بعد نحو القرن والنصف من وصول المسلمين إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، لبناء حضارة جديدة ببلاد الأندلس، وحين ظنت الغالبية الساكنة لهذه البلاد بمسلميها ومسيحييها أن الأمر استتب لحكومة الخلافة، بدأت بوادر التمرد والتذمر تظهر من طرف مجموعة من المسيحيين من سكان البلاد الأصليين، الذين لم يستطيعوا التأقلم مع الوضع الجديد، فابتكروا طريقة جديدة لمقاومة هذا الوجود الإسلامي، وذلك عن طريق السعي الحثيث للاستشهاد في سبيل الدفاع عن العقيدة المسيحية، في محاولة منهم لإيقاظ الحمية الدينية لعدد كبير من إخوانهم في العقيدة الذين استسلموا للوضع الجديد، وتعايشوا مع جيرانهم الجدد من المسلمين.

مساعي «الاستشهاد المقدس» عُرفت تاريخيًا بحركة «شهداء غرناطة»، والتي لعبت دورًا كبيرًا في إعادة هيكلة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الأندلس، ووضعت أولى بذور إنهاء وجود المسلمين في أوروبا.

في البداية.. كان المستعربون

لأن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب، لم يمرُّ مقام المسلمين دون تأثير على حياة السكان الأصليين من الأوروبيين، على عاداتهم اليومية وحتى تقاليدهم المعيشية، تطبَّع عدد كبير من المسيحيين بثقافة العرب، بلغتهم وبطريقة حياتهم بل حتى بدينهم، حتى الذين لم يعتنقوا الديانة الإسلامية ولم يتركوا ديانتهم الأصلية، حملت هذه الفئة لقب المستعربين.

لعب المستعربون دورًا كبيرًا في الاستقرار الكبير الذي عرفته الأندلس الإسلامية، وكان ذلك في مقابل الاستقرار الكبير الذي خلفه وصول المسلمين إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، كانت إسبانيا تحتاج كثيرًا لنموذج اجتماعي صلب(2)، يوحد البلاد، بجانب نموذج أخلاقي وثقافي جديد، فكان التأثير سياسيًا وثقافيًا، انعكس ذلك على فئة المستعربين الذين تبنوا حياة العرب تبنيًا كاملًا، في طريق الملبس والمشرب والمأكل، في تفاصيل الحياة اليومية وفي الذوق العام، سيظهر ذلك واضحًا في مسألة التأثر الكبير باللغة العربية ومحاولة مجاراة العرب في إتقانها.

كان الشباب المسيحي مشغولًا بإتقان اللغة العربية والإبداع فيها، ذلك لأنها كانت لغة القوم ويستعملها المسلمون والمسيحيون على حد سواء، فكان الحديث بها يدلُّ على الانضواء تحت لواء الطبقات الاجتماعية الراقية (3)، كما أن إتقانها كان يفتح الأبواب لإيجاد فرص عمل بسهولة أكبر. مع الزمن، لم يعد الحديث بالعربية عبارة عن مجهود مرهق للمواطنين من أصول مسيحية، بل بات سجية هؤلاء المستعربين، وصل ذلك إلى حد كتابة تدوين (4) المقتطفات السريعة والحواشي على الكتب باللاتينية كالأناجيل باللغة العربية، وهو أمر يؤكد تغلغل العربية في مجتمع مسيحيي الأندلس حد إزاحتها اللاتينية من عرشها كلغة أولى.

حواشي عربية قديمة على نسخة من الإنجيل
حواشي عربية قديمة على نسخة من الإنجيل
حواشي بالعربية على كتاب سفر القضاة؛ سابع أسفار العهد القديم
حواشي بالعربية على كتاب سفر القضاة؛ سابع أسفار العهد القديم

واصلت الثقافة العربية والإسلامية ربح المساحات داخل المجتمعات المسيحية نفسها، فبدأت عملية تعريب (5) الأسماء، إما شكلًا عبر تبني الصيغة العربية في الأسماء (فلان ابن فلان)، أو محاولة تنصير بعض الأسماء كعبد الله وعبد الرحمن، أو اختيار النسخ العربية لأسماء الأنبياء، كموسى وعيسى ويحيى بدلاً من الأسماء اللاتينية لهم.

انتشار الثقافة العربية الإسلامية، وابتعاد الشباب المسيحي عن اللاتينية كلغة والمسيحية كديانة وأسلوب حياة، ولد حركات احتجاجية ساخطة على الوضع، سلطت الضوء على خطر الانجراف الثقافي والعقدي الذي يعيشه المسيحيون خصوصًا الشباب منهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، أبرز هذه الحركات كانت حركة «شهداء قرطبة».

التنظير الفكري للحركة

بعد السيطرة السياسية والفكرية والعسكرية للإسلام على مناطق واسعة من أوروبا، وجدت الكنيسة نفسها في تحدٍّ كبير، تحدي مواجهة هذا الخطر التي يعتمد أساسًا على عقيدة دينية وكتاب سماوي، لكن المهمة لم تكن بتلك السهولة.

تأسست الثقافة المسيحية على نص مركزي هو «الكتاب المقدس» (6) الذي ظل لسنوات طويلة مصدرًا للمعرفة والوعي، ومصدرًا للفكر الغربي والثقافة الغربية بشكل تام، بجانب هذا، كانت هنالك نصوص أخرى ذات أهمية كبيرة هي الأخرى، ككتابات آباء الكنيسة وأعمال فلاسفة العصر الوسيط والمجادلين اللاهوتيين، تكمن أهمية النص الجدلي المسيحي في أنه بمختلف أشكاله، معرفيًا كان أو ثقافيًا، هو المصدر الأساسي في التعرف على فكر الآخر المختلف.

ربما لم تكن مواجهة الإسلام تهم كثيرين من المسيحيين الذين كانوا يعيشون تحت عرش الخلافة الإسلامية، لكن هذه المواجهة كان مهمة، بل ومصيرية لأعضاء حركة مسيحية يمكن وصفها باليمينية، تحمل اسم «شهداء قرطبة»، وهي حركة «استشهادية» قامت على محاولة استفزاز المسلمين الذين يشكلون الأغلبية بقرطبة، عبر سب مقدساتهم وشتم رسولهم في العلن، حتى تطبق عليهم عقوبة «الإعدام» بسبب أفعالهم، فيظهر أعضاء الحركة كضحايا للتواجد الإسلامي في الأندلس الذي أخذ أرض المسيحيين ويقوم بإعدامهم لدفاعهم عن عقيدتهم، فيستفز ذلك الحمية الدينية لباقي المسيحيين ويدفعهم للثورة.

بدأ فكر هذه الحركة في الظهور عبر شخصيتين رئيسيتين، أولاهما شخصية «آولوخيو» وهو رجل دين مسيحي ناقم على الوجود الإسلامي بالأندلس، أما الشخصية الثانية، فهي شخصية «ألفارو» وهو ثري مسيحي، ارتد عن اليهودية، وكان مهتمًا جدًا بالثقافة واللغة العربية، بدأ (7) الرجلان في البحث في التراث اللاهوتي الكنسي بهدف إيجاد مادة سجالية تبريرية، يتم تحويلها لمادة للمواجهة، ولأجل هذا انتقل «آولوخيو» إلى مدينة «بنبولة» للحصول على نسخة لاتينية لحياة النبي، عليه الصلاة والسلام، بجانب تركيزه على الأعمال الجدلية القديمة لمجابهة الأسلوب الحججي الإسلامي.

خلُص آولوخيو في كتابه «دفاع الشهداء» إلى أن الإسلام هو ليس أكثر من بدعة مسيحية، كونها الديانة الوحيدة التي تخلصت من الكنيسة ونسخة الشرائع السابقة، كما ركز في كتاباته على حضور السيد المسيح وصورته في التعاليم القرآنية، في نفس الطرح سارت كتابات زميله آلفارو الذي اعتبر أن الرسول عليه الصلاة والسلام حاول أن يأتي بعهد ثالث جديد.

ورغم التراث الفكري الذي حاول الصديقان المسيحيان إنتاجه، فإن نظام الجدل المسيحي بشكل عام ظل هشًا، بسبب عدم الإلمام الكبير بالإسلام وندرة المعلومات التحليلية عن المعتنقين لهذه الديانة، فكان التوجه حينها إلى الجانب العاطفي، لدى الفئة المسيحية التي كانت تحس بشعورٍ حاد من عدم القدرة على التكيف مع هذا الواقع الجديد، هذه الحالة النفسية من الرفض هيأت الرافضين للوجود الإسلامي لفعل أي شيء يمنع استمراره، ولو تطلب الأمر استفزاز الخصم، صاحب السلطة، ودفعه للانتقام من ذلك بالقتل، فيُعتبر الضحية في نظر أنصاره نال شهادة تكفر الذنوب وترضي الرب.

الاستفزاز كباب للاستشهاد

ستنطلق «حكايات» الاستشهاد بحسب المصادر المسيحية (8) مع راهب مسيحي يدعى «بيرفيكتوس»، كان هذا الأخير يتردد على أسواق قرطبة حين التقى جماعة من المسلمين الذين بدؤوا بطرح بعض الأسئلة حول موقف الكاثوليك من المسيح عيسى بن مريم ومن محمد بن عبد الله- عليهما الصلاة والسلام- اعترف هذا الراهب بألوهية عيسى ابن مريم، لكنه رفض الخوض بحسب ذات المصادر في الحديث عن نبي الإسلام، ومع الضغط الكبير انفجر الراهب وكال السباب والشتم للإسلام ولنبيه والمؤمنين به ثم استشهد بآية في الإنجيل تقول: لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا» / (مت 24: 24).

انفض المسلمون من حوله ولكنه عندما عاد للسوق مرة أخرى، بدأ الناس في الصراخ، هذا الذي شتم الإسلام والنبي، فتم أخذه للقاضي الذي زج به في السجن، فعاش نوبات وردود فعل مختلفة تتأرجح بين الانفعال الشديد وتجديد هجومه على المقدسات الإسلامية والهدوء، ثم حكم عليه بالإعدام في يوم عيد الفطر لسنة 850 ميلادية / 253 للهجرة، وقبل أن يتم تنفيذ الحكم استغل فرصة منحه للكلمة لإعادة سب وشتم مقدسات المسلمين متوعدًا الحاضرين بالخلود في الجحيم.

لم يكن «بيرفيكتو» يطمح إلى أن يكون مدشن هذا النوع الاحتجاجي المسيحي الجديد، لكنه فعل ذلك وإن لم يبحث عنه، فأعطى دفعة روحية لمسيحيين آخرين كانوا يتشاركون معه المعتقد والهم، فبعد إعدامه غرق قارب تنزه كان على متنه مسلمان من قرطبة، اعتبر (9) الشارع المسيحي أن ما حدث بمثابة انتقام من الرب، فيما قدم متعاطفون من فرنسا للتبرك برفاة الراهب المسيحي «الشهيد».

هنا ستظهر الشخصية المحورية والأساسية في حركة الاستشهاد المسيحي (10) هي شخصية الشاب «إسحاق»، وهو ابن أسرة غنية من أصل نبيل، كان عصاميًا ومهذبًا، تعلم العربية وأتقنها وكان متميزًا في دراسته للحد الذي جعله يشغل منصب «كاتب» لدى الخليفة. بعد سنوات من رغد العيش، ترك «إسحاق» حياة الترف وتوجه للرهبنة داخل دير تمتلكه عائلته، ويشرف عليه أخوه، وبعد سنوات من الاعتزال عاد إلى قرطبة وتوجه لمناظرة القاضي حول الإسلام، وبعد سماعه محاضرة الأخير، انتفض ووصف محاوره بالكذاب وشرع في شتم الإسلام ودعوة القاضي للتنصر.

أمر القاضي بإيداعه السجن، لكن «الراهب الشاب» عاد لمواجهة القاضي وتشبث بموقفه وأصر (11) على أن يعدم حتى تتحول عظامه إلى رفاة مقدسة، وهو ما حدث، وبعد انتشار خبر إعدامه، أقدم 5 رهبان بزعامة عمه على ذات الأمر حتى يلقوا نفس المصير «المقدس» مما أسهم في تحميس المسيحيين. نقل آولوخيو وألفارو هذه القصص التي كانت بمثابة حجج يواجهون بها «المسيحيين المعتدلين»، خصوصًا أن أحكام الإعدام هذه تضع الحكومة الإسلامية في موقف محرج، فهي لا تترك أمامهم إلا خيارين كلُّ واحدٍ منهما أصعب من الآخر؛ إما إعدام المُخطئ للدفاع عن الإسلام مع مخاطر أن تُشعل هذه الأحكام الغضب في نفوس المسيحيين أو التغاضي عن هذه الأفاعيل التي قد تقود إلى حرب دينية تهدم روح التعايش.

واصل المتعاطفون مع الحركة تقديم أجسادهم قربانًا للسماء بنفس الطريقة، استفزاز الحكومة الإسلامية بإعلان ألفاظ السب والشتم لمقدسات المسلمين، من بين هؤلاء سنجد قصة الفتاة «فلورا» (12) وهو من أسرة مختلطة من أب مسلم وأم مسيحية، بعد وفاة الأب اقتربت فلورا من أسرة أمها المسيحية عكس أخيها وأختها اللذين ظلا على الإسلام، وبعد فترة من اعتناقها المسيحية، تركت «فلورا» المنزل لعيش عقيدتها الجديدة بحرية دون إذن أسرتها في ذلك أمها المسيحية.

وبعد مدة من البحث، تمكن أخوها من العثور عليها، فوافقت على العودة معه على شرط عدم العودة للإسلام، وبعد ترغيب وترهيب، قرر شقيقها الذهاب بها إلى القاضي لتأديبها، فلم تنكر مسيحيتها ولم تؤكدها، فعادت بعد ذلك لمنزلها والتقت بعد إطلاق سراحها بفتاة تدعى ماري، فقررتا الذهاب إلى القاضي وإعلان اعتناقهما المسيحية، حيث قالت فلورا رفقة صديقتها العداء للإسلام كونه ديانة اختلقتها الشياطين معربة عن سعادتها للخروج من الظلام التي كانت تتبع فيه أباها المسلم، فتم فيهما حكم الإعدام. وعلى الفور، أعلن «آولوخيو» فلورا «قديسة» وماري «مباركة».

نهاية «آولوخيو» والحركة

انتخب «آولوخيو» رئيسًا لأساقفة طليطلة (13)، وكان قريبًا من أن يكون رئيسًا لأساقفة إسبانيا لولا زيارة الفتاة «ليوكريتيا» المسلمة التي قررت التنصر. أخذ المناضل المسيحي على نفسه مهمة تعليمها الديانة، لكن أمره اكتشف ثم قيد إلى القاضي الذي واجهه بالتهم الموجهة إليك، فلم ينكر منها شيئًا وقال للقاضي إنه لا يمكن رد جاهل يريد التعلم، مضيفًا أنه يفتح بابه للقاضي أيضًا لمساعدته على التعلم والتخلص من الجهل إن هو أراد ذلك، طالب القاضي بالإتيان بالعصي لتأديبه، لكن آلوخيو أصر على الإعدام حين قال «سن شفرتك لتحرير روحي من أغلال الجسد» بحسب ما روى صديقه ألفارو، ورغم محاولة تدخل شخصيات رفيعة فإن رئيس أساقفة طليطلة أصر على أقواله فتم فيه حكم الإعدام قبل 5 أيام من عيد الفصح هو و«ليوكتيريا» ليصل عدد «شهداء» قرطبة إلى 50 مسيحيًا».

انتهت الحركة رسميًا بوفاة «آولوخيو» في 15 مارس 859م، ورغم أن الكنيسة وشريحة واسعة من المجتمع المسيحي ومن المستعربين، خصوصًا، رفضوا هذه الحركة واعتبروها أداة في تخريب مجتمع دولة الأندلس، فإنها كانت إشارة تحذيرية واضحة، ستتبعها أحداث كثيرة تنتهي بمحاكم التفتيش وطرد المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية بقيادة القوى المسيحية الناقمة.

أسهمت الحركة رغم عمرها القصير، في تعميق الانقسام الإسلامي / المسيحي، إذ قام الخليفة محمد الأول فور توليه الحكم بعد وفاة أبيه عبد الرحمن الثاني إلى ممارسة نوع من الضغط على المسيحيين، بعد أن أمر بهدم جميع الكنائس الجديدة ومنع ترميم الكنائس التي أقيمت بعد الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس، إضافة إلى عددٍ من التضييقات التي لم تطبق كاملة بسبب الوضع السياسي الداخلي غير المستقر.

صحيح أن الحركة لم تنتصر، لكنها حققت أحد أهدافها المهمة، ألا وهي توتير العلاقة بين الحاكم المسلم والمحكوم المسيحي، بهدف بناء جدار عميق من العنف والكراهية بين الطرفين مع عزل المسيحيين المقربين من النظام السياسي، واعتبارهم أعداء لإخوانهم في العقيدة وخونة لدعمهم لقوة «احتلال».

المراجع
  1. المستعربون والثقافة الإسلامية في اسبانيا ، دومينيك ميلي جيرارد
  2. المصدر السابق
  3. AILLET, Cyrille. Les mozarabes: Christianisme et arabisation en péninsule Ibérique (IXe – XIIe siècle)
  4. المصدر السابق
  5. حركة شهداء قرطبة خلال القرن 3 هجري، دراسة من خلال المصادر المسيحية، أحمد غنيمة
  6. المصدر السابق
  7. المصدر السابق
  8. المصدر السابق
  9. المصدر السابق
  10. المصدر السابق
  11. المصدر السابق
  12. الفتوحات العربية في رواية المغلوبين، حسام عيتاني
  13. المصدر السابق