في 15 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1935م، اشتعلت المظاهرات في كافة أنحاء القاهرة ضد الإنجليز، وكان وقودها الأبرز طلبة الجامعات والمدارس، وعند كوبري عباس وقع صدامٌ كبيرٌ بين المتظاهرين المتحمسين وبين قوة عسكرية إنجليزية، لم تتورَّع عن إطلاق النار على أي شاب يُلمح وهو يرفع العلم المصري.

في بداية الكوبري كان يحمله الطالب بكلية الزراعة محمد عبد المجيد فسقط شهيدًا، وحمله بدلاً منه الطالب محمد عبد المجيد فنالته رصاصة إنجليزية فورًا، فالتقط العلم شاب ثالث يدرس في القصر العيني، حمل العلم وتجاوز به الكوبري وتحدَّى به الضابط الإنجليزي الذي استقبله بـ8 رصاصات انتزعت الروح من جسده على الرغم من كافة جهود الأطباء معه، حينما نُقل إلى المستشفى.

هذا الشاب هو محمد عبد الحكم الجراحى، الذي خُلد في العقلية الشعبية المصرية بالعبارة الشهيرة: «رفعت العلم يا عبد الحكم».

 

هو الحاكم الـ23 في دولة المماليك البرجية، أصبح حاكمًا لمصر وعمره أقل من 30 عامًا، قرر السير على العادة المصرية بتدشين ضريح فخم لجثمانه قبل وفاته، فبنى قبة صغيرة الحجم جميل العمران عام 1499م، وبرغم ذلك لم يُيسر له أن يُدفن فيها، فلقد مات مقتولاً بعد 20 شهرًا على حُكمه لمصر ولم يُعثر له على جثة، وهو أمرٌ يُمكن فهم حدوثه خلال فترة الاضطرابات التي عاش فيها.

حُرِم جسده من الدفن تحت القبة المملوكية، لكنه أهدى المصريين شاهدًا معماريًّا جميلًا لا يزال باقيًا بيننا حتى اليوم.

إنه السلطان الظاهر قنصوة.

 

ما هو الشيء الذي يُمكن أن يجمع بين شخصين يفصل بينهما قدر كبير من الزمن؟
الإجابة: الموت.. أو بمعنى أدق الجوار في الموت.

فهما وإن لم يتيسر لهما الالتقاء في الدنيا، قُدِّر لهما أن يكونا جارين عقب موتهما، بعدما أقيم ضريح أنيق لعبدالحكم بجوار القبة، ليكون كلا الصرحين شاهدين على قطعة من تاريخ مصر.

هل يُمكن أن يجمعهما شيءٌ آخر؟
نعم.. وهو ليس الموت هذه المرة، وإنما «بلدوزر هدم».

فما هي الحكاية؟
ضجيجٌ مُستعر اندلعت حُمته الأيام الماضية، بعدما حاصرت وحدات المهندسين منطقة «صحراء المماليك»، وبدأت في أعمال توسعة للطريق قدَّر الكثيرون أنها لا بد أن تأتي على حساب القباب والمقابر الأثرية التي تُحيط بكلا الجانيبن، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد.

إنهم يهدمون التاريخ

وللمعترضين كُل الحق، فالمنطقة تحمل طابعًا عُمرانيًّا فريدًا يستحيل أن يتواجد مثله في العالم، ما استدعى بذْل جهود تطوير كبيرة بحق هذه المنطقة على أيدي الحكومات المصرية المتعاقبة وعدد من المنظمات الدولية المعنية بالآثار كاليونسكو.

البداية، حينما قرَّر أمراء المماليك الشراكسة أن يقوموا بأول عملية غزو عمراني لصحراء القاهرة، فاختاروا بقعة فارغة تقع شرقي القاهرة، بمحاذاة جبل المقطم، لتكون حاضنة لمقابرهم وقبابهم، وهم في هذا الاتجاه حافظوا على العادة الإسلامية بدفن الموتى ناحية الشرق، وتحديدًا حول جبل المقطم، والتي اصطكها الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب حينما أمر فاتح مصر عمرو بن العاص برفض عرض المقوقس حاكم مصر بشرائها بعشرين ألف دينار لأنها «غراس الجنة» عند الأقباط، وأمره بدفن موتى المسلمين في منطقة تقع بين الفسطاط وجبل المقطم.

 

وفي الأصل كانت هذه الرقعة ميدانًا فسيحًا أُعدَّ للعب، حتى عُرف بميدان القبق، وهي واحدة من أشهر الألعاب التي أُغرم بها المماليك ومارسوها على نطاقٍ واسع، كما كان يُسمَّى أيضًا بأسماء عِدة، مثل: الميدان الأسود وميدان العيد وميدان السباق.

ويشرح دكتور أشرف توفيق في بحثه «الحيوان والطير في البيوت السلطانية المملوكية»، لعبة القبق، بأنها عبارة عن خشبة عالية يتم نصبها في الميدان وبأعلاها دائرة من الخشب، يتنافس الرماة على إلقاء السهام في جوف الدائرة لتصيب هدفًا معينًا، كأحد التمارين على إحكام الرمي.

وبداية من القرن الثامن الهجري، بدأ أمراء مصر في تعمير هذه المنطقة، وإنشاء المدافن الخاصة بهم فيها. وعلى مدى التاريخ عُرفت بالعديد من الأسماء، مثل: القرافة الشرقية، صحراء المماليك، قرافة المماليك، مقابر الخلفاء (تسمية خاطئة أطلقها عليها عدد من المستشرقين، بينما في الحقيقة لم تستضف هذه البقعة جثمان أي خليفة، وإنما كل من دُفن فيها هم أمراء عصر المماليك الشراكسة (1382م- 1517م)، أما الخلفاء فقد شُيدت مقابرهم في المكان الذي يوجد به اليوم خان الخليلي، ولكن لا يوجد لها أي أثر باستثناء مقبرة الملك الأيوبي الصالح الذي اشتهر بحروبه مع الصليبيين).

بعد المماليك حافظ المصريون على هذه العادة الخطَّابية، واستمروا في تشييد مقابرهم في ذات المنطقة التي أصبحت بمثابة الجبَّانة الرئيسية لأهل مصر لمئات السنوات، ما أكسبها زخمًا معماريًّا لا مثيل له.

فبخلاف أنها استضافت مشاهد أثرية كقبة الوزير شاهين، قبة ابن غراب، قبة خديجة أم الأشرف، قبة البجاسي، مسجد السلطان قايتباي (الذي رُسمت صورته على الجنيه المصري)، سبيل قايتباي، تكية أحمد أبو سيف مسجد السلطان الأشرف إينال، قبة عصفور، وغيرها من المعالم الأثرية العتيقة التي كُتبت على واجهاتها بخطِّ الثُلث المملوكي نصوصها التأسيسية، جاورتها أيضًا مجموعة كبيرة من مقابر أفراد دشنوا مراقدهم الأخيرة في أوقاتٍ حديثة نسبيًّا، ولم يقلوا عناية عن سابقيهم بمعمار قبورهم، وهو ما دفع المستشرق الألماني إرنست كونل (Ernst Kühnel)، لأن يصف المنطقة بأنها «أروع مدينة أموات في العالم».

 

وللدلالة على مدى الشهرة التي حظيت بها هذه المنطقة يكفي أن نعلم أنه حينما دعا الخديوِ إسماعيل عددًا من أبرز ملوك وزعماء العالم لحضور افتتاح قناة السويس، أعدَّ لهم برنامجًا سياحيًّا مبهرًا عن أبرز معالم مصر، شهد اليوم الرابع منها زيارة إلى «جبانة المماليك».

وهو ما يُبرِّر مشاريع التطوير المتتالية التي نفذتها الحكومة المصرية لتطوير هذا المكان. واحدة من أشهر محاولات التطوير التي نتج عنها التضحية بعددٍ كبيرٍ من المقابر حدثت عام 1956م، حينما تمَّت إزالة 1200 مقبرة من أجل إنشاء طريق صلاح سالم.

كما أن الاتحاد الأوروبي سبق أن أطلق مبادرة لإقامة 3 مشروعات «تدفع جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية للسكان المحليين» بقيمة 1.3 مليون يورو، وزيارة وزير الآثار الدكتور خالد العناني للمنطقة منذ 4 سنوات للوقوف على بعض جهود التطوير التي تجري بالتعاون مع بولندا، وآخرها كان مشروع «محور الفردوس» الذي استدعى تنفيذه كل هذا الجدل الذي شهدناه اليومين السابقين.

محور الفردوس

تُحيط بهذا المشروع هالة من الغموض، فلم تُنشر عنه أي أخبار أو تصدر عنه تصريحات تمهيدية كما هو الحال مع أي مشروع آخر تُنفذه الدولة، فقط نعرف مساره الذي كشفت عنه محافظة القاهرة في بيانها الرسمي بشأن المشروع، والذي يتقاطع مع عددٍ كبيرٍ من شوارع القاهرة الكبرى وينتهي بمحور المشير طنطاوي، الذي فرغت الهيئة الهندسية من إنشائه منذ فترةٍ قريبة.

 

ولكن يبدو أن هذا المُخطَّط كان أحد الأفكار القديمة الموضوعة في الدرج، والتي خرجت إلى النور حديثًا في ظِل الطفرة التي تشهدها حالة الطرق في البلد مؤخرًا، وهو ما ظهر في إعلان الدكتورة سهير حواس، الرئيس السابق للجهاز القومي للتنسيق الحضاري، أن فكرة هذا المحور تمَّ طرحها منذ عدة سنوات، وتم إيقافها بسبب اعتراضها خلال الاجتماعات التي عُقدت لمناقشة هذا الأمر.

ومن جانبها كذَّبت وزارة الآثار كل المزاعم التي تم تداولها عبر موقع التواصل الاجتماعي بشأن هدم الأضرحة الأثرية، وأكدت أن كافة المقابر الموجودة بالصور «مبانٍ غير مسجلة تاريخيًّا»، وهي فقط مقابر حديثة لشخصيات وأفراد عاديين وليست خاصة بمماليك مصر.

كما ظهر أسامة طلعت رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية، في مداخلة هاتفية في برنامج «صباح الخير يا مصر» وكرَّر نفي الأمر، وطالب المواطنين بالذهاب إلى المنطقة بأنفسهم ليتأكدوا من حقيقة الأمر، وهي الدعوة التي لم يكن لنا أن نرفضها.

ذهبنا وتأكدنا

فور اندلاع هذا الصخب، قام «إضاءات» بزيارة سريعة إلى المكان لتفقُّد الأوضاع على أرض الواقع، ولنطَّلع على الأمر عن كثب بعيدًا عن تضخيم طبيعي دائمًا ما يُصاحب الحديث عن أي قضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

الوضع ليس كارثيًّا، كما توحي بعض القراءات «الفيسبوكية»، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور.

 

ما أن تصل إلى المكان حتى يُطالعك احتشاد كبير من المهندسين وعمَّال البناء بأزيائهم الفسفورية المميزة، كما يقف على جانبي الشارع عدد من بلدورزات الهدم التي نشبت نابها العملاق في الأضرحة التي تقف على الصفِّ الأول الذي يطلُّ على الشارع مباشرة، علاوة على بعض العمال المنهمكين في إزالة أعمدة الإنارة المدفونة في قلب الرصيف تمهيدًا لإزالتها ثم إزالة الرصيف بأكمله.

وهنا يجب أن نوضِّح قليلًا الطبيعة المعمارية لهذه الأضرحة التي تختلف كثيرًا عن معظم المقابر التي نستخدمها اليوم، والتي تكون عادة عبارة عن رقعة محدودة جدًّا من الأرض تكفي لبناء بعض الفجوات الأسمنتية يُودع فيها جثمان المتوفَّى، أما تلك الموجودة في صحراء المماليك فهي على النمط القديم شاسع المساحة الذي يضمُّ حوشًا واسعًا ينتهي بمرقدٍ رخامي وأحيانًا يكون ملحقًا به غرفة أو اثنتان، وهو ما يُبرِّر وجود بعض الأسر التي سكنت هذه الأحواش وحوَّلتها إلى مأوى لها، وهي واحدة من المشكلات التي ستنتج عن قرار الهدم ولا نعرف هل أعدَّت لها وزارة الآثار حلاًّ أم لا؟

وربما تكون هذه الضبابية في التنفيذ سببًا في بعض عبارات عدم الحماس للمشروع، التي سمعتُها من بعض السكان هناك خلال جولة الشارع.

عليك أن تعود مبكرًا بقدر ما تستطيع قبل أن يجن الليل فتُجنَّ زوجك وسط هذا الفراغ المظلم المحيط بصحراء المماليك من جميع الجهات.
خيري شلبي – رواية «صحراء المماليك»

تجوَّلتُ في الشارع من بدايته وحتى نهايته فلم أرَ تعديًّا على قبرٍ رخامي أو إزالة لعِظام ورفات الموتى، كما أُشيع، كما أن أكثر مقبرتين حظيتا بالاهتمام وقيل إنهما تم هدمهما لم تُمسَّا، وهما قبرا الجراحي والسلطان قنصوة، اللذان يقعان في مقدمة الشارع.

 

فالمقابر التي تمت الإطاحة بسورها في سبيل اقتطاع أجزاءٍ منها ضمَّت أسماءً عملاقة، مثل: أحمد لطفي السيد واحد من ألمع مفكري مصر، ورجل الأعمال المصري عبود باشا أحد مؤسسي بنك مصر وإليه يُنسب موقف عبود، وحسن باشا صبري الذي تولى رئاسة وزراء مصر في عهد الملكية، وكلها مقابر حديثة من حيث الزمن بالفعل، لكن التنكيل بأضرحة أصحابها يستدعي، على الأقل، تقديم اعتذار على ذلك، وتصحيح اعتراف «الآثار» المنقوص بأنها «لم تهدم أثرًا مسجلًّا».

حتى الآن تكون وزارة الآثار صدقت في نصف كلامها عن عدم هدم المقابر المملوكية، ولكن ماذا عن أن كافة الأضرحة مملوكة لأفراد عاديين وليسوا من الشخصيات التي لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ مصر، هنا سيكون لنا وقفة.

فتقاعس الوزارة عن تسجيل البقاع المعمارية كآثار لا يجوز القُرب منها جعل عدد الآثار المسجلة من كافة هذه المنطقة نحو 30 أثرًا، وبالتالي فإننا يُمكننا استخدام نفس منطق الوزارة لجعل معظم المنطقة الأثرية مُرشحة للإزالة بسبب عدم تسجيلها!

والمفارقة أننا ندين بالفضل لأغلب ما نعرفه عن «صحراء المماليك» إلى المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزي، الذي استفاض في الحديث عن المنطقة في كتابه الشهير «الخطط المقريزية»، إلا أن قبره أيضًا وقع ضحية لأحد بلدوزرات الهدم، وتمت تسويته بالأرض.