في 31 من أغسطس/آب منذ 147 عامًا شهد العالم ولادة طفلة جديدة في مدينة إيطالية قريبة من أنكونا، حيث كان الأب والأم يحتفلان باستقبال طفلتهما المليئة بالحياة، فقررا إعطاءها اسم (ماريا)، ذلك الاسم الذي سيخدله التاريخ، ماريا ألسندرو مونتسوري Maria Alessandro Montessori


أحلام

كانت الفترة التي نشأت فيها ماريا في إيطاليا معروف فيها مصير الإناث في العمل، هناك خياران للمرأة لا ثالث لهما: إما أن تصبح معلمة أو راهبة، وكانت المدارس آنذاك تقوم على تسلط المعلم وقمع الطلاب، فلم تود ماريا أن تصبح معلمة، كانت شغوفة بالرياضيات والعلوم، فبعد انتهائها من دراستها الابتدائية التحقت بالمدرسة التقنية لدراسة الهندسة، وكانت والدتها تشجعها على دراسة ما تريد، بينما كان والدها تقليديا وأكثر تحفظا ويريد فقط منها متابعة دراستها بشكل تقليدي.

وكانت المدارس التقنية عادة متاحة للأولاد فقط، لكن ماريا مونتسوري وامرأة أخرى فقط اللتين سُمح لهما بالالتحاق بالمدرسة التقنية بشرط عدم الاختلاط أو الجلوس مع الأولاد في أوقات الراحة.

وقررت على الرغم من قلق والدها إكمال دراستها في مجال الطب، حيث لا توجد امرأة واحدة في تلك الفترة تدرس الطب. فالتحقت بكلية الطب، وواجهت الكثير من الصعوبات باعتبارها البنت الوحيدة في الكلية، فحُرمت من دراسة التشريح مع زملائها الأولاد، فكانت تقوم بدارسة الجثث والتشريح مساء بنفسها.

وعلى الرغم من تلك التحديات تفوقت ماريا مونتسوري في دراستها وتلقت حفاوة كبيرة من أساتذتها، وبدأت بإعجاب جمهورها، وأولهم والدها الذي تحول استياؤه منها لفخر بها بعد حضوره حفل تكريم لابنته بتشجيع من صديق للعائلة. ومنذ تلك اللحظة تغيرت نظرة أليساندرو لابنته. وفي يوليو/تموز 1896 حصلت ماريا على الدكتوراه في كلية الطب، لتصبح أول امرأة إيطالية تحصل عليها في إيطاليا.

بعد شهرين في سبتمبر/أيلول لعام 1896، دُعيت ماريا مونتسوري للعمل كمندوبة لإيطاليا في المؤتمر الدولي لحقوق المرأة في برلين. مرة أخرى استطاعت ماريا من خلال كاريزمتها الخاصة تسخير جماهير جديدة لها فاعتمد المؤتمر اقتراحها بالمساواة في الأجور، ووصفتها العديد من الصحف في تلك الفترة بالباحثة الجميلة.

عادت ماريا لإيطاليا بعد المؤتمر، وتم تعيينها كطبيب مساعد في عيادة الطب النفسي في جامعة روما، فكانت مسئولة عن زيارة المصحات الخاصة بالجنون في روما لمساعدة العيادة في اختيار مواضيع الدراسة. بدأ الأطفال في تلك المصحات بالتعلق بها، لكنها لاحظت أن البيئة المحيطة بهم فقيرة جدا، فلا يوجد شيء حولهم يحفزهم على تطوير تفكيرهم، فكانت أدمغة الأطفال تتضور جوعا للمعرفة والاكتشاف.


الرحلة

بدأت ماريا مونتسوري رحلتها في البحث في التربية الخاصة، فشُغفت بطريقة إيتارد والنهج العلمي للتعلم الذي اتبعه مع صبي الغابة. وهو صبي وجده يعيشان في الغابة بمفردهما لعشر سنوات، فوضع له منهجا تعليميا اعتمد فيه إيتارد على الملاحظة والتجارب، التي أدت إلى افتراض أن النمو البشري العادي له مراحل تنموية.

في عام 1898 تم تعيين ماريا مونتسوري وجوسيبي مونتيسيانو كمدير مشارك لمدرسة روما للمتخلفين عقليا، درست ماريا طلابها المتأخرين عقليا بشكل منهجي. من خلال ملاحظتها استطاعت معرفة وفهم الأساليب التي نجحت في مساعدة أطفالها على تطوير مهاراتهم الاستقلالية والأكاديمية. ماريا خلقت بيئة مختلفة تماما حول طلابها، تلك البيئة مكنت الأطفال من خلال تجاربهم على الاعتماد على أنفسهم وتعلم مهارات كافية لاجتياز امتحان عام للأطفال «العاديين».

وحقق نجاحها الكبير مع أطفالها المتأخرين عقليا اعترافا وطنيا، حيث دعا وزير التعليم الإيطالي ماريا إلى تقديم محاضرات للمعلمين حول كيفية تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. وأصحبت تدعم ماريا دعما قويا تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بدلا من معاملتهم كعينة طبية، وساعدت في البدء في إصلاح طريقة معاملة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

ونشأت علاقة رومانسة بين ماريا وجوسيبي أثناء فترة عملهما سويا، نتج عنها ابن ماريا الوحيد ماريو، وذلك في الفترة بين 1898 و1901. بعد ذلك تركت ماريا العمل في مدرسة روما للمتخلفين عقليا، وعادت إلى الجامعة مرة أخرى، لكن هذه المرة لدراسة الفلسفة وعلم النفس. غمرت نفسها في الدراسة، وترجمت أعمال جان إيتارد وإدوارد سيغوين إلى الإيطالية، كما حاضرت في كلية المعلمين وكانت أستاذا في الأنثروبولوجيا في الجامعة خلال تلك الفترة.

في عام 1907 تخلت ماريا مونتسوري عن جميع التزاماتها للتركيز على تعليم الطفل العادي. فأسست أول بيت للأطفال في الأحياء الفقيرة في سان لورينزو، لرعاية 50 طفلا لسن ما قبل المدرسة أثناء فترة عمل الوالدين. فجهزت المكان بأثاث من حجم الطفل، وأقامت الفصول الدراسية مثل غرف عائلية كبيرة لكن بحجم الطفل، وأقامت أنشطة مماثلة لما نفذته مع الأطفال المتأخرين عقليا.

ولاحظت ماريا أن هؤلاء الأطفال العاديين بخلاف الأطفال المتأخرين عقليا، لم يكونوا بحاجة إلى توجيه لاستخدام الأدوات، وكان لديهم رغبة حقيقية في استخدام الأدوات التي عرضتها، ولاحظت حب الأطفال لتعلم كيفية الحفاظ على البيئة والعناية بأنفسهم. اعتز الأطفال كثيرا بأنفسهم لقدرتهم على الاستقلال واعتمادهم على أنفسهم. كما لاحظت ماريا تركيز الطفل العميق في العمل وقدرته على تكرار النشاط ل40 مرة حتى يكون راضيا عن عمله، لاحظت أن هذا ما يحتاجه الطفل لبناء ذاته.

وكانت ماريا في العادة تضع الأدوات في خزانة خاصة في نهاية كل يوم، لكنها فوجئت في يوم وصلت فيه متأخرا إلى بيت الطفل أن الأطفال أخذوا من تلقاء أنفسهم الأدوات من الخزانة، التي تم تركها مفتوحة عن طريق الخطأ. استخدموا الأدوات بعناية وعملوا بها جيدا. هذه التجربة أوصلت ماريا مونتسوري لاعتقاد أنه يمكن إعطاء الحرية للأطفال للعمل بشكل مستقل مع الأدوات بعد تقديمها لهم مرة واحدة، فتخلصت من الخزانة، واستبدلتها برفوف مفتوحة ومنخفضة في مستوى الطفل بحيث يمكن للطفل اختيار الأدوات بشكل مستقل.

وشاركت ماريا الأطفال في أنشطة الحياة الحقيقية مثل غسل اليدين، والطاولة، والأطباق، إلى تلميع الأحذية. وقد مكن تركيز ماريا مونتسوري كل جهودها على ملاحظة الطفل، ومساعدته على تطوير استقلاليته، وانضباطه الذاتي للوصول بالطفل للحرية والثقة بالنفس. وساعدت في تحويل الأطفال المنكوبة في الحي الفقير إلى أطفال سعيدة، وهادئة، ومنضبطة ذاتيا، وحسنة التصرف. هذا التحول اكتسب الاعتراف من جميع أنحاء العالم، حيث سافر الكثير لرؤية فصول ماريا مونتسوري.

أسست ماريا منهجها على ملاحظة احتياجات الطفل، وقالت إنها تنظر للطفل لتتعلم منه. وكانت تحلل ملاحظتها عن الأطفال لتكتشف كيف يتعلم الطفل.

نشرت العديد من الكتب عن كيفية فهم وتعلم الطفل. ولاحظت أن الأطفال قبل سن السادسة يتمتعون بقدرة ذهنية غير عادية لاستيعاب المعرفة من بيئتهم، فعقلهم مثل الإسفنج يمتص المعرفة ولا يحللها وهو ما تسميه ماريا (العقل المستوعب)؛ لذلك من السهولة أن يتعلم الأطفال لغات أجنبية في تلك المرحلة بعكس البالغين يحللون ما يتعرفون عليه.

واكتشفت أيضا ماريا مونتسوري من خلال ملاحظتها أن الأطفال لديهم مراحل حساسة من التطور، يكشف فيها الطفل عن اهتمام قوي بشكل خاص سواء كان الاهتمام بمهارة أو معرفة. فمثلا طفل ما قبل المدرسة، لاحظت أن هناك مراحل حساسة للحصول على اللغة، والشعور بالنظام، والاهتمام بالتفاصيل والأشياء الصغيرة، واستكشاف الحواس، واكتساب المعلومات عن طريق اللمس، والكلمات، والكتابة، والأرقام، والعد، والحركات الدقيقة.

بالإضافة لذلك تعلمت ماريا مونتسوري من ملاحظتها للأطفال، أن الأطفال يتعلمون بشكل أفضل من خلال إعطاء الفرصة للاكتشاف والتعلم من خلال التحكم في الأدوات، لذلك صممت أدواتها بعناية لتتيح للطفل فرصة التجربة والخطأ وإعطاء الطفل الفرصة على التصحيح الذاتي للخطأ. كما راعت أيضا في تصميمها للمنهج حاجة الطفل للحركة والتكرار. وشجعت الطفل على الحركة والتعلم وعدم الجلوس على الطاولات طوال اليوم. كما راعت الفروق الفردية للأطفال للتعلم، فلكل طفل طريقته وأسلوبه الخاص في التعلم.

من أهم المبادئ التي يقوم عليها منهج المونتسوري ما يُعرف بـ (اتبع الطفل follow the child)، فيجب على موجه المونتسوري مراعاة ذلك والمرونة في التعامل مع كل طفل على حسب احتياجات الطفل وميوله وقدراته.

وأيضا شجعت ماريا على اختلاط الفئات العمرية المختلطة التي تمتد لثلاث سنوات، ضمن بيئة غير تنافسية تسمح لكل طفل بالتطور بوتيرته الخاصة.

في عام 1913 زارت ماريا مونتسوري الولايات المتحدة لأول مرة، وقد تلقت دعما قويا من ألكسندر جراهام بيل وزوجته مابل، وتوماس أديسون، وهيلين كيلر، ومارغريت ويلسون ابنة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون.

وفي عام 1915 عادت مرة أخرى للولايات المتحدة وجهزت أول فصل لها في الولايات المتحدة، وبدأ الآلاف من الأشخاص حول العالم يتوافدون ليشاهدوا طريقتها الجديدة في التعليم، وحصلت على جوائز تعليمية في تلك الفترة.

سافرت ماريا مونتسوري لأماكن عديدة لنشر منهجها العلمي الجديد في التدريس وإلقاء محاضراتها في العديد من الدول، وواجهت مصائب الحربين العالميتين وأصبحت مؤيدا قويا للسلام وصرحت عن اعتقادها بأنه يمكن تحقيق السلام عن طريق الطفل.

رُشحت ماريا مونتسوري لجائزة نوبل للسلام ثلاث مرات في الأعوام التالية: 1949، 1950، 1951، وفي أجزاء من رسالة أرسلتها للعديد من الحكومات، لخصت ماريا مونتسوري عمل حياتها:

لقد قضيت حياتي في البحث عن الحقيقة من خلال دراسة الأطفال، لقد فحصت الطبيعة البشرية في أصلها في الشرق والغرب على حد سواء. وعلى الرغم من أربعين عاما مضوا منذ بدأت عملي، الطفولة لا تزال تبدو لي مصدرا لا ينتهي من الكشف -اسمحوا لي أن أقول
ومن الأمل. لقد أظهرت لي الطفولة أن البشرية شيء واحد، جميع الأطفال يتحدثون، ويسيرون، ويغيرون أسنانهم تقريبا أو أكثرهم في نفس العمر، بغض النظر عن عرقهم أو ظروفهم أو أسرهم، وما إلى ذلك من فترات معينة محددة من حياتهم. في جوانب أخرى أيضا وخاصة في المجال النفسي، فحياتهم متماثلة تماما. جميع مشاكل الإنسانية تعتمد على الإنسان نفسه؛ إذا تم تجاهل الإنسان في بنائه، فإن مشاكل الإنسان لن تحل أبدا. لا يوجد طفل فاشي أو ديموقراطي، فإنه يصبح نتيجة الظروف والبيئة المحيطة به. يجب العمل على الإنسان من بداية الحياة عندما تكون القوى العظمى من الطبيعة، ومن ثم يمكن للمرء أن يأمل في التخطيط لفهم دولي أفضل.

توفيت ماريا مونتسوري في 6 مايو 1952 وهي في سن 81 في نوردفيك، هولندا. على نصبها التذكاري مكتوب:

«أتوسل إلى جميع الأطفال الأقوياء أن يتحدوا معي لبناء السلام في الإنسان وفي العالم».

وفقد العالم أعظم شخصية طورت التعليم، لكنه لم يفقد مسيرتها التعليمية، فمنهجها ما زال مستمرا، يحمله أبناؤها وينشرونه للعالم كله لتمتد مسيرتها ليومنا هذا.


ترشيحات

المفتاح هو أن يلاحظ ولي الأمر أو موجه المونتسوري أو القائم على العناية، الطفل ويحدد له الفترات الحساسة من خلال هذه الملاحظات، ويستفيد من اهتمام الطفل المركز بها بتقديم ما ينميها ويشبع احتياجاته تجاهها.

في النهاية أحب أن أرشح لكم بعض الكتب التي كتبتها ماريا مونتسوري:

عندما تقرر قراءة كتاب لماريا مونتسوري عليك تذكر أن ماريا مونتسوري كانت إيطالية، فبالتالي كانت كتبها الأصلية مكتوبة باللغة الإيطالية ثم تم ترجمتها لعدة لغات لتصل إلينا. إذا استطعت قراءتها باللغة الأم فهذا سيجعلك تصل للمعلومة بالأسلوب الخاص بماريا، وإذا استطعت قراءتها باللغة الإنجليزية فذلك أفضل من قراءتها باللغة العربية؛ لأن معظم كتاباتها العربية مترجمة من الإنجليزية فتحدث في كثير من الأحيان أخطاء في الترجمة.

هذا الكتاب تم نشره عام 1995. هو ليس من الكتب السهلة لماريا مونتسوري، إذا لم تقرأ أي كتاب من قبل لماريا مونتسوري فلا تبدأ به. به جرعة مكثفة من الفلسفة الخاصة بالمونتسوري مع نظريات تطور الطفل منذ الميلاد وحتى 3 سنوات. هو مهم جدا لك إذا كنت تعمل معلما للأطفال. حاول تجنب النسخة العربية منه فترجمته سيئة.

هذا الكتاب تم نشره عام 1996، ولكنه كُتب في عام 1948. هو أسهل من كتاب العقل المستوعب وأنصحك بالبدء به، وترجمته العربية جيدة. وهو يفسر طبيعة الطفل وكيفية إشراك الطفل في التعلم.

هذا الكتاب نشر في عام 1992 ولكنه كتب في الأصل عام 1936. يتحدث عن عقل طفل وما يحدث وراء نشاطات الأطفال وأفعالهم. ترجمته العربية جيدة أيضا.