُجلب من أوروبا عدا الذهب الذي كان يأتي من السودان، والأحجار الكريمة من سيلان والهند وإيران، ونذكر أيضًا أنواع السكر المصنوع في الفسطاط، والسجّاد المنسوج في مصر، يقول فولكوف: “إذا ما أردنا الاختصار لقلنا: كان المرء يجدُ كل شيء في القاهرة، ومن كل أنحاء العالم من بغداد والجزيرة العربية والقسطنطينية وسوريا والمغرب كان يأتي النخّاسون إلى القاهرة ليزوّدوها بالعبيد[10]!

وقد تنوعت مآكل أهل القاهرة في الزمن المملوكي، وقد ترك لنا الرحّالة الإيطالي فريسكو بالدي وصفًا مهمًا لهذه العادات؛ فقد زار المدينة سنة 785هـ/1384م؛ فقد ذكر أن أكثر من مائة ألف من سكّانها كانوا ينامون في الحدائق أو على قارعة الطريق، وإنّ عددًا من الطبّاخين كانوا يُمارسون مهنتهم في الطرقات ليلاً ونهارًا، ويطبخون في قدور بديعة من النحاس المبيض، وطعامهم فائق الجودة إلى الحد الذي يُفضّل الناس معه ألا يطبخوا في منازلهم، ويكتفون بشرائه من الأسواق[11]!

وقد ترك لنا العلامة المقريزي (ت845هـ/1442م) وصفًا مهمًا لطعام أهل القاهرة آنئذ؛ حيث قال: “ومآكل أهل القاهرة الدميس (الفول)، والصير (السمك الصغير)، والصحناة (السمك المطحون أو الصغير المملّح)، والبطارخ، ولا تُصنعُ النيدة، وهي حلاوة القمح، إلا بها وبغيرها من الديار المصرية، وفيها جوارٍ طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، لهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورياسة متقدّمة[12].


*باحث في التاريخ والتراث والحضارة الإسلامية

[1] أولج فولكف: القاهرة ص103.

[2] المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/ 229. دار الكتب العلمية – بيروت.

[3] أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة ص147.

[4] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفن والتجارة ص161.

[5] المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/ 190.

[6] المقصود بمصر، مدينة الفسطاط.

[7] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 9/ 67. وزارة الإرشاد القومي، دار الكتب القومية – مصر.

[8] البداية والنهاية 14/ 156. دار الفكر العربي – بيروت.

[9] الصفدي: أعيان العصر وأعوان النصر.

[10] فولكف: القاهرة ص106.

[11] فولكف: القاهرة ص106.

[12] المقريزي: المواعظ والاعتبار 2/ 215.


اقرأ المزيد:

أُنشودة رولان.. المسلمُ في الملحمة الشعبية الصليبية

البيمارستان القلاووني .. دُرّة شارع المعز!