أن تقرأ قصيدة لشاعر ما، فتخلل وجدانك، وتشعر بأنها تعبر عن شيء خفي بداخلك، لهو الهدف الأسمى الذي يتمنى أكبر شاعر الوصول إليه؛ لكن أن تكون تلك القصيدة مُستلهمة عن شخص آخر لا يقل بؤسًا عنك، أو على أقل تقدير يعاني ما تعانيه، ويحمل قدرًا مشابهًا لهمومك، فهو أمر جدير بالرصد والتوثيق؛ من ناحية تُعد تخليدًا للقصيدة التي أبدع شاعرها في نظمها، ومن جانب آخر تُعرفنا بتلك الشخصية التي كانت سببًا في تأثر الشاعر بها ودخلت التاريخ من حيث لا تدري.

كتابة قصائد لتخليد شخصيات شهيرة، أمر ليس جديدًا على شعرنا العربي الزاخر بقصائد تمتدح أو تذم الحكام والمشاهير على مر العصور؛ لكن المختلف والجدير بالتحري بالرصد هو القصائد التي خلّدت شخصيات هامشية عانت بسبب الفقر والاضطهاد، وكتبها شعراء لم يسلموا من كلا المُرّينِ!

رحلة «حراجي القط» للسد العالي: فضحتني يا عبد الرحمن!

في الليل يا حراجي بتهف عليّ ما أعرف كيف
هففان القهوة  على صاحب الكيف
وبامد إيديا في الظلمة ألقاك جنبي
طب والنبي صُح ومش باكدب يا حراجي
وباحس معاك إن الدنيا لذيذة

في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كان الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، يحاول استعادة تدوين «جوابات حرجي القط»، التي أحرقتها الشرطة خلال فترة سجنه، فعاد إلى مدينة السويس، التي تشهد غارات جوية في أعقاب نكسة يونيو، وما أعقبها من حرب الاستنزاف.

جلس الخال تحت شجرة التفاح، وإلى جواره «برّاد شاي»، وأخذ يسترجع جلساته مع حراجي الحقيقي، الساكن في جبلاية الفار، والذي يعمل حارسًا لحدائق المشمش.

حاول «إضاءات» الاتصال بمُلهِم ديوان الأبنودي، فعلمنا أنه وافته المنيّة في أواخر ديسمبر من عام 2018، فهاتفنا السيد محمود حسن الجبالي، ابن أخت زوجة «القط»، الذي قال إن اسمه الحقيقي دردير مصطفى عويضة، وحراجي القط هو اسم الشهرة.

وأشار الجبالي إلى أن «دردير/حراجي» كان بمثابة قاموس متنقل، فكان يحفظ العديد من القصص والسيَر الشعبية، وكانت تجمعه بالأبنودي علاقة جيرة منذ أن كانا معًا في أبنود بالصعيد، حتى التقيا بالسويس بعد ذلك، عندما عاد الشاعر لاستعادة تدوين ديوانه بقرية جبلاية الفار، التي جعلها مكانًا للأحداث.

ويضيف: «حراجي لم يذهب للعمل بالسد العالي؛ لكن الأبنودي بخبرته كشاعر، أخذ من طريقة القط في السرد، وجعلها مُلهمة لأشعاره، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستلهم فيه أعماله من أناس حقيقيين، فشخصيات أحمد سماعين، ويامنة، وإبراهيم أبو العيون، والست أم علي أبو عباس، لهم أصل في حياته سواء في السويس أو بالصعيد».

ما قاله الجبالي، يؤكد قول الأبنودي في آخر حوار أجراه مع جريدة «الأهرام»، قائلًا: «حراجي شخصية حقيقية. صحيح هو لم يذهب للسد العالي كما يقول الديوان؛ ولكنه شخصية حقيقية من بلدي أبنود.. كان طفلًا معنا، ولكنه كان متميزًا جدًا.. فقد كان طويلًا وعريضًا، وكنا نلعب ألعابًا قاسية، مثل (ضربونا يا أبونا، والسبع طوبات)، وكان هو أقوى طفل فينا جسديًا، ربما توجد في جسدي آثار من ضربه، لأننا كنا نفتل حبال اللوف ونعمل بها أداة اسمها “شلاطة”، وأتذكر حراجي جيدًا، بسبب تكوينه الجسدي».

وأشار الأبنودي إلى أن حراجي القط/درير مصطفى عويضة، عندما قابله بعد شهرة الديوان الذي يحمل اسمه، قال له: «فضحتني يا عبد الرحمن».

إسماعيل خلوصي: ضحية كلب الست

تعمل إيه الست؟
جابت فوكس رومي وله ودان
فوكس ده عبقال أملتك
عندة دستة خدامين
يعني مش موجود في عيلتك
شخص زيه يا إسماعين
وإسماعين ده يبقى واحد
من الجماعة التعبانين

شاب من ورّاق العرب، إحدى المناطق الفقيرة بالقاهرة، يدرس في معهد التربية الرياضية. في أحد الأيام من ستينيات القرن الماضي، نظّم رحلة بمشاركة كلية الفنون، وتوجه طلابهما، من بينهم خلوصي، إلى حي الزمالك، الذي يقطن به عِلية القوم منذ نشأته حتى الآن.

وخلال مرور خلوصي ورفاقه في حي الأغنياء، كانوا بالقرب من فيلا المطربة الأشهر في تاريخ مصر، السيدة أم كلثوم، التي خرج كلبها الخاص مُجتازًا أسوار فيلتها، ليهاجم ذلك الشاب، مقطّعًا ثبابه الرثة، بعد أن منحه عضّةَ صارت حديث الصحف آنذاك، ليأخذه رفاقه إلى أقرب قسم شرطة محررين محضرًا ضد كوكب الشرق، وبدوره انتقل المحضر إلى النيابة، التي حفظت التحقيقات كأن شيئًا لم يكن.

حينها، لم تخلُ صحيفة تقريبًا إلا ونشرت خبرًا عن الواقعة؛ لكن جريدة «الجمهورية» أخذت نهجًا مغايرًا تمامًا عن السائد، أو ربما إسماعيل نفسه هو من كان يريد للأمور أن تسير بهذا الشكل، حيث أجرت حوارًا معه، قال فيها نصًا: «أنا سعيد جدًا كون كلب أم كلثوم عضّني».

قصة كهذه، خاصة جانبها السياسي، لم يمر مرور الكرام عند شاعر مثل أحمد فؤاد نجم، الذي كان معروفًا وقتها بمشاكساته للجميع بداية من الرئيس جمال عبد الناصر، انتهاء بالمثقفين والفنانين، فانفعل كاتبًا واحدة من أشهر قصائده اللاذعة، عنوانها «كلب الست»، هاجم خلالها أم كلثوم بشدة، مُبطنًا أبياتها بانتقادات حادة لحالة العنصرية التي اعتبر أن إسماعيل خلوصي قوبل بها في قضيته التي لم يُبَتّ فيها من الأساس.

ويقول نجم عن كواليس كتابته لهذه القصيدة: «كنت في حيرة من أمري، بين حبي لأم كلثوم، وبين شرفي، فانحزت للأخير، بعدما استفزتني حيثيات وكيل النيابة الذي أنهى التحقيق، بنص غريب قال فيه: حيث إن الخدمات التي أدّتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية، أمرنا بحفظ التحقيق».

ويضيف نجم: «على الفور بحثت عن إسماعيل خلوصي، وعرفت أنه من أسرة فقيرة، يمتلكون جاموسة، تُدر لبنًا يعيش منه الييت كله، وكتبت القصيدة».

يوسف حلمي: موت مين ده يخبّيك منا؟!

الأستاذ يوسف حلمي
أهلا عمي..
لا مش في البيت، أنا باتكلم م الشارع
حلوة، على رأيك، ما هو بيتنا الشارع
كنت في سهرة و راجع
قلت أتكلم، وأهو من حظي لقيتك
مع إن تصور؟
وأنا بأنقل أرقام تليفون من نوتة لنوتة
جيت عندك، قام شيء ملعون قال: لأ، ما خلاص
ومشيت سطرين والتالت
قلت: لا يمكن يوسف حلمي خلاص

لم يحظَ الشاعر صلاح جاهين بالنجومية الحقيقية، إلا في عام 1955، حين أصدر ديوانه «كلمة سلام»، بعد ثلاثة أعوام فقط من قيام ثورة يوليو 1952، التي كان أحد داعميها شعرًا؛ لكن البداية الحقيقية سبقت ذلك التاريخ بتسعة أعوام تقريبًا.

في كتابه «موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين»، يقول خليل أحمد خليل، إن شخصية صلاح جاهين الثورية «وُلدت في تظاهرات 1946، المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر، فشارك فيها بمبادئ الحزب الوطني، ومختلف التيارات الثورية اليسارية والتقدمية والتحررية»، لكن هناك شخصية فريدة تركت أثرها في تكوين جاهين ثقافيًا وإنسانيًا، يشير إليها الكاتب بوضوح، بقوله، إن جاهين «كوّن لنفسه رؤية إنسانية، متأثرًا بيوسف حلمي، رئيس جماعة أنصار السلام، لدرجة أنه لم يصدق موته».

عدم تصديق جاهين لموت أستاذه يوسف حلمي، لم تكن جملة عارضة في موسوعة خليل أحمد خليل، إذ وثّق الشاعر الكبير تلك اللحظة بقصيدة خالدة ومخلّدة لعرّابه، بعنوان «كلام إلى يوسف حلمي»، والتي يعتبرها شعراء الحداثة «رائدة في مجال قصيدة النثر»، وفق تأكيد الناقد والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف لـ«إضاءات».

علاقة المحامي يوسف حلمي بالوسط الثقافي المصري، نالت نصيبها من الشهرة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، إذ أسس مجلة «الكاتب»، التي احتوت صلاح جاهين في بداياته، وبها نشرت أول رسوماته الكاريكاتيرية، حسبما أشار الناقد شعبان يوسف.

إلى جانب مجلة «الكاتب»، أسس يوسف حلمي عدة نشاطات ثقافية، ستترك أثرها على كل تلاميذه، وتتركه وحده في طي النسيان، أو «سيأخذ نجمه في الأفول في مقابل سطوع وألَق تلاميذه» وفق تعبير شعبان يوسف. من هذه النشاطات جمعية «سيد درويش» لجمع تراث فنان الشعب، وجمعية «أنصار السلام»، التي ضمت أسماءً لامعة في الوسط الفني والثقافي المصري، مثل: يوسف شاهين، وجميل راتب، ويوسف إدريس، وصلاح جاهين، وكامل الشناوي.

قُدر لاسم يوسف حلمي أن يُخلّد بالمدح على يد أحد أبنائه أيضًا، وهو كامل الشناوي في كتابه «زعماء وفنانون وأدباء»، الذي لولاه ما عرفنا كواليس مشهد النهاية لعرّاب الأدباء الخفي، بقوله: « كان يوسف في تلك الأيام يعاني أزمة مالية، ولكن أزمته لم تستطع أن تهزم ما قيَّدَ به نفسه من مبادئ. وقد تزوَّجَ يوسف، ولكنه لم يُنجِب أولادًا، وكان يقدِّس حياته الزوجية، وكانت زوجته ترى فيه فتى أحلامها، وحبها، وأملها، وقد شاركته في جميع أزماته، وما أكثرها. وذات يوم كان يوسف يزور بعض أصدقائه في الريف، وأُصِيب بنوبةٍ قلبية، وأتى به أصدقاؤه إلى بيته في القاهرة محمولًا على أيديهم، ولم تكد زوجته تراه على هذه الصورة، حتى أصابها إغماء لم تُفِق منه؛ فقد ماتت».

وتحمَّلَ يوسف حلمي الصدمةَ بلَوعة، وظلَّ إلى آخِر لحظة من حياته يبكي شريكة الحياة التي ماتت هلعًا عليه، حتى توفي في يناير سنة 1964، ولم يترك سوى كتاب نادر في القانون عنوانه «جرائم ومرافعات»، واسمَه الخالد في قصيدة جاهين.

عبد الحميد شتا: امضغ لبانة يا ابن الفقراء!

في الثالث عشر من يوليو لعام 2003، سمع المصريون خبرًا أفجعهم، يُفيد بانتحار شاب يُدعى عبد الحيمد شتا، مُلقيًا نفسه في مياه نهر النيل.

بالبحث وقتها عن تفاصيل الحادث، تبين أن شتا كان شابًا متفوقًا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حلم بالعمل في وزارة الخارجية، فتقدم لامتحاناتها، وانتظر حتى ظهور النتيجة، وهنا جاءته الصدمة: «الشاب المتقدم غير لائق اجتماعيًا».

الفقر الذي عانى منه شتا طفلًا، لازمه شابًا يافعًا، فقتل لديه أي طموح في تغيير واقع أسرته البائسة القاطنة في قرية ميت الفرماوي بمحافظة الدقهلية، تلك القصة المُفجعة استفزت الشاعر المصري محمود رضوان، فنظم قصيدة عنوانها يُخلد اسم الشاب البائس، والتي استخدم فيها الكوميديا السوداء للتعبير عن واقع مظلم وقتها ــ بحسب وصفه.

وبالرغم من تغليف رضوان لقصيدته بطابع كوميدي ساخر، فإنه اختتمها بالحقيقة الغارقة في السوداوية، قائلًا:

إوعَاك يا خايب تنتحر
وبأي داعي
دوس على الأفاعي
قصدي دوس على الفلاحين
واكتب أوام في أجندتك:
هتقضي الـ«ويك إند فين؟»
اندغ لبانة با عبد الحميد
اشرب كاسين
أنا باعتذر نيابة عنك للجميع
ما أنا برضه بضحك على الغلابة بكلمتين

ويقول رضوان: «ليست المرة الأولى لي التي أستلهم من الأشخاص الحقيقين حكايات قصائدي، فقد فعلتها مسبقًا في قصيدة (عم مينا) التي غنتها فرقة “وسط البلد”، و(ورق جرايد) التي استلهمتها من حكاية الشاب خالد سعيد، الذي اعتًبر مفجرًا لثورة يناير 2011».

ويضيف رضوان في حديثه لـ«إضاءات»: «الشعر حاضر دائمًا في تجسيد الشخصيات الهامشية، وأحيانًا يصنع منها أيقونات عالمية، كما في قصيدة الخواجة لامبو للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، التي تعد قصيدة عالمية بكل المقاييس».

ويستطرد: «رأيت أن عبد الحميد شتا، عبقري من النوع الحسّاس، ومن ثم رسمت شخصيته في القصيدة على هذه الصورة، وتخيلت مثلًا أنني التقيته قبل الانتحار بدقائق معدودة، أطلب منه ألا ينتحر ويفعل كما يفعل كثيرون، بأن يعيش مدعيًا ومنافقًا أصلح له من ترك الحياة بهذه الصورة المُفجعة».