تعليقاً على كلمته الوداعية لدى استقالته من رئاسة حزب العدالة والتنمية والحكومة في أيار/ مايو 2016، احتفى كثيرون بمعاني «الوفاء» والنبل والأخلاق الواضحة في ثنايا كلامه ولغة جسده، قلة فقط هي من تنبهت – إضافة إلى كل ما سبق- لمعنى «الذكاء» الذي لاح في المضمون والشكل والأسلوب وبين السطور.

أحمد داود أوغلو قال ضمناً في كلمته تلك، إنها ليست وداعية، وإنه يُبقي لنفسه خط الرجعة للسياسة والعمل الحزبي مفتوحاً، وتحديداً بسبب تلازم معنيي الوفاء والذكاء معاً فضلاً عن الطموح السياسي الذي لا يمكن إخفاؤه.


مسيرة حافلة

رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو» وزوجته (يمين)، والرئيس الجديد لحزب العدالة والتنمية «بن علي يلدرم» وزوجته – المؤتمر الاستثنائي للحزب – 22 مايو/أيار 2016

هناك دائماً فجوة غير بسيطة بين الحياة الأكاديمية والممارسة السياسية، وقلة فقط من الأكاديميين استطاعوا جسر هذه الهوة، وبالتأكيد فإن داود أوغلو أحدهم. يمكن لأي باحث أو قارئ أن يدرك مدى تأثير الأكاديمي والمنظِّر البروفيسور أحمد داود أوغلو على الحياة السياسية التركية في عهد العدالة والتنمية، فكتابه الأشهر «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية» الذي ألفه عام 2000 – أي قبل تأسيس العدالة والتنمية- يتضمن أهم النظريات والأسس التي بنيت عليها سياسة بلاده الخارجية لاحقاً وعلى مدى سنين طويلة – إضافة لبعض مسارات السياسة الداخلية كذلك – ما جعله مستحقاً للقب «مهندس السياسة الخارجية التركية».

مع فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2003 وتشكيل عبدالله غل الحكومة، أصبح مستشاراً أول لرئيس الوزراء (غل ثم أردوغان) للسياسة الخارجية حين برز نجمه وبات حاضراً في الزيارات واللقاءات ومكلفاً ببعض المهام والزيارات الخاصة حتى أطلق عليه ألقاب مثل «كيسنجر الدبلوماسية التركية» و«رجل الظل» فضلاً عن لقبه المفضل «الخوجا» أي الأستاذ.

بسرعة الصاروخ تنقل الأكاديمي البارز بعدها في المناصب الحكومية، حيث عين وزيراً للخارجية عام 2009 من خارج البرلمان في مخالفة للعرف السياسي التركي آنذاك.

وفي 2011، انتخب نائباً في البرلمان عن مدينته قونيا، مستمراً في منصب وزير الخارجية. وعام 2014، حين انتخب أردوغان رئيساً للجمهورية، لم يجد أفضل منه ليأتمنه على رئاسة الحزب والحكومة رغم أن المشاورات الداخلية في الحزب لم تأت به اسماً أول في تلك الفترة وفق تسريبات كواليس الحزب لاحقاً. قاد داود أوغلو الحزب في انتخابات حزيران/ يونيو 2015 التي فقد فيها أغلبيته البرلمانية ثم في انتخابات الإعادة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 التي فاز بها بنسبة %49.5.


الاستقالة

بدأت أولى ملامح الخلاف الضمني بين داود أوغلو وأردوغان بعد انتخابات حزيران/ يونيو، حيث حاول الأول تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد أحزاب المعارضة، بينما دفع الثاني نحو انتخابات الإعادة، وهو ما كان. كان يمكن فهم ذلك في حينها على أنه تنسيق وتبادل أدوار، لكن الأحداث اللاحقة أثبتت أنه لم يكن كذلك وأنه كان اختلافاً في الرأي بينهما.

سريعاً بدأت تتسرب لوسائل الإعلام أخبار انتظار عدد كبير من التعيينات الحكومية على طاولة رئيس الوزراء بسبب عدم التوافق عليها مع الرئيس. باختصار، كان داود أوغلو يريد أن يمارس صلاحياته كاملة كرئيس وزراء إيماناً منه بمعادلة «رئيس قوي – رئيس وزراء قوي»، أما أردوغان فكان حريصاً جداً على التناغم والتنسيق بين الطرفين ولكن برأس واحدة وقيادة واحدة، حيث تتمثل أمامه تجارب بعض الأحزاب التي فقدت ثقلها ودورها بعد انتقال رئيسها لرئاسة الجمهورية وحدوث خلافات وتناقض بين الرئيسين القديم/التاريخي والجديد، حزبا الوطن الأم والطريق القويم مثالاً.

في الأول من أيار/ مايو 2016، نشرت على الشبكة العنكبوتية مدونة باسم «ملف البجعة» مجهولة المصدر لكن معنونة بأنها لمن «يفدون الرئيس بأرواحهم»، عملت على شيطنته وإظهار أنه «خان الرئيس» وعمل على الانقلاب عليه. لم يعر داود أوغلو الملف أهمية معتبراً أن «ما يهتم به هو الملفات التي يكتبها المَلَكان»، لكن الملف ختم قائلاً: «لقد رضي بأن يكون بيدقاً في زي وزير، في لعبة شطرنج القوى العالمية التي تستهدف بلدنا .. وتعاون مع كل أعداء الرئيس .. هذا هو الصراع، ومعروف بالطبع من سيخسره»، وهو ما كان بعد أربعة أيام فقط.

في نهاية نيسان/ أبريل 2016 وقع 47 من أصل 50 عضواً في لجنة الحزب المركزية على قرار بنقل صلاحية التعيين والعزل في تنظيم الحزب (وخصوصاً رؤساء فروع الحزب) من رئيس الحزب (أي داود أوغلو) إلى اللجنة المركزية. كانت تلك إشارة واضحة للأخير، خصوصاً وأن هذه الصلاحية ممنوحة لرئيس الحزب منذ تأسيسه، كما أنها أعيدت لاحقاً لمنصب رئيس الحزب في 2017 بعد عودة أردوغان للمنصب إثر التعديل الدستوري.

حينها قال داود أوغلو جملته الشهيرة «الرفيق قبل الطريق» منتقداً ما حصل، لكنه وعلى حد قوله فضّل تغيير رئيس الحزب لا رفقاء دربه، فدعا لمؤتمر استثنائي لا يترشح فيه مجدداً. كلمة داود أوغلو في الخامس من أيار/ مايو 2016، التي أعلن فيها عن المؤتمر/الاستقالة تضمنت معاني كثيرة أهمها أن القرار «لم يكن خياريًا، ولكن نتيجة للضرورة التي نشأت»، والحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه، والوفاء للرئيس أردوغان، وسرد مفصل للإنجازات التي قدمها، مشدداً على فكرة أنه لا يخرج من الحزب بسبب الفشل أو اليأس أو عدم الصلاحية حيث «أديت عملي كما يجب، وبشرف» وإنما حفاظاً على وحدة الحزب بقيادة أردوغان. تلك الدقائق الـ 37 التي أخرجت الرجل من قيادة الحزب والحكومة هي نفسها بالضبط التي أبقت له طريقاً للعودة حين تتهيأ الظروف لذلك، حيث حافظ على صورة طيبة له في الحزب والشارع، وهو ما يمكن تسميته «معادلة الوفاء والذكاء».

باختصار، يمكن القول إن «الخوجا» لم يختلف مع «الرئيس» في الأفكار والسياسات والتوجهات العامة، وإنما فقط على مرجعية وآلية اتخاذ القرار في الحزب والحكومة. لكن التوقيت الذي خرج فيه الرجل من المعادلة، والذي توافق مع استدارة السياسة الخارجية لبلاده، أسهم في إشاعة انطباع عام وتصريحات سياسية وتغطيات إعلامية حمّلته مسؤولية السياسة الخارجية لبلاده على مدى السنوات السابقة، مبشرةً بعهد جديد بعده ومن دونه.


المانيفستو

بعد استقالته التي يراها كثيرون إقالة، ابتعد داود أوغلو بشكل ملحوظ عن الحياة السياسية اليومية، لكنه استمر عضواً في البرلمان حتى انتخابات البرلمان في حزيران/يونيو الفائت والتي قال قبلها، إنه يرفض أي موقع أو منصب بعدها بما في ذلك عضوية البرلمان والحكومة. خلال الحملة الانتخابية للاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري الخاص بالنظام الرئاسي في 2017، شارك داود أوغلو في المهرجان الانتخابي للحزب في مدينته قونيا متحدثاً بكلمة عامة لم تتطرق علانية لدعم مشروع النظام الرئاسي، في إشارة ضمنية لعدم رضاه التام عن مواد التعديل.

بعد انتخابات حزيران/ يونيو 2018 وخروجه من البرلمان، ابتعد داود أوغلو أكثر عن الحياة السياسية، وابتعد أكثر من ذلك في مواقفه عن الحزب الذي وضع مسافة أطول وأعقد بينه وبين الرجل. يوم تنصيب أردوغان رئيساً للجمهورية وأدائه اليمين أمام البرلمان، كان داود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان يزوران إحدى البلدات السياحية. خلال تلك الفترة ألغت إحدى الجامعات كلمة لداود أوغلو أمام الطلاب.

والشهر الماضي كتب الإعلامي التركي المعروف هاكان ألبيراق والذي يكتب في صحيفة «قرار» المحسوبة على داود أوغلو بأن نائب الرئيس فؤاد أوكتاي انسحب من المنتدى الاقتصادي العاشر للبوسنة خلال منح داود أوغلو جائزة تقديرية، وأن هيئة الشؤون الدينية في البوسنة اعتذرت من الأخير الذي كانت قد دعته لافتتاح مسجد «ألاجا» التاريخي – والذي كان له في إعادة إعماره جهد كبير- وطلبت منه عدم الحضور لاففتاح المسجد بسبب «انزعاج أنقرة».

في الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل الماضي نشر داود أوغلو على حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي منشوراً مطولاً قدم فيه تقييمه لنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، ولكنه كان شيئاً أعمق وأعقد من ذلك بكثير، حيث قدم التراجع في الانتخابات كنتيجة لعدة أسباب وسياقات سابقة عليها. ورغم أن الرجل تحدث من داخل القلعة كما يقال مستخدماً كلمة «حزبنا»، فإنه قدم نقداً جذرياً وشاملاً وعلنياً للحزب الذي ذكر أنه أمام منعطف تاريخي وفرصة للتصويب والتعديل فيما يشبه التحذير الأخير، مما يصعّب من فكرة «النقد الذاتي» ويجعل الأمر أقرب لإعلان الانفصال أو الابتعاد، ولذلك سمي «المانيفستو».

كتب الرجل بمنطق السياسي وعمق الأكاديمي وذكاء المخضرم، مقدماً نفسه على أنه «الرئيس الثاني للحزب بعد مؤسسه، ورئيس لثلاث من حكوماته المتعاقبة»، وأكد أنه لجأ هذه المرة للنقد العلني بعد أن قدم رأيه للرئيس والجهات المعنية في الحزب سابقاً بشكل سري عدة مرات في إشارة ضمنية إلى أن ذلك لم يلق صدى أو يتم التجاوب معه.

ورغم أنه تجنب أي تهجم أو تجريح بحق الحزب أو الرئيس أردوغان، فإنه قدم نقداً شاملاً للعدالة والتنمية وكأنه يقول بأن الحزب لم يعد ذلك الذي تأسس عام 2002 واستحال إلى حزب آخر. فمما انتقده:

أولاً: القيم التي أسس عليها الحزب، مثل الوفاء للقيادات والكوادر السابقة ذات الأيادي البيضاء، مندداً ببعض الممارسات الإعلامية التي تسعى لشيطنة المختلفين في الرأي.

ثانياً: الخطاب الذي اتجه، مؤخراً، للمبالغات والحدة الشديدة على الخصوم وعمل على دغدغة المشاعر القومية لحصد الأصوات، وذكر تحديداً خطاب «الخطر الوجودي» في الانتخابات البلدية.

ثالثاً: التحالف مع الحركة القومية، مبدئياً بسبب أفكاره وسياساته وعملياً باعتباره أسهم في نتيجة الحزب المتراجعة.

رابعاً: تراجع العقل الجمعي والمؤسسية بشكل ملحوظ في قيادة الحزب وإدارته، عادّاً ذلك ضمن أسباب «فتور حماس» كوادر الحزب في الانتخابات، مخصِّصاً تغيير رؤساء بلديات من الحزب وقيادات فروعه لأسباب اعتبرها «هلامية».

خامساً: تحكم تيار واحد في الحزب وضغطه على التيارات الأخرى بمن فيهم القيادات والمسؤولون المنتخبون.

سادساً: ذكّر أنه كانت له مآخذ على مواد النظام الرئاسي الـ18 التي طرحت في الاستفتاء (وليس بالضرورة على النظام الرئاسي من حيث المبدأ)، داعياً للفصل الحقيقي بين السلطات ومنع بقاء رئيس الجمهورية على رأس حزبه.

سابعاً: عدم شفافية بعض المناقصات المتعلقة بمشاريع معينة وعدم طرحها بوضوح على العامة، مما ينشر انطباعاً بوجود فساد.

ثامناً: العقلية الأمنية الدولتية الدفاعية المرتكزة على ردود الفعل الآنية، وفق تعبيره.

تاسعاً: استعداء الخصوم السياسيين واللغة الحادة تجاههم مما أسهم في رفع حدة الاستقطاب في البلاد. وكان لافتاً أنه اعتبر هذا الاستقطاب أحد أسباب الاعتداء على زعيم المعارضة في جنازة أحد شهداء الجيش التركي، وأنه يهدد الهوية الجامعة للشعب التركي.

عاشراً: تراجع الحريات وخصوصاً الإعلامية والتضييق على أصحاب الآراء المخالفة من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين.

المانيفستو، الذي تضمن انتقادات لأمور أخرى كثيرة، تضمن إشارات أهم من كل ما سبق، مثل الحديث عن الفرصة التاريخية للتصويب، وأنه يكتب من منطلق مسؤوليته الوطنية أمام أنصار الحزب والشعب التركي، وأن هذه الحركة السياسية الضاربة في الجذور – كما يحب أن يصف العدالة والتنمية- مصيرها «ليس مرتبطاً بشخص ولا حزب وتيار ولا حتى جيل من الأجيال».


ما بعد المانيفستو

أحمد داود أوغلو, تركيا, حزب العدالة والتنمية, تركيا

لم تشهد الساحة السياسية التركية رد فعل أو تعقيباً واضحاً لأردوغان والعدالة والتنمية على البيان، حيث أكد الرئيس مرة أخرى عدم إمكانية عودة «من نزلوا من القطار» لركوبه ثانية، بينما اكتفى الناطق باسم الحزب عمر تشيليك في رده على سؤال بهذا الخصوص بالقول:

هناك تصريحات في أماكن عدة، هل هي صحيحة أم خاطئة؟ ينبغي توجيه السؤال لمن وجه لهم الكلام.

ما قصده تشيليك هنا هو سلسلة من التصريحات على لسان داود أوغلو بعد الإعلان، منها انتقاده بوضوح وعلانية قرار اللجنة العليا للانتخابات إعادة انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى، وكذلك تصريحاته في عدة فعاليات خلال شهر رمضان، أهمها إفطار «رجال أعمال قونيا ومصنّعيها» (KONSİAD) في إسطنبول وإفطار «منبر أصدقاء أنقرة» في العاصمة، واللذَيْن كانت رسائله فيهما حادة.

في الإفطار الأول قال الرجل رداً على ما اعتبره رسائل تهديد وتعريض موجهة له من خلال مسلسل «عبدالحميد»: «سيأتي يوم الحساب الذي تفتح فيها الدفاتر، ويظهر من راعى هذا الإرث ومن خانه، ومن ترك الكثير لأجله ومن لهث خلف مصالحه الشخصية». بينما قدم في الثاني إشارات أكثر رمزية مثل: «كل شيء يمكن خسارته ثم إعادة كسبه. يمكن خسارة الحكم والعودة إليه. لكن لا غَدَ لمن يخسر أمله. لا تخشوا من الكلام».

هذه الإفطارات التي ينتظر أن يشارك الرجل في عدد آخر منها في عدة محافظات، اعتبرت أنها عودته للساحة وممارسة السياسة اليومية، بل وإرهاصات تأسيس حزب سياسي جديد ينافس العدالة والتنمية. ومما يدعّم هذا الاتجاه الرسالة الإعلامية الرمزية في حادثة إقناع داود أوغلو شاباً يلبس قميصاً عليه شعار الحزب ويحمل علم تركيا بعدم الانتحار من فوق جسر البوسفور (وهو مشهد تكرر سابقاً مع أردوغان ويلدرم)، وكأن الحدث يقول إن «الخوجا» هو منقذ العدالة والتنمية والبلاد.

هذه العودة لحلبة السياسة لم تلق صدى علنياً بعد لدى دوائر العدالة والتنمية، لكن الصحفي المعروف بالنقل عن كواليس الحزب عبدالقادر سلفي كتب في إحدى مقالاته، مؤخراً، بأن أردوغان تناول الأمر في أحد اجتماعات قيادة الحزب ملمحاً إلى إمكانية فصله منه قريباً.

ثمة أحاديث كثيرة بأن الرجل قد بدأ فعلياً إجراءات تأسيس الحزب وأنه يلتقي بأطراف عدة، وأن زياراته للمحافظات ومشاركته في برامج الإفطار فيها هي نوع من سياسة التعريف بالحزب الجديد – الذي يُفهم أن برنامجه سيبنى على مانيفستو داود أوغلو- والتحشيد له. لكن هل حُسم الأمر نهائياً؟

فكرة تأسيس حزب جديد قائمة منذ فترة لكن موعدها تأجل مراراً في انتظار توقيت مناسب، ولعل نتائج الانتخابات الأخيرة التي شكلت تراجعاً نسبياً ورمزياً للعدالة والتنمية رغم تقدمه الأحزاب الأخرى فيها بفارق كبير كانت التوقيت المناسب لخروج القيادات السابقة عن صمتها. كما أن المناسبات التي يشارك بها داود أوغلو والتصريحات التي يدلي بها توحي بأنه أحرق سفنه مع حزبه أو أنها محترقة سلفاً، مما يعني أن مسار الإعلان عن الحزب الجديد قد وضع على السكة فعلياً إلا أنْ تحدث مفاجأة غير متوقعة. حيث كان وما زال في إمكان أردوغان استمالة بعض القيادات السابقة التي ابتعدت أو أُبعدت عن الحزب، لكنه لم يبد حتى اللحظة إشارة على نيته فعل ذلك.

ورغم كل ما سبق، ينبغي الإشارة لنقاط مهمة في موضوع الحزب الجديد يمكن التفصيل بها لاحقاً في حال أعلن عنه:

الأول، عبر داود أوغلو في انتقاداته عن الكثيرين داخل العدالة والتنمية وخارجه، ولكن حراكه ما زال حتى اللحظة فردياً ولا يمثل تياراً كبيراً، إذ من الصعب الحكم على نسبة وعدد من يؤيدون طرحه وبرنامجه داخل أطر العدالة والتنمية، فهو أمر لا يمكن التنبؤ أو الجزم به إلا بعد تأسيس الحزب وعمله لفترة ربما، رغم وجود تقارير تقول بأن عدداً من قيادات الحزب ونوابه في انتظار تأسيس حزب جديد (بقيادة غل أو باباجان أو داود أوغلو) للانتقال إليه فوراً.

الثاني، ما زالت الأسماء التي تشارك مع الرجل في نشاطه، مؤخراً، من قيادات الصف الثاني المغمورة ومن القيادات السابقة، حيث يبدو أبرزهم رئيسا فرعي العدالة والتنمية في إسطنبول وأنقرة سابقاً سليم تمورجو ومصطفى نديم يامالي وبعض النواب السابقين، بينما لم يظهر معه حتى كتابة هذه السطور أي وزير سابق فضلاً عن القيادات الحالية.

الثالث، ما زال غيرَ محسوم موقفُ القيادات السابقة الأخرى من حراك داودأوغلو وأهمهم الرئيس السابق عبدالله غل ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان، ويبدو حتى اللحظة أنهم لا ينسقون مع بعضهم البعض. صحيح أنهم يجتمعون ربما على نقد واقع العدالة والتنمية اليوم، لكنهم كذلك يشكلون منافسين لبعضهم البعض، ولذلك فقد راج، مؤخراً، أن باباجان سعى للتوسط بين غل وداود أوغلو ليجمع بينهما في مشروع سياسي واحد وهو ما يبدو أنه لم ينجح حتى اللحظة، مما يعني أننا نظرياً إزاء مشاريع لعدة أحزاب محتملة وليس واحداً فقط.

الرابع، إطلاق أي حزب سياسي شيء ونجاحه في إثبات حضوره شيء آخر، والتاريخ السياسي التركي حافل بالانشقاقات أو الخروج من عباءة الحزب الأم لتأسيس حزب جديد والتي تبوء غالبيتها العظمى بالفشل أو تواضع الحضور والأداء. ولعله من الموضوعي القول، إن مهمة أي حزب سينافس العدالة والتنمية بقوته الحالية وقيادة أردوغان المجمع عليها لن تكون سهلة أبداً، فالحديث عن تراجع الحزب يبقى نسبياً وليس مطلقاً مع بقائه رقم واحد في البلاد في البرلمان والبلديات ورئاسة أردوغان للبلاد وبفوارق كبيرة عن المنافسين.

الخامس، قد يكون من المبالغة القول، إن حزباً بقيادة داود أوغلو – إن تأسس- سيسحب البساط من تحت قدمي أردوغان والعدالة والتنمية، لكن أيضاً من غير الموضوعي القول، إنه لن يكون مؤثراً. بل لعل حزباً بهذه المواصفات سيكون التحدي الأبرز الذي يواجهه الحزب منذ انطلاقه عام 2002، باعتبار أنه سيكون قادراً على منافسته أمام جماهيره وأنصاره والسحب من رصيده الانتخابي بسبب الاشتراك أو التشابه معه في الأفكار والمنطلقات والخلفيات بل وربما السياسات والمشاريع فضلاً عن القيادات ذات السير الذاتية الناجحة والأيدي النظيفة والحضور في الشارع.

وفي ظل حالة الاستقطاب الحالية وأهمية كل صوت من الأصوات الانتخابية، سيكون أي خصم من رصيد العدالة والتنمية مهماً ومؤثراً، بل قد تكون مواقف القيادات السابقة للحزب المعارضة لإعادة انتخابات إسطنبول مؤثرة في رأي بعض أنصاره وتصويتهم اليوم، فما بالنا بمدة تربو على أربع سنوات حتى انتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية التي سيعمل في ظلها الحزب الجديد المفترض، وهي فترة كافية للتأسيس والعمل والاستقطاب والتأثير.

في المحصلة، ثمة مؤشرات كثيرة على أن «الخوجا» قد حسم أمره نحو خيار من خارج العدالة والتنمية، وأن قراره سيكون تأسيس حزب جديد، وأن هذا الحزب المفترض سيكون تحدياً غير مسبوق لم يواجهه أردوغان قبلاً، مما يضع العدالة والتنمية أمام مفترق طرق حقيقي، خصوصاً وأن الأخير قد صرح علناً بأن الانتخابات الأخيرة قد حملت رسائل احتجاج من الناخبين سيعمل على أساسها. لكن كل ذلك لا يعني أن الأمور محسومة أو أن التأثير معلوم، فكل ذلك ما زال طي الغيب بانتظار عدة تطورات محتملة، في مقدمتها تعامل أردوغان وقيادة الحزب مع الموضوع وكذلك نتائج انتخابات الإعادة في إسطنبول.

لكن كل ذلك يحيلنا إلى أن الموضوع ما زال مفتوحاً على سيناريوهات عدة، ويؤكد قول الرئيس الأسبق سليمان دميريل، إن «24 ساعة مدة طويلة جداً في السياسة».