نخبة عسكرية منفصلة في معظمها عن الشعب، لها قصورها وقلاعها الخاصة، تهيمن على مقاليد الأمور وخزائن الأرض بشرعية سيفها الذي هَزَم في البداية أعداءً حقيقيين للأمة لحوالي نصف قرن أو أكثر قليلاً، ثم ابتزَّت أمتَها بهذه الانتصارات خمسة قرون، احتكرت فيها الزمان والمكان؛ يبدو هذا السياق مألوفًا، أليس كذلك؟

دهم تلك الجماعة العسكرية في منتصف دورة حياتها الطويلة، عسكريٌّ طامع، يقود أكثر جيوش العالم فتوة في حينه، فهزمها في موقعتيْن فاصلتيْن في مرج دابق 1516م، ثم الريدانية 1517م، ثم علق رأس سلطانها «طومان باي» على باب زويلة.

لم يغادر «سليم الأول العثماني» مصر إلا بعد أن استصفى لنفسه من هذه النخبة المملوكية القديمة، من يتقاسم معه حكم البلد وجمع خَراجِه. وهكذا استكمل نهر الزمن المصري زحفته الراكدة ثلاث قرون أخرى لم تقطعها إلا مدافع نابليون عام 1798 التي مزّقت عنترية المماليك على ثرى هضبة الأهرام، وأزالت أسطورتَهم من وعي المصريين الذين اضطروا أن يواجهوا برابرة الفرنجة بأجسادهم وعمائمهم وبنادقهم، بعدما فرَّ حماة القرون الغابرة مدحورين.

الآن نعود إلى لحظة تأسيس هذه الدولة العجيبة لنسأل السؤال الأكبر: ما هو مصدر الشرعية الذي ارتكز عليه عبيد الأمة للقفز على كرسي السلطة في القاهرة – أهم عاصمة إسلامية في ذلك الوقت – التي كانت معقد آمال الأمة المهزومة شرقًا وغربًا وحصنها الأخير؟


طوفان الهزائم وكوابيس الاستئصال

كان النصف الأول من القرن السابع الهجري من أسوأ ما مرَّ على الأمة الإسلامية في تاريخها كله، فلا يجاوزه في ذلك إلا أيام القاع التي نتقلَّب فيها الآن. شعر المسلمون في تلك الفترة بخطر وجودي حقيقي، وذهب بعقولهم خيالات الاستئصال بعد أن أطبقت كماشة الهزائم عليهم من طرفيْ الأرض.

شرقًا، شهدت سنوات هذا القرن العسير السيل المغولي الجارف الشهير بزعامة السفاح الأسطوري جنكيز خان وأبنائه، ثم حفيده هولاكو. اجتاح المغول آسيا الإسلامية، ودمَّروا حواضرها العظيمة من بُخارى وسمرقند شرقًا إلى حلب غربًا، مرورًا بمذبحة العصور الوسطى العُظمى في بغداد. تساقطت الدويلات الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولحقتها الخلافة العباسية مهيضة الجناح بعد أن دُمرت عاصمتها ذات القرون الخمسة.

لم يحقق عشرات الحكام المسلمين من أصحاب الألقاب الفخمة إنجازات تُذكَر ولو لحفظ ماء الوجه، بل سارع بعضهم مثل «بدر الدين لؤلؤ» حاكم الموصل إلى مبايعة خان المغول «هولاكو»، والدخول في طاعته.

أما غربًا، فقد ضعفت دولة الموحدين التي كانت تحكم المغرب الإسلامي كله والأندلس تحت وطأة النزاعات الداخلية على السلطة، وتكالب أمراؤها على الترف على حساب خزائن الدول. بدأ الانهيار بهزيمة الموحدين الساحقة في معركة العقاب 609هـ على يد جيوش الممالك الأسبانية بزعامة ألفونسو الثامن ملك قشتالة، مدعومًا بآلاف الفرسان الصليبيين المتطوعين.

لم يمضِ ربع قرن على هذه الهزيمة المروعة حتى سقطت القواعد الأندلسية تباعًا في يد النصارى، ابتداءً بقرطبة 633هـ عاصمة الأندلس الإسلامية على مدار خمسة قرون، حتى لم يبقَ بحوزة المسلمين بالأندلس في النصف الثاني من ذلك القرن سوى مملكة غرناطة في أقصى الجنوب.

هكذا امتلأت القاهرة بلاجئي الشرق يُزيغون القلوب والأبصار بقصص فظائع التتار، وبلاجئي الأندلس والمغرب يقصّون فواجع تطاول الصليبيين. خيَّم الذهول وهواجس الفناء على الجميع، وتاق الناس إلى أي جديد يعيد لنفوسهم وإيمانهم الاتزان، أو حتى يؤجل خواطر العَدَم.


الهدف الخاطف في الدقائق الخطيرة الحاسمة

بعد تدمير جيوش هولاكو لبغداد وخلافتها عام 656هـ، أصبح اجتياح ما تبقى من حواضر الإسلام في الشام ومصر مسألة وقتٍ لا أكثر. كان يتقاسم حكم هذه المناطق عدة دويلات إسلامية تتبارى في الضعف والهوان، وبعضها لا يسيطر سوى على مدينة وقراها. أما أكبرها وهي مصر، فهي تحاول التعافي من اضطراب سياسي وأمني خطير بعد وفاة الصالح أيوب (647هـ) آخر السلاطين الأيوبيين الأقوياء.

تسيَّد الفرسان المماليك الذين استكثر منهم الصالح، واصطفاهم صغارًا من أسواق الرقيق في آسيا وغيرها ليخلق منهم جيشًا لا يدين بالولاء لسواه في الحروب الأهلية التي خاضها ضد أخيه وأعمامه الذين كانوا على استعداد للتحالف مع بقايا الصليبيين في السواحل الشامية لمحاربته. وفي غضون ذلك التطور التاريخي غير المسبوق، قُتِلَ 3 من حُكّام القاهرة وسُجِنَ الرابعُ في أقل من ثمان أعوام!

قتل المماليكُ بزعامة أقطاي وأيبك وبيبرس، توران شاه ابن أستاذهم الصالح الذي حاول منازعتهم السيادة بعد وفاة أبيه، وسلطنوا مكانه جارية الصالح المملوكة التركية مثلهم شجرَ الدر، لكنهم اضطروا بضغط الأعراف أن يزوّجوها لأيبك ليكون في الواجهة بدلًا من حكم المرأة الذي عيَّرتْهم به باقي العواصم الإسلامية.

استبد أيبك بالحكم، فنازعه أقطاي، فقتله أيبك غدرًا، وفرَّ مناصروه من مصر لما ألقيت لهم رأسه من فوق سور القلعة. ثم قَتَلَتْ شجرُ الدر أيبك غيرةً على حكمها وأنوثتها لما انتوى الزواج من أميرة أيوبية. قَتَلَ مماليكُ أيبك شجرَ الدر، ونصَّبوا ابنَه الصغير من طليقته، نور الدين علي حاكمًا، فعزله وسَجَنَهُ أقوى أمراءِ أبيه سيف الدين قطز، وتسلْطَنَ مكانه.

أظهر المملوك قطز أداءً استثنائيًا في هذه الأوقات العصيبة. فتصالحَ – ولو مؤقتًا – مع خصومه من مماليك أقطاي الذي قتله بأمر سيده أيبك، وعلى رأسهم «بيبرس». وقتل رسلَ التتار المتعجرفين لِيَضَعَ مصرَ ومماليكَها وشعبَها أمام الأمر الواقع!

خلال أشهر، أعدَّ قطز مصرَ المهلهلة للحرب، وخرجت جيوشُ المماليك عام 658هـ لمواجهة التتار الذين احتلّوا حواضر الشام حلب ودمشق بسرعة خاطفة لما انهارت دويلة الناصر الأيوبي، حفيد صلاح الدين الذي لم يرِثْ من جده سوى الاسم. لم يكن أحد من معاصري تلك الأيام يعرف بعد أن العالم الإسلامي في هذه اللحظة على أعتاب صعود مدوٍّ لعصر فريد، سيتسيَّدُ فيه هؤلاء العبيد على أمتهم ويسوسونها قرونًا برضاها أو رغمًا عنها.

هَزَمَ المماليك محترفو الحرب مقدمةَ التتار في غزة، ثم تراءى الجمعان في عين جالوت بفلسطين، حيث ذاق التتار لأول مرة طعم هزيمة مدوية، وفرّت فلولهم مخلِّفَةً وراءَها جثة قائد جيوشهم بالشام كَتْبُغا، والآلافَ من فرسانهم صرعى على ثرى فلسطين.أ

هَّل نصر عين جالوت الخاطف العظيم (658هـ = 1260م) النفوسَ في مصر والشام -قلبيْ العالم الإسلامي- لقبول ما لم يكن من الممكن قبوله في الخيال قبل سنوات. فقد منحَ الفرسانُ المجلوبون من أسواق الرقيق هنا وهناك، أمَّتَهُمْ نَفَسًا عزيزًا بعدما الْتَفَّ حولَ عنقها حبلُ التاريخ.

لم يهدأ المماليكُ المنتشون بالنصر بعد عين جالوت، فاندفع سيْلُهُم المضاد في الساعات والأيام التالية، فأزاح التتار الذين أخلَّت الصاعقة بتوازنهم عن الشام كله في أسابيع قليلة. وتنفَّستِ الأمةُ الصّعَداءَ ولو مؤقتًا، رُغمَ أن مطامع المماليك وطبائعَهم الذئبية أبَتْ أن يحظى المشهدَ بالنهاية المثالية التي يستحقها. إذ بينما الجيش الظافر عائدٌ إلى القاهرة، تفاقمتِ الخلافاتُ بين قطز وبين بيبرس، أقوى فرسان الجيش، والطامع في ولاية حلب الغنية البعيدة بعد تحريرها، وما كان قطز يمتلك السذاجة الكافية لقبول مثل هذا الطلب من ذلك الفهد الوثَّاب. كانت النتيجة قتل قطز قبل وصول الجيش للقاهرة على يد بيبرس والأمراء المتمالئين معه.

اعترف نائب السلطنة أقطاي المستعرب بالأمر الواقع خوفًا من الفتنة، وأعلن كبيرَ القتلة سلطانًا بدلًا من المقتول. كذلك سيرضى الشعب المذهول -وسيخفي ذهوله بالطبع- وستحتفل القاهرة بمناسبتيْن معًا: النصر، وسلطنة السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس.

ولإضافة المزيد من الشرعية إلى شرعيتيْ السيف والنصر، سيحتفي بيبرس بأحد أمراء بني العباس الفارّين من مذبحة بغداد وسينصِّبه خليفةً بعد المستعصم الذي قتله التتار (656هـ = 1258م)، ويعلن نفسه سلطانًا تحت ظلِّ أمير المؤمنين.

عزَّزَت كفاءة بيبرس القبولَ العام للحكم المملوكي، إذ لم تقتصر عزماته على الحفاظ على عرشه ومصالحه الشخصية. فشهدت سنوات حكمه التي قاربت العشرين انتصاراتٍ تاريخية على التتار سياسيًا وعسكريًا أبعدت خطرهم كثيرًا عن دمشق والقاهرة، كما نال الكيانُ الصليبي بالشام هزائمَ ساحقة لم تتكرر منذ أيام نور الدين وصلاح الدين قبل قرن، كان درّتها تحرير أنطاكية من الإمارة الصليبية عام 666هـ بعد أكثر من قرن ونصف من تأسيسها. والآن سنعود عشر سنوات إلى الوراء قبل سلطنة بيبرس، حيث النصر الآخر الذي بدأ قبل عين جالوت صناعة شرعية حكم المماليك، ولطَّخَتْهُ الدماءً أيضا.


فارسكور جنوب دمياط .. المحرم 648 هـ

تلتهم النار البرج الضخم في قلب معسكر الجيش المصري في فارسكور قرب دمياط. وبجواره على الأرض، جثةٌ ملقاة بإهمال متعمد. القتيل هو سلطان مصر المعظم «توران شاه بن الملك الصالح أيوب» الذي سحق الجيش المصري -وعمادُه مماليك أبيه الصالح- بقيادته فلولَ جيش «لويس» التاسع، قائد الحملة الصليبية على مصر المأسور في فارسكور أثناء محاولة الهرب إلى دمياط بعد هزيمته الكبرى بالمنصورة.

كان توران شاه قد استُدعيَ على عجل من إمارته بجنوب تركيا إلى مصر إثر وفاة أبيه الصالح بعد احتلال حملة لويس التاسع لثغر دمياط. أخفت شجر الدر الخبر، وأدارت المعركة بحنكة استثنائية بالتعاون مع قادة المماليك أقطاي وبيبرس وقلاوون وأيبك. بوصول توران شاه، كان لويس قد نال هزيمة ساحقة في المنصورة. وبينما تدور مفاوضات الجلاء وافتداء لويس التاسع المحمومة، أظهر توران شاه استهزاءه بشجرة الدر وقادة جيشه، وقدَّم عليهم بطانته الوافدين معه.

شعر المماليك المتحفزون، والزاهون بانتصاراتهم بأن «توران شاه» لا يحاول فقط سرقة النصر منهم في المرحلة الأخيرة، بل يوشك أن يمثل خطرًا وجوديًا عليهم، فتحرّكوا بما أمْلتْهُ عليهم غريزة البقاء وشهوة النفوذ. لم يتصوّرْ الشاب الأهوج أنهم سيعاجلونه بينما العدو ما يزال متحصّنًا في ثغر دمياط. انقضّ المماليكُ فجأةً على سلطانهم ومن معه، فأدركَهُ الموت، ولم ينفعْهُ البرجُ الذي أمر بتشييده لنفسه وسط المعسكر رمزًا لسلطته وشموخه.

دُفعَت فدية لويس التاسع المحبوس في دار ابن لقمان بالمنصورة، واكتمل جلاء الجيوش الصليبية من دمياط. انفجرت الاحتفالات في ربوع مصر بالنصر وبأبطاله، ولم تتأثر قيد أنملة بسلطانٍ قُتل على هامش المفاوضات!