في الـ23 من مارس، وبينما كانت السفينة العملاقة «إيفر جين» التي يبلغ طولها 400 متر وتسير بسرعة 40 عقدة بحرية (74 كيلومترًا تقريبًا) في الساعة، جنحت فجأة عن مسارها، واشتبكت بعمق في رمال الضفة ما أدّى إلى انسداد القناة تمامًا عن الملاحة، وهو الأمر الذي انعكس فورًا على حركة التجارة البحرية، بعد ما تكدست ما يزيد على 300 سفينة في طابور طويل، بانتظار حل المشكلة، وهي أرقام مُرشحة للزيادة كلما بقيت المشكلة دون حل.

لماذا هناك أزمة؟

لن يكون من باب المبالغة أن نقول إن قناة السويس هي أهم شريان تجاري في العالم، وأيام التوقف هذه تُعيد إلى الأذهان كابوس غلق القناة الذي سيطر على العالم بأسره خلال الفترة ما بين حربي 1967م و1973م.

يقول محمد موافي في أطروحته «قناة السويس.. والتجارة العالمية»، إن العالم كان يخسر 5 مليارات دولار سنويًّا بسبب إغلاق قناة السويس طيلة فترة الصراع المصري الإسرائيلي، كاشفًا عن أن دولًا أوروبية كانت تخسر سنويًا مئات الملايين من الدولارات بسبب غلق القناة، والذي يترتب عليه اضطرار السُفن العالمية لاستعمال طُرق أخرى باهظة التكلفة، فكانت بريطانيا تخسر سنويًّا 250 مليون دولار سنويًا، وكذا إيطاليا 125 مليونًا وألمانيا الغربية 110 ملايين دولار، علاوة على أن توقف تدفق إمدادات البترول من الخليج إلى أوروبا يُنذر بكارثة اقتصادية سيكون من الصعب تخيل أبعادها.

ولتوضيح ذلك بمثال، فإن رحلة ناقلة البترول من الخليج إلى أوروبا يبغ طولها 6500 ميل إذا عبرت قناة السويس، أما حال إغلاقها واستخدام طُرق بديلة كرأس الرجاء الصالح، فإن الرحلة تتضاعف وتبلغ المسافة 11330 ميلاً.

السفينة الجانحة قناة السويس منشية الرجولة
جدول يوضح حجم الوفر الذيتحققه قناة السويس لخطوط التجارة العالمية

ولهذا يُمكن تفهم حجم الهلع العالمي، إزاء بضعة أيام أغلقت فيها القناة أبوابها، خوفًا من عودة ذلك السيناريو الأسود الذي عطّل كثيرًا من نمو اقتصاديات دول أوروبا، وكان له تأثيره الأسود على العالم بأسره.

أما في مصر، فيكتسب الاهتمام بالقناة أبعادًا تمتزج فيه الروح الوطنية بالمنافع الاقتصادية، فالقناة التي افتتحت في 17 نوفمبر 1869م، بعمقٍ لم يتجاوز 22 قدمًا يجعل المجرى الملاحي يستطيع استيعاب السفن ذات حمولة 5 أطنان فقط، بعد ما بناها الفلاحون المصريون، بالسُخرة، في عهد الخديوِ إسماعيل، اكتسبت أهمية كبرى في نفوس المصريين بسبب التصارع مع الأجانب حول امتلاكها حتى باتت رمزًا للتخلص من النفوذ الأجنبي.

وحاليًا تمثل موردًا اقتصاديًا رئيسيًا لمصر حرصت دومًا على تنميته حتى أصبح عُمق الغاطس 66 ألف قدم عام 2010م، وهو ما يجعلها قادرة على استقبال سُفنٍ بحمولة 240 ألف طن، مع تطلُّع دائم من مسؤولي القناة لتعميق مجراها حتى يكون صالحًا لاستقبال كافة سُفن العالم، وحققت لمصر عائدًا تجاوز 5.6 مليار دولار العام الماضي.

كل هذه الأرقام المفجعة، لم تكن الجانب الأوحد للقصة، وإنما كشفت الأحداث عن جوانب أخرى للأزمة، أكثر إنسانية لا تضع في حساباتها كافة هذه الأرقام الاقتصادية المعقدة.

تايتانيك في بورسعيد

بينما انهمك العالم في التسابق على حل المشكلة وحساب حجم تداعياتها الاقتصادية، باتت القرية المصرية «منشية الرجولة» على كافة الألسنة، فهذه القرية تقعُ على مرمى حجرٍ من شطِّ قناة السويس، حتى أن مواطنيها يستطيعون أن يُراقبوا حركة السفن التي تمرُّ بالقناة، وهم في بيوتهم متواضعة الإنشاء.

فجأة باتت، هذه القرية هي حديث العالم بأسره بعد أن تعطّلت سفينة الشحن العملاقة «إيڤرجيڤن EverGiven»، تحديدًا في مواجهة منطقة منشية الرجولة، ما يكفل لأهلها رؤية استثنائية للحدث الذي قضَّ مضاجع العالم بأسره وتسبّب في خسارة اقتصاد العالم لمليارات الدولارات لا تتوقف عن النزيف حتى لحظة كتابة هذه السطور.

السفينة الجانحة قرية منشية الرجولة قناة السويس
قرية منشية الرجولة

تلك القرية المصرية، لم ينعكس عليها الكثير من تفرُّد موقعها الجغرافي الممتاز، وعاشت أوضاعًا اقتصادية صعبة، انعكس في سوء أحوال أهلها المعيشية بشكلٍ عام، ليكون أشهر ما يُنقل عنهم من أخبار، هو مشاجرات دموية وإهمال دور العبادة وشيوع مشاكل الصرف الصحي، تمتلك مدرسة فقيرة الإنشاء تعرّض بعض تلاميذها للتسمم بسبب فساد الغذاء ذات يوم.

سنوات التهميش تلك ذابت بين ليلة وضحاها، بعد ما أصبح اسم القرية يتردد بكثرة في جميع وسائل الإعلام، بل وباتت مقصدًا للصحفيين من كافة الوكالات والصحف العالمية.

فيفيان في، مديرة مكتب القاهرة في جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية، قامت بزيارة إلى هذه القرية واختلطت بسكانها البالغ عددهم 5 آلاف نسمة، وبعيونهم طالعت ذلك الحدث الذي أزعج العالم بأسره، إلا أنه يبدو أن هذا الإزعاج لم يثر الكثير من القلق عند السكان.

الحياة أكثر من اعتيادية في القرية، الحمير تسير فوق الأراضي المتربة تحمل البرسيم، والحقول الخضراء تصطفُّ على الجانبين، وكذا أشجار النخيل وجبال القمامة وروث الحيوانات. كل شيء كما هو لم يتغير. هذه الأزمة العالمية لم تهز في القرية المصرية العتيقة شعرة واحدة.

«لماذا لا يسحبون إحدى تلك الحاويات» (في إشارة إلى كمية الحاويات الضخمة التي تحملها السفينة العالقة على هرها)، قالتها السيدة المصرية أم جعفر (65 سنة)، في إطار حديثها للصحفية الأمريكية. وأضافت: بالتأكيد سيكون في إحدى هذه الحاويات شيء جيد، يُمكننا أن نتغذى عليه.

تحكي فيفيان، أنها فور دخولها المدينة سألها صبي صغير في إغراء «هل تبحثين عن أفضل مكان تُشاهدين منه السفينة؟»، وخلال تجولها في القرية وإقامتها في فندق قريب، كانت السفينة هي الأمر الوحيد الذي يتحدث عنه الجميع.

كشف أحد سكان القرية،ويُدعى يوسف غريب (19 عامًا)، للصحفية الأمريكية، أن القرية بأكلمها اعتادت أن تُشاهد السفينة، مضيفة «لقد اعتدنا وجودها في الجوار، ومنذ 4 أيام، ونحن نعيش على أسطح منازلنا، فقط لمراقبتها».

كما حكت سيدة أخرى من القرية، تُدعى نادية (رفضت الكشف عن سنها)، للصحفية الأمريكية عن جانب آخر ممتع من الأزمة، وهو عندما يهلُّ الليل تتألق السفينة بأضواءٍ ساطعة تنعكس على القرية، تقول «ما أن يأتي الليل حتى تكون مثل تايتانيك، فقط كل ما ينقص الإثارة هو ظهور القلادة الزرقاء»، كما كشفت عن خوفها من تصوير السفينة خشية أن يكون هذا الفعل غير قانوني.

وفيما يخصًّ تعرض السفينة لسوء أحوالٍ جوية، ورياحٍ شديدة أدّت إلى جنوحها، أوضح مواطن من القرية، ويُدعى أحمد السيد (19 عامًا):

لقد رأينا رياحًا أسوأ بكثير، لكن لم يحدث أبدًا شيءٌ كهذا من قبل.