محتوى مترجم
المصدر
jacobinmag
التاريخ
2021/2/4
الكاتب
مارسيل بوسيل

اشتُهِرَت مارجريت شوتِه-ليهوتزكي «Margarete Schütte-Lihotzky» بأنَّها مُبدِعة أول مطبخ مسبق الصنعFitted-Kitchen» [1]»، صُمّمَ ليختصِرَ الوقتَ المخصص للأعمال المنزلية. غير أنَّ «عمارتها الاجتماعية» ليست سوى جزءٍ من قناعاتها السياسية –التي قادتها للانخراط في المقاومة الشيوعية ضد النازية.

مما لا شك فيه أنَّ «المطبخ الفرانكفورتي» أكثر أعمال مارجريت ريادةً– يمكنك اليوم العثور على مثال له في متحف الفن الحديث في نيويورك. فبأبعاده البالغة 1.9 في 3.4 م، كان أول مطبخٍ مسبق الصنع يتميز بخزائنه الزرقاء والخضراء وتراص أجزائه وسعره المناسب. إذْ صُمِّمَ لاستغلال المساحات الصغيرة في شقق العمال في عشرينيات القرن الماضي، فكان فعالًا في تصميمه بحيث إنَّ زمن الانتقال بين مهمة وأخرى لم يكن يتجاوز الدقيقة الواحدة.

غير أنَّ مارجريت لم تكن راغبة في أنْ تُشتَهَر كمصممة داخلية. إذْ دأبت على القول في سنواتها الأخيرة، حين كان يصفها الناس بأنَّها مصممة المطبخ الفرانكفورتي، «أنا لستُ مطبخًا». في الحقيقة، أعطت المعمارية النمساوية للعالم ما هو أكثر بكثير على مدى سنواتها الـ103 –ويرجع الفضل في ذلك لسياستها الاشتراكية على وجه الخصوص.  حين ولِدَت في 1897م، أيام الإمبراطورية النمساوية المجارية، كان دور المرأة يقتصر على رعاية الأطفال والعمل في المطبخ والذهاب للكنيسة «kinder, küche, kirche». بيد أنَّ حياة مارجريت اتخذت مسارًا مختلفًا– من الأفضل تلخيصه بثلاثية المهنة والمطبخ والشيوعية «career, kitchen, and communism».

تجربة تكوينية

رأت مارجريت النور أول مرة في 23 يناير/كانون الثاني 1897م وشبَّت في فيينا، منحدرةً من عائلة بورجوازية: كان أبوها موظفًا حكوميًا كبيرًا، أما والدتها فكانت على معرفة شخصية ببيرثا فون سوتنير «Bertha von Suttner» الحائزة على جائزة نوبل للسلام، كما أنَّها كانت على قرابة بمؤرخ الفن الشهير فيلهلم فون بودِه «Wilhelm von Bode». أتاحت لها خلفيتها هذه دراسة الفنون التطبيقية في جامعة فيينا خلال الحرب العالمية الأولى– كانت جامعة فيينا في آنذاك من الجامعات القلائل التي تقبل النساء على مقاعدها.

كان أستاذها في فيينا المهندس المعماري أوسكار شتِرناد «Oscar Strnad». ولما أعربت له عن رغبتها في المشاركة في مسابقة تصميم لشقق العمال، نصحها الأستاذ بزيارة الأحياء العمالية لتتمكن من الوقوف فعليًا على الظروف الحياتية لهؤلاء. في الواقع، كانت فيينا في مطلع القرن مكانًا شديد التمييز. ففي المباني المهيبة لوسط المدينة يقطن ممثلو مملكة آل هابسبورغ والطبقة الوسطى الميسورة، بينما في الأحياء المحيطة بالمدينة من الخارج كانت تقطن البروليتاريا الصناعية المهاجرة في مساكن مظلمة وضيقة.

أسهمت هذه التجربة على نحوٍ خاص في تكوين شخصيتها. فها هي تكتب في مذكراتها «لم أكن في حينها على علمٍ بمقولة هاينريش تزيلِه «Heinrich Zille» الرائعة (بوسعك قتل امرٍئ بشقةٍ مثلما تقتله بفأس)، لكنني أحسست بها». تتابع في القول «لامست فعليًا أنَّ في فيينا عالمًا أجهله يقع إلى جانب عالمي، عالم مثقفي الطبقة الوسطى وحياة النخب التي ترى نفسها فوق الطبقات الأخرى، هكذا كنت أجهل وجود طبقة اجتماعية تتألف من مئات آلاف الأشخاص الذين يعيشون حياةً بائسة. رغم أنّني لم أكن أعي بعدُ سبب بؤسهم، فإنّني قررت العمل في مهنة تساعد على تخفيف حالتهم هذه. فقرَّ قراري على أنْ أكون مهندسةً معمارية».

وبالفعل، كان أول عملٍ مهني لها عقب تخرجها عام 1919م موجهًا للفئات الأفقر في المجتمع. في ذاك الوقت، أفضت انتفاضات العمال وثوراتهم، نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية. وعانت فيينا، آنذاك، من الجوع ونقصٍ في المساكن. فاحتلت أعداد غفيرة من العمال الأراضي الحراجية (الأراضي المُحيطة بالغابات) حول المدينة وشيدوا عليها عششًا سكنية. وقد ذكرَت لاحقًا «هكذا، وبفعل الحاجة قاموا ببناء مساكنَ غير عملية دون الحصول على ترخيص». حصلت المعمارية الشابة على وظيفة في لجنة الإسكان في المدينة واشتغلت على دعم الحركة من خلال نشاطها. فطوَّرت نماذجَ أولية لمنازلَ سهلة البناء، وصممت أول المطابخ، وقدمت النصائح «للقاطنين» حول المواضيع التي تشغل بالهم.

لم يسبقها إلى ذلك أحد: إذْ اشتغل أغلب المعماريين في ظل مملكة آل هابسبورغ لصالح النخبة، حيث صمموا منازل للطبقات العليا بواجهات مزخرفة وفخمة. لكن بدلًا من ذلك دافعت مارجريت عن «العمارة الاجتماعية»، حيث سعت إلى تحسين الظروف المعيشية للطبقة العاملة. ولتوجِزَ المبادئ الناظمة لعملها– مقاربة موجهة وظيفيًا للعمارة– شدَّدت على أنَّ العامل العادي «يستفيد من حوض مطبخه أكثر من استفادته من تمثال ملاك يزيِّن قبة منزله».

على أي حال، لم تقتصر هذه الرؤية على مارجريت وحدها. إذْ شرعَ عددٌ من المهندسين المعماريين والفنانين، مستلهمين التمردات والثورات في نهاية الحرب، بالنظر في احتياجات الناس العاديين. ففي موسكو، صمم ممثلو الطليعية الروسية ملصقاتٍ وواجهات محال، ورسموا جداريات على قطارات الثورة «agit-trains» (قطاراتٌ تجوب جميع أنحاء البلد ناشرةً رسالة الثورة)، وصمموا نوادي العمال. في الوقت عينه، كان في برلين– كانت هي نفسها مركزًا للثورات– مجلسٌ عمالي للفن، صمم أعضاؤه مباني عامة ضخمة ونظموا معارض للمعماريين الهواة، وطوَّروا أفكارًا عدة نفَّذها الباوهاوس[2] لاحقًا على أرض الواقع.

لكن مارجريت كانت متأثرة بالتطورات في مدينتها الأم، فيينا. ففي عاصمة الدولة المؤسسة حديثًا، باشرت حكومتها الاشتراكية بتطبيق برنامج إصلاحٍ راديكالي، فأنشأت دور الحضانة ورياض الأطفال ووفرت الرعاية الصحية المجانية. لكن أشد ما يلفت الانتباه في «فيينا الحمراء» خلال عشرينيات القرن الماضي هو مشاريعها السكنية المكثفة. فسرعان ما طفقت حكومة المدينة على بناء مجمعات كبيرة من الشقق بدلًا من منازل فردية صغيرة. ومع مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، كانت المدينة قد شيدت 64 ألف شقة، ما وفَّر مسكنًا لقرابة 200 ألف شخص. هنا، أسهمت مارجريت في تخطيط مجمع سكني من أصل 400 مجمع. وجرى تمويل هذه «الاشتراكية الكوميونية» بفضل آليات إعادة توزيع حازمة، شملت مثلًا فرضَ ضرائب على خدم المنازل والسلع الترفية والمساكن الفاخرة.

في الوقت نفسه، شرعت المدن الألمانية الواقعة على الحدود في بناء مساكن اجتماعية عبر مشاريع مثل مشروع هورسِشو إستايت «Horseshoe Estate» في برلين– استغرق بناؤه السنوات من 1925 وحتى 1933– ومشروع «فرانكفورت الجديدة». وفي منتصف العشرينيات، بدأ إرنست ماي، مدير التخطيط في مشروع فرانكفورت الجديدة، إلى جانب فريقه في وضع معيارٍ جمالي جديد. فلم يكتفوا ببناء آلاف الشقق، بل صمموا شعار النبالة ولافتات ضوئية ومواقف انتظار الترام. فيما واحد من أكثر أعمالهم ديمومة هو خط فوتورا «Futura» واسع الانتشار اليوم، والذي صممته شركة محلية لصالح المشروع.

يرتبط هذا المشروع بمارجريت على نحو مباشر. إذْ أقنعها ماي، حين تقابلا خلال إحدى زياراته إلى فيينا، بالانضمام إليه والعمل معه. وفي أوائل عام 1926، بدأت المعمارية ذات الـ29 ربيعًا العملَ في قسم المقايسة التابع لإدارة البناء في فرانكفورت، حيث كرّست وقتها لبناء الشقق وترشيد الأعمال المنزلية. وألقت العديد من المحاضرات، وأعدَّت تصاميم المباني السكنية وطوَّرت تصميمها المشهور للمطبخ، والذي جرى تركيبه في أكثر من عشرة آلاف شقة جديدة.

مجددًا، كان هدف مارجريت هنا تحسين حياة الطبقة العاملة، بجعل الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر أسهل: فكما كتبت لاحقًا «كنت مقتنعةً بأنَّ الاستقلال الاقتصادي للمرأة وتحقيقها لذاتها سيصبان في الصالح العام، وعليه كان ترشيد العمل المنزلي أمرًا لازمًا». بطبيعة الحال، تأثرت بالتايلورية[3] إلى حدٍ بعيد: كان المقصود من المطبخ الفرانكفورتي أنْ يكون عمليًا مثلما هو الحال مع مكان العمل في الصناعة الحديثة. وقد استلهم التصميم مطابخَ عربات القطار، حيث تكون العناصر الأهم في متناول اليد، إلى جانب وجود عدة أجهزة هدفها المساعدة على تقصير عملية العمل. وقد طُليَت الأسطح باللونين الأزرق والأخضر لزعم العلماء أنَّ هذه الألوان تطرد الذباب. وبغية تخفيض الكلفة، جرى تصميم المطبخ الفرانكفورتي كنظامٍ معياري بحيث يمكن إنتاجه بكميات ضخمة. وبالنظر لكونه يُركّب على حائط الشقة الجديدة مباشرةً، فخزائنه لم تكن بحاجة إلى ظهرٍ خشبي، ما أسهم في توفير هذا الخشب.

سرعان ما جعل هذا المطبخ من مارجريت امرأةً مشهورة، وحظيت قصتها بتغطية مكثفة من الصحافة العالمية. وكتبت لاحقًا «توافق هذا مع الأفكار البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في زمن كانت تعمل فيه المرأة أساسًا في مطبخ المنزل، إذْ مَن غير مهندسةٍ معمارية سيعرف على أفضل وجه ما الضروري في المطبخ». لكنها أضافت شيئًا لم يكن صحيحًا تمامًا: «لقد كان ذلك بمثابة دعاية جيدة في حينها، لكن لأكون صريحة، فقبل إنشاء المطبخ الفرانكفورتي، لم أرعَ منزلًا ولم أطهُ، بل ولم أمتلك أي خبرة فيما يتصل بالمطبخ».

بعيدًا عن المطبخ، قريبًا من خطوط النار

بيد أنَّ فترة مارجريت في فرانكفورت لم تقتصر على النجاح المهني– بل بدأت أيضًا بالتحول نحو الراديكالية في السياسة. فقد كانت «متأثرة بمنجزات الاشتراكية الديمقراطية في فيينا في مجال الإسكان والصحة والتعليم والثقافة»، وسرعان ما التحقت بالحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي. وقد شجعها على ذلك الاقتصادي النمساوي البارز أوتو نيوراث «Otto Neurath»، أحد المشاركين في جمهورية ميونيخ السوفييتية التي لم تعمر طويلًا، لكنه عاد إلى فيينا بعد قمعها. قابلت مارجريت نيوراث حين كانت تعمل في لجنة الإسكان في فيينا، ونشأت بينهما صداقة طويلة.

لاحقًا في فرانكفورت، افتقدت المعمارية النمساوية الثقافة السياسية الراديكالية لمدينتها الأم. فقارنت الوضع في فيينا مع ما شاهدته في ألمانيا، فكتبت عن ذلك «أنا مصدومة ومرتعبة من هذا التنميط السياسي لزملائي– الموظفين العاديين وكبار البيروقراطيين على السواء». ولم يكن الاشتراكيون الديمقراطيون في فرانكفورت بأفضل حال من زملائها، وقد تهربت من محاولات الحزب لتجنيدها. ومما يعنيه هذا الأمر أيضًا أنَّ فرص الالتقاء وتبادل الأفكار مع الأشخاص ذوي التفكير المماثل صارت قليلة جدًا. مع ذلك كان هناك استثناء واحد هو فيلهلم شوتِه، زميلها في فرانكفورت وزوجها لاحقًا، إذْ تزوجا في عام 1927م.

مع ذلك، وجدت مارجريت منفذًا آخر للنشاط السياسي في إطار ما يُعرَف بمدرسة فرانكفورت– معهد الأبحاث الاجتماعية. حيث عرَّفها نيوراث بمديره، «العجوز الماركسي الموقر» كارل جرونبيرج، المنحدر من فيينا أيضًا. تأثر بجرونبيرج العديد من الماركسيين النمساويين، منهم ماكس آدلر وأوتو باور وكارل رينير؛ ذكرت في وقتٍ لاحق: «خلال سنواتي الخمس في فرانكفورت قضيت كثيرًا من الساعات الجميلة» في منزله.

شكَّل هذا تحولًا حقيقيًا في الالتزام السياسي عند مارجريت: فقد اعترفت في مذكراتها أنَّها قبل الانخراط في المعهد، كانت معارفها بالنظرية الماركسية مقصورةً على البيان الشيوعي وبعض كتابات فريدرِك إنجلس، لكنها اليوم شرعت تناقش السياسة بشكلٍ مكثف مع جرونبيرج. كان جرونبيرج آنذاك على صلة وثيقة بالاتحاد السوفييتي، وكتبَت لاحقًا أنَّه هو «مَن فتح عينيها على حقيقة الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي، وأثبت لها أنَّهم لن يقودوا البلاد إلى الاشتراكية».

عزَّزت الأحداث الجارية في فيينا هذا التغيّر في الهوى. فهناك، جرى تبرئة ثلاث جماعات يمينية متطرفة شبه عسكرية، في العام 1927م، من تهم القتل ما أشعل شرارة إضرابٍ عام وأعمال شغب انتهت بإحراق قصر العدل. بيد أنَّ الاشتراكيين الديمقراطيين أحجموا عن دعم هذه الحركة الاحتجاجية الناشئة –وهو موقف أغضب الكثير من اليساريين، بمن فيهم مارجريت. فدفعتها هذه الأحداث لتكتب إلى الحزب ما أسمته لاحقًا «خطاب استقالة مؤثر». وتحت تأثير المعهد، أخذَت بالتحول إلى الشيوعية.

اعتناق الشيوعية

وبالفعل، حين ضرب الكساد العظيم مشروع فرانكفورت الجديدة، أشرقت «الأنوار من الشرق» مخترقة نوافذ مارجريت. فبينما لم يعد مجلس المدينة قادرًا على تمويل المشروع في ألمانيا، تلقى مديره، إرنست ماي، عرضًا للذهاب إلى الاتحاد السوفييتي وتخطيط مدنٍ جديدة كجزءٍ من الخطة الخمسية الأولى. فأقلعت طائرته باتجاه موسكو في أكتوبر/تشرين الأول يرافقه مجموعة من المهندسيين المعماريين الناطقين بالألمانية.

ضمت هذه المجموعة مارجريت وزوجها. وعملا معًا على بناء المدينة الصناعية ماجنيتوجورسك «Magnitogorsk» على حافة جبال الأورال، من ضمن مشاريع أخرى. لكن سرعان ما غادر العديد من الخبراء الأجانب الاتحاد السوفييتي، بينما ظل الزوجان للتمتع بالمساعدة في بناء الاشتراكية السوفييتية. فبقيا هناك حتى عام 1937م، مع بداية الإرهاب الكبير والمحاكمات الصورية. وتشير بعض الأبحاث الجديدة إلى أنَّ فيلهلم شوتِه نفسه كان مستهدفًا من النظام، مما دفعهما إلى خيار الرحيل. لكن هجر الاتحاد السوفييتي لا يعني هجر الشيوعية. فبعد عملهما في لندن وباريس، حطَّ الزوجان في إسطنبول، حيث شغل كِلاهما منصبًا في أكاديمية الفنون الجميلة بمعونة صديقيهما برونو تاوت «Bruno Taut». وفي تركيا، انضم الزوجان أخيرًا إلى الحزب الشيوعي النمساوي «KPÖ».

بقيت تركيا بمنأى عن الصراع الأوروبي، حتى مع سعي النازيين لبسط سلطانهم على القارة. غير أنَّه في عام 1940م قررت مارجريت ترك هذا المكان الآمن نسبيًا والانخراط في صفوف المقاومة ضد الفاشية في بلدها الأم. فارتحلت عائدةً إلى فيينا لتلتحق بإحدى مجموعات المقاومة. لكن لسوء الحظ، فقد جرى كشف هذه المجموعة واعتُقِلَت مارجريت، ونجت بصعوبة من حكم الإعدام. وقضت معظم سنوات الحرب مسجونة في فيينا وبافاريا إلى أن حرَّرها الجنود الأمريكان في أبريل/نيسان 1945.

لكن مع الحرية الجديدة أتت تحديات جديدة. ففي فترة الحرب الباردة في فيينا، كانت مارجريت منبوذة وبالكاد تلقت عقود عمل. فيما اختفت شبكة علاقاتها المهنية التي كانت موجودة قبل الحرب، كما جرى تهميشها كامرأة ومقاوِمَة وشيوعية. كتبت لاحقًا: «كنتُ لسنوات شخصًا غير مرغوبٍ فيه، فمُنِعتُ عمليًا من العمل في العقود العامة لأنَّني عضوة في الحزب الشيوعي». وهو ما دفعها إلى السفر بكثرة حول العالم؛ ففي 1958م ذهبت في رحلة تعليمية مطوَّلة جابت فيها الصين تحت حكم ماو، وعلى مدار العقود التالية عَمِلَت في كوبا وألمانيا الشرقية.

ذكريات المقاومة

خلال حياة مارجريت، ظل شيئان على حالهما ولم يتغيرا– التزامها المهني كمهندسة معمارية والتزامها السياسي العميق. هذه هي مارجريت ليهوتزكي، مناهضة للفاشية وناشطة نسائية وعضوة في الحزب الشيوعي لأكثر من 60 عامًا ورئيسة اتحاد النساء الديمقراطيات.

ولم تحظَ المعمارية النمساوية إلا مع قرب انتهاء الحرب الباردة، ببعض التقدير في بلدها الأم، وهو ما حُرِمت منه لفترةٍ طويلة. فلقرابة ثلاثة عقود، تجاهل الإعلام والسياسيون المهندسة المعمارية صاحبة الشهرة العالمية. أخيرًا، وبعد أن بلغت من العمر ثمانين سنة، بدأت تظهر بعض التقارير عنها. فحصلت على بضع شهادات دكتوراه فخرية ونالت العديد من الجوائز، منها «وسام الشرف الكبير» لما قدمته من خدمات لجمهورية النمسا.

مع تقدمها في السن، بقيت على قناعاتها السياسية، ونشرت في عام 1985 كتابها ذكريات من المقاومة. وفي عمر المائة، رفعت هي وأربع ناجين آخرين من الحقبة النازية دعوى ضد السياسي اليميني المتطرف يورج هايدر «Jörg Haider» لتقليله من فظائع معسكرات الاعتقال النازية. ولكونها إحدى ضحايا الاضطهاد النازي، فقد أزعجها بشدة صعود حزب الحرية بزعامة هايدر. لكنها لن ترى اليمين المتطرف في تشكيلة الحكومة الفيدرالية– لأنَّ المنية وافتها يوم 18 يناير/كانون الثاني 2000، قبل أسبوعين فقط من تولي وزراء حزب الحرية مناصبهم.

كتبت مارجريت واصفةً حياتها: «بالنسبة لي، كان من المهم على الدوام، سواء في إطار وظيفتي أو خارجها، أن أسهم بأقصى ما لدي في خلقِ عالمٍ أفضل من ذاك الذي ولدت فيه». وتاريخها الممتد على ما يقرب من 103 سنوات لهو خير شاهدٍ على هذه القناعة.

المراجع
  1. قريب إلى المطبخ الأوروبي
  2.  مدرسة فنية ألمانية اعتنت باستغلال الفنون الجميلة بكافة أنواعها في المعمار
  3. مذهب في الإدارة نظَّر له فريدرِك تايلور «أبو الإدارة العلمية»، يتمحور حول دراسات الحركة والزمن لتقليلهما إلى الحد الأدنى