محتوى مترجم
المصدر
Fightback
التاريخ
2017/7/12
الكاتب
جيسيكا كاسيل

بدأت مع أزمة الرأسمالية، فترة من التساؤلات والحركات الجماهيرية في جميع أنحاء العالم. من حركة «الساخطين» (indignados) الإسبان إلى مظاهرات ميدان سينتاجما في اليونان، مروراً بحركة «ليلة وقوف» (Nuit debout) في فرنسا، نرى الشباب ينهضون ويحاربون النظام الرأسمالي.

لقد رأينا أيضًا، في السنوات الأخيرة، العديد من الحركات الجماهيرية ضد أشكال مختلفة من الاضطهاد التي تعاني منها طبقات مختلفة من الطبقة العاملة تحت النظام الرأسمالي.

وحدثت أيضًا حركات ملهمة مثل Idle No More ،Black Lives Matter، واحتجاجات ضد العنف ضد المرأة التي وقعت في جميع أنحاء العالم في 8 مارس، وحركة المناهضة لترامب ليست سوى أمثلة قليلة على الرغبة المتزايدة بين الشباب، العمال والعاملات لمحاربة الاضطهاد والتمييز.

إحدى وجهات النظر السائدة بين قيادة العديد من هذه الحركات – القريبة في الغالب من اليسار الأكاديمي – هي «التقاطعية». لذا، ليس من الغريب أن طبقة من الشباب والطلاب الذين يسيسون أنفسهم عن طريق هذه الحركات يرون الاضطهاد من خلال هذه النظرية. ولكن ماذا يعني التقاطعية؟ هل هي مفيدة في محاربة الاضطهاد؟ هل هي متوافقة مع الماركسية؟

إن التقاطعية مصطلح يستخدم بشكل عام لوصف وجود أشكال متعددة من الاضطهاد التي تتداخل وتتقاطع لتشكيل تكوينات مختلفة لكل فرد، والتي تخلق تجارب وعوائق اجتماعية فريدة. فنجد عبارة «الحاجة إلى أن تكون تقاطعية» عبارة شائعة داخل الحركة، مما يعني أن أي صراع يجب أن يكون شاملاً وممثلًا للأفراد الذين يعانون من اضطهادات متداخلة مختلفة، بدلاً من فكرة التركيز ببساطة على مجموعة واحدة أو شكل واحد من الاضطهاد.

يدرك الماركسيون أن الأفراد والمجموعات يمكن أن يواجهوا أشكالًا متعددة من الاضطهاد المركب في وقت واحد، وأن كل تكوين من أشكال الاضطهاد يؤدي إلى مجموعة معينة من الحواجز الاجتماعية.

من منظور ماركسي، لا يمكن فهم أي شكل من أشكال الاضطهاد أو التغلب عليه بشكل معزول. وترى الماركسية أن النضال ضد الاضطهاد والاستغلال يجب أن يشمل جميع طبقات المظلومين والمطهدين، فيعارضون الماركسيون بشدة أي سلوك تمييزي، ونأكد أن هذا لا يمكن إلا أن يفرقنا ويمنعنا من تحقيق وحدة الطبقة العاملة، الضرورية لتحقيق التحرر الكامل.

للوهلة الأولى، يبدو أن الماركسية والتقاطعية متكاملتان. ومع ذلك، إذا نظرنا تحت السطح وتعمقنا في النظرية الكامنة وراء التقاطعية، نجد أن فهمها للاضطهاد وكيفية محاربته يختلف اختلافًا كبيرًا عن الماركسية. فالتقاطعية، على الرغم من النوايا الحسنة لكثير من أنصار تلك النظرية، لا يمكنها أن تفسر بشكل كافٍ الأصول المختلفة لأشكال الاضطهاد، وبالتالي لا تتمكن من تقديم حل حقيقي.

لا بد أن نأكد أن الماركسيين يناضلون ضد جميع أشكال الاضطهاد. فانتقاد نظرية مختلفة لفهم الاضطهاد في الحركة لا يعني التغاضي عن واقع أشكال متعددة من هذا الاضطهاد؛ بل على العكس، لأن هدفنا النهائي هو إنهاء جميع أشكال القمع والاضطهاد والاستغلال نهائياً، فمن واجبنا الدفاع عن الأفكار والأساليب التي تحتاج إليها الطبقة العاملة والشباب إلى للتحرر. فإخفاء خلافاتنا لا يدفع الحركة إلى الأمام.

وضع التقاطعية في السياق

من أجل فهم حدود نظرية التقاطعية من منظور ماركسي، يجب علينا بالطبع أن نأخذ في الاعتبار المبادئ الرئيسية للتقاطعية نفسها، والسياق التاريخي الذي ظهرت فيه هذه النظرية. يتزامن صعود التقاطعية مع هزيمة الحركات الثورية في الستينيات والسبعينيات، تليها فترة الرجعية في الثمانينيات التي بلغت ذروتها بسقوط الاتحاد السوفياتي. ففي انحسار الصراع الطبقي الذي أعقب ذلك، اكتسبت سياسات الهوية شعبية أكبر. تلك السياسات ونظريات تلك السياسات، التي تطورت في هذه الفترة الزمنية بالذات، تحدد الأشخاص على أساس خصائصهم الشخصية (مثل العرق أو الجنس) بدلاً من طبقتهم أو رأيهم السياسي.

وقد تم استغلال تلك السياسات والنظريات من قبل الطبقة المهيمنة من أجل تعزيز عناصر برجوازية صغيرة ووصولية التي يمكن دمجها بسهولة في النظام الرأسمالي.

فسياسات الهوية تسخدم من قبل بيروقراطية الحركة العمالية والطبقة الحاكمة ضد أولئك الذين يتخذون مواقف يسارية ومنظور نضالي طبقي داخل الحركة. هذا التوجه المتزايد نحو محاور منفصلة للهوية والاضطهاد هو نتيجة لفشل القيادات النقابية والديمقراطية الاجتماعية والستالينية في قيادة الطبقة العاملة إلى الإطاحة بالرأسمالية، والتي كانت ستقضي على القاعدة الاجتماعية والاقتصادية للأشكال المختلفة من الاضطهاد.

الستالينية، على وجه الخصوص، لعبت دورًا خبيثًا. ففي حين أن الثورة الروسية عام 1917 بقيادة البلاشفة تحت لينين وتروتسكي حققت تقدمًا كبيرًا للنساء والمثليين والمثليات والجنسيات المضطهدة، أدى انحطاط الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين إلى نكسات كبيرة. فأدى عزلة وتخلف الاتحاد السوفييتي إلى استمرار الندرة، واستخدم الستالينيون جميع الانقسامات القديمة وأشكال الاضطهاد المختلفة للحفاظ على قوتهم وكبح الثورة البروليتارية العالمية. الممارسات التمييزية التي تبنتها الأحزاب الشيوعية الستالينية في جميع أنحاء العالم عكست السياسات الستالينية المعتمدة في الاتحاد السوفيتي، مثل إعادة تجريم المثلية الجنسية.

وليس غريبًا أن هذه السياسات الستالينية بعدت الكثير من الشباب والعاملين الذين يعيشون تحت وطأة الاضطهاد عن النضال من أجل الاشتراكية. إن مثل هذه السياسات لا علاقة لها بالماركسية الحقيقية وقد ساهمت في تقسيم الحركة إلى محاور منفصلة للنضال، بينما تناضل الماركسية الحقيقية ضد جميع أشكال الاضطهاد وتدعو إلى الوحدة الطبقية.

كانت التقاطعية، وهي فرع من الحركة النسوية، في الواقع رد فعل ضد سياسات الهوية التقليدية التي تميل إلى تقسيم الحركة إلى نضالات منفصلة. فأشارت النساء السود على وجه الخصوص لعقود عديدة أن الحركة النسوية كانت تهيمن عليها إلى حد كبير النساء البيض من الطبقة العليا اللواتي تجاهلن واقع واحتياجات النساء السود من الطبقة العاملة، وأن الرجال كانوا يسيطرون على الحركة المعادية للعنصرية وكانوا غالبًا يستخفون باضطهاد النساء – وهذا نقد مهم للغاية.

ومع ذلك، ترتكز الأسس الأيديولوجية للتقاطعية على نظريات ما بعد الماركسية (post-(marxisme مثل ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية.

اكتسبت هذه النظريات شعبية أكبر في الأوساط الأكاديمية على وجه التحديد في فترة رجعية رأسمالية وانهيار الستالينية، وهي الفترة التي تخلت فيها القيادة النقابية واليسار بشكل عام عن كل نضال من أجل الاشتراكية، و أعلنت نفسها لصالح رأسمالية أكثر «إنسانية». بينما كان التركيز على التحول الاجتماعي والاقتصادي الجذري في الفترة السابقة، أصبح عالم الأفكار والتفكير واللغة الهدف الذي يجب تحليله وتغييره في إطار تراجع الصراع الطبقي. بعد أن فقد كل الثقة في قدرة الطبقة العاملة على تغيير الأسس الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع جذريًا، تراجع اليسار الأكاديمي واتجه إلى فكرة تغيير طريقة تفكير الناس.

انطلاقا من هذا الاتجاه الأيديولوجي، تهتم التقاطعية على الخبرة الذاتية والفكر الفردي واللغة والسلوك الفردي، وترى أنه من خلال هذه النظرة يمكن للمرء أن يفهم ويتغلب على الاضطهاد.

إنه نهج مثالي (فلسفي) للغاية يقوم على فكرة أنه من أجل تغيير المجتمع، يجب عليك تغيير وجهات نظر الناس أولاً – أو، الأسوأ من ذلك، أن عن طريق تغيير «الخطاب»، يمكننا تغيير الواقع.

الحقيقة هي أن الأيديولوجية المهيمنة في المجتمع الطبقي هي أيديولوجية الطبقة المهيمنة. ففي النضال نفسه لتغيير المجتمع يتغير الناس (بأعداد كبيرة) وتتغير آراؤهم (على نطاق واسع). يشرح ماركس ذلك جيدًا في كتابه «الإيديولوجيا الألمانية»:

إن التحول الهائل للناس أمر ضروري لخلق هذا الوعي الشيوعي، ومع ذلك، لا يمكن أن يحدث هذا التحول إلا من خلال حركة عملية، من خلال الثورة. بالتالي، فإن هذه الثورة ليست ضرورية فقط لأنها الطريقة الوحيدة للإطاحة بالطبقة الحاكمة، بل هي ضرورية أيضًا لأن الثورة فقط هي التي ستسمح للطبقة التي ستطيح بالأخرى باكتساح كل عفن النظام القديم الذي التصق بها وتصبح قادرًا على تأسيس المجتمع على أسس جديدة.

وعودة لموضعنا، نرى أن الفضل في اختراع مصطلح «التقاطعية» يرجع إلى أستاذة القانون الأمريكية الأفريقية كيمبرلي كرينشو في عام 1989، والتي استخدمت خصيصًا هذا المصطلح لوصف فشل نظام العدالة الجنائية الأمريكي في التمييزات المختلفة متعددة التي تعاني منها النساء السود في أماكن عملهن. ففي مقالها: «تأطير التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود لأطروحة معاداة التمييز والنظرية النسوية وسياسة مقاومة التمييز العرقي» (Demarginalizing the Intersection of Race and Sex)، تستشهد كرينشو بعدة دعاوى قضائية نظرت فيها المحكمة إما في ادعاءات بالتمييز على أساس الجنس أو ادعاءات بالتمييز العنصري في مكان العمل، رافضة الاعتراف بأن النساء السود يواجهن التمييز لأسباب متعددة، ليس فقط كنساء أو كسود، ولكن كنساء سود. على سبيل المثال، في قضية DeGraffenreid vs General Motors، رفضت المحكمة الشكوى بشأن الجنس والتمييز العنصري لأن جنرال موتورز قامت بتوظيف نساء بيض ورجال سود خلال الفترة السابقة.

فنأكد أن ليس هناك شك في أن النساء السود والمجموعات الأخرى التي تعاني من التمييز لأسباب متعددة مهملة في النظام القضائي الرأسمالي. تخلق هذه العيوب الهيكلية عقبات كبيرة في تساوي الحقوق بين للطبقات المضطهدة من الطبقة العاملة. يدعم الماركسيون الإصلاحات القانونية التي تزيد من قدرة العمال والطبقات المضطهدة من طبقتنا على النضال من أجل حقوقهم وتحسين ظروفهم المعيشية.

ولكن يجب علينا أيضًا أن نوضح أن نجد العنصرية والتمييز الجنسي جذورهما خصوصًا في المجتمع الطبقي وفي احتياجات الرأسمالية، وأن النظام القضائي موجود قبل كل شيء للحفاظ على هذا النظام. فطالما أن النظام القضائي يتطور في سياق رأسمالي، فمن المستحيل التخلص من طبيعته البرجوازية من خلال الإصلاحات. فعندما تدعو كرينشو إلى إنشاء فئة جديدة من الأقليات المحمية للنساء السود في نظام العدالة، يجب أن نأكد على أن هذا لن يغير بشكل أساسي الظروف المادية والاجتماعية التي تؤدي إلى التمييز المتعدد الذي تعاني منه تلك النساء في أماكن عملهن وفي المجتمع بشكل عام والتي تصفه كرينشو بدقة. فعلى الرغم من أن كتابات بعض النسويات التقاطعيات تحتوي على ملاحظات مثيرة للاهتمام حول تجربة التمييز المتعدد والعقبات التي يواجهها ضحاياها، يؤكد الماركسيون أنه يجب علينا تجاوز الملاحظة.

فمن الممكن إنشاء عدد لا حصر له من الفئات داخل نظام العدالة ليعكس جميع التقاطعات المحتملة للاضطهاد، ولكن، كماركسيين، يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا يوجد الاضطهاد، وكيف هل يمكننا القضاء عليه؟

الفكر والواقع الاجتماعي

في عام 2016، في مؤتمر بعنوان «التقاطعية عاجلة»، أكدت كرينشو أن نظام العدالة فشل في معالجة التمييز المزدوج في مكان العمل الذي تعاني منه النساء السود بسبب «مشكلة تحديد النطاق ووضع الأُطر المناسبة». بعبارة أخرى، إذا كان لدى القضاة أو الحكام إطار أفضل لفهم الاضطهاد وطبيعة التمييز المتعدد، فعندئذ لن يتم إهمال الأفراد أو الجماعات الذين يعانون من الاضطهاد المتداخل. تؤثر المواقف التمييزية للقضاة على قراراتهم القضائية، والتي لها بالتأكيد تداعيات وعواقب على حياة الجماعات المضطهدة وترسخ تهميشهم. ونرى أن الرجال والنساء السود هم أكثر استهدافًا لوحشية الشرطة، والشرطة القاتلة تتمتع بالإفلات من العقاب، وكثيرًا ما يسمح القضاة في الولايات المتحدة وكندا لمرتكبي الجرائم الجنسية من البيض طلقاء. فمن الأكيد أن القضاة يتصرفون وفقًا لمواقفهم التمييزية المقززة، وأن هذا يديم اضطهاد الجماعات المضطهدة في المجتمع. ولكن من أين تأتي هذه العقليات، وكيف يمكننا القضاء عليها؟

تعكس المواقف التمييزية للقضاة والحكام احتياجات النظام الرأسمالي. إن الدولة الرأسمالية ونظامها القضائي موجودان من أجل الحفاظ على هيمنة وأرباح الطبقة الرأسمالية. في ظل هذا النظام، حيث لا يتم انتخاب القضاة، لا يتم الوفاء بوعود الانتخابات أيضًا بمجرد وصول السياسيين المحترفين إلى السلطة ودون القدرة على إزالتهم، ويتم اتخاذ العديد من القرارات المهمة وراء أبواب مغلقة من قبل مسؤولين غير منتخبين (أي المصرفيين ورجال الأعمال). فنرى ألا توجد ديمقراطية حقيقية ولا توجد إمكانية لمحاسبة المسؤولين. كما أنه من الصعب للغاية إدانة أصحاب العمل بسبب ممارساتهم التمييزية، حيث إنهم يسيطرون على سبل حياتنا وليس لدينا أي سيطرة ديمقراطية على أماكن عملنا في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي. وعلى رغم من الممكن كسب دعاوى قضائية ضد التمييز بعد معركة صعبة، غالبًا ما يستغرق الأمر سنوات في المحكمة وتصرف مبالغ مالية فلكية، ونرى العديد من العوائق الأخرى التي تجعل من المستحيل خوض تلك المعركة القضائية من قبل العديد من العمال المضطهدين. ناهيك عن أن صاحب العمل يمكن أن يكون لديه دائمًا فريق محامين أفضل وأن النظام متحيز بالفعل لصالحه. وعندما يُعاقب رجال الأعمال بشكل فعّال، غالبًا ما يكون ذلك بغرامات بسيطة، في حين أن حياة أصحاب الشكوى قد دمرت.

لذلك، بينما تلعب العقليات دورًا خبيثًا في الحفاظ على الاضطهاد، إلا أن الأساس الاقتصادي والاجتماعي الذي بنيت عليه هذه المؤسسات هو العقبة الحقيقية التي يجب التغلب عليها في القضاء على الاضطهاد. وبعبارة أخرى، فإن الطبيعة الرأسمالية للمؤسسات هي السبب الجذري للمشكلة، وليس فقط عقلية ممثلين تلك المؤسسات.

لذا، بالنسبة للماركسيين، فإن المشكلة الأساسية ليست في «الإطار» أو الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الاضطهاد. تنبثق فكرة أن الفكر واللغة من القوى المسيطرة التي تقوم ببناء الواقع الاجتماعي من المثالية الفلسفية، بينما بالنسبة للماركسيين، فيرون التاريخ من وجهة نظر مادية ويوضحون أن الواقع الاجتماعي هو الذي يشكل الفكر. فنحن لا نأتي إلى العالم بأفكار جاهزة، وتلك التي نبلورها لا تسقط من السماء. إن ما نتعلمه والطريقة التي نرى بها العالم يتأثران بالظروف المادية والاجتماعية للعصر التاريخي الذي نجد أنفسنا فيه، وبنمط الإنتاج التي يشكل الأساس لتنظيم المجتمع. هذا لا يعني أن جميع أفكارنا أو كل عنصر من عناصر الثقافة هو نتاج مباشر للقاعدة الاقتصادية للمجتمع، بل بالأحرى أن القاعدة الاقتصادية تضع الأساس العام للآراء السائدة في عصر معين، وتفرض حدود معينة لتفكيرنا.

بالطبع، ليس فقط الأفراد في مواقع السلطة هم من ينقلون الأفكار التمييزية التي تخدم مصالحهم الضيقة، لأن يتم تنشئة العمال والفقراء اجتماعيًا لاعتماد هذه العقليات أيضًا. قالأفكار السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة السائدة، التي هي البرجوازية في ظل الرأسمالية.

تعتمد الطبقة الرأسمالية على المواقف التمييزية لأن ذلك يشجع انقسام الطبقة العاملة على أساس العرق واللغة والجنس والجندر والدين وخصائص أخرى. و لهذه الانقسامات عدة وظائف، مثل خلق ضغط هبوطي على الأجور وسباق نحو القاع بين العمال والدول المتنافسة، مما يمنع غالبية المستغَلين والمضطهَدين من الاتحاد ضد مضطهِدهم المشترك، البرجوازية. فتلك الأخيرة تمتلك وتسيطر على الوسائل الرئيسية لنشر الأفكار، مثل وسائل الإعلام السائدة وأدوات نشر الثقافة. كما يتم نشر أفكار الطبقة السائدة عن طريق المؤسسات الدينية ونظام التعليم والأسرة. إن مضمون تفكيرنا يتشكل من خلال هذه المؤسسات التي تعكس المجتمع الرأسمالي.

فالرأسمالية تجبر العمال على التنافس ضد بعضهم بعضًا بطرق شرسة وغير إنسانية، وهذا يشوه الطريقة التي نتصور بها أنفسنا والآخرين.

فالناس لا يولدون جشعين وكارهين من مختلف عنهم، ولكنهم يتعلمون ذلك في مجتمع فردي يضعنا ضد بعضنا البعض ويستخدم وسائل قوية لتقسيمنا ومنعنا من التوحيد. وبالتالي، فإن مهاجمة الطريقة التي نفكر بها دون تغيير الظروف المادية والاجتماعية التي تؤدي إلى السلوك التمييزي غير كافية لمكافحة الاضطهاد. إن التركيز على الفكر والأفكار دون ربطهم بأصلهم الاجتماعي والمادي يؤدي حتمًا إلى فهم فردي شخصي للاضطهاد، ويشتت انتباهنا عن جذوره الاقتصادية الهيكلية، ويقسم الحركة.

إن الأساس المادي لأي تقسيم اجتماعي هو الندرة، النقص. إن المجتمع القادر على توفير الوظائف الجيدة والإسكان والتعليم لجميع مواطنيه لن يحتاج إلى إلقاء اللوم على «الآخر» لعدم وجود سكن أو وظائف أو تعليم. على العكس ذلك، سيواجه المجتمع المأزوم انتشار هذه العقليات. فهم ماركس ذلك عندما شرح أن «الفقر العام يعيد الأفكار القديمة إلى الحياة».

لا يمكن القضاء على هذه العقليات بالكامل طالما استمر النقص والندرة. ولكن في ظل الرأسمالية، الندرة مصطنعة بالكامل، لأن وسائلنا الإنتاجية متطورة للغاية بحيث لدينا بالفعل ما يكفي من الثروة والموارد للجميع للتمتع بمستوى معيشي جيد. المشكلة في النظام الحالي هي أن أقلية صغيرة تحتكر غالبية الثروة بينما يضطر الباقون منا القتال من أجل الفتات. لهذا يدعو الماركسيون إلى مصادرة الطبقة الرأسمالية من أجل وضع كل هذه الثروة في خدمة الأغلبية والقضاء على الجذور المادية للانقسام والاضطهاد.

جذور الظلم: ذاتية أم موضوعية؟

غالبًا ما نجد في كتابات النسويات التقاطعيات إشارات إلى الاضطهاد «الهيكلي»، لكن هذا يفسر بطريقة مثالية وليست مادية. على سبيل المثال، فيما يتعلق بأشكال الاضطهاد المتعددة والمتقاطعة، تؤكد بيل هوكس:

بالنسبة لي، إنه مثل المنزل، يشتركون في الأساس، لكن الأساس هو المعتقدات الأيديولوجية التي تتمحور حولها الهيمنة.

أيضًا، تقول باتريشيا هيل كولينز:

يشمل التمكين رفض جوانب المعرفة، سواء كانت شخصية أو ثقافية أو مؤسسية، والتي تديم الموضوعية واللاإنسانية.

وبالتالي، فإنهن يرين أن جذور الاضطهاد تكمن في نظام المعتقدات في المجتمع، حيث تكون بعض الجماعات «أفضل» من الأخرى. فبالنسبة لهن، إنهاء الظلم والاضطهاد يعني رفض هذه المعتقدات. المشكلة الرئيسية لهذا الفكر هو أنه لا يفسر سبب وجود هذه المعتقدات، وبالتالي لا يمكن تفسير كيفية التخلص منها على نطاق واسع.

فإذا اعتقدنا أن رؤيتنا للواقع هي الهدف الأساسي للتغيير، فذلك يجعلنا نفترض أن الاضطهاد يتم إدامته في المقام الأول على المستوى الفردي أو الشخصي. وبالتالي، من وجهة النظر هذه، فإن أي شخص لا يعاني من اضطهاد معين يساهم في إدامته والاستفادة منه. نظرًا لوجود عدد لا نهائي من الاضطهادات المتداخلة، تفترض النظرية التقاطعية أننا نعمل جميعًا في شبكة من الاضطهاد التي لا نهاية لها حيث إن الجميع فيه يضطهِد ويُضطهد. فتصبح الطبقة العاملة العدو، وليس الطبقة الرأسمالية الحاكمة.

في حين أنه من الواضح أن المواقف والسلوكيات التمييزية ينقلها الأفراد ضمن ديناميكيات شخصية (ويجب إدانتهم ومكافحتهم من قبل الثوريين)، ولكن علينا أن نؤكد أن تلك المواقف لديهم أصول اجتماعية وتاريخية، وتترسخ في هياكل المجتمع الطبقي. وبنفس الطريقة، فإن الخصائص السائدة التي يتم تفضيلها بشكل منظم في مجتمع معين قد شهدت أيضًا تطورًا تاريخيًا. فمثلًا، تم تطوير «سيادة البيض» (white supremacism) والعنصرية، وهما ظاهرتان اجتماعيتان بطبيعتهما، من قبل الطبقات الحاكمة في الدول الاستعمارية الأوروبية من أجل تبرير فتوحاتهم الاستعمارية والعبودية، التي بنيت عليها الرأسمالية. أيضًا، إن اضطهاد المرأة لم يكن موجودًا دائمًا، ولكنه ظهر مع تقسيم المجتمع إلى طبقات وإقامة الزواج كمؤسسة للسيطرة على الحياة الجنسية للمرأة بهدف إثبات الأبوة لضمان إرث ممتلكات الأب لأولاده. تعكس المواقف العنصرية والتحيز الجنسي والذكورية هذه العمليات المادية والاجتماعية.

على الرغم من أن الأفراد هم الذين لديهم مواقف تمييزية وذكورية وعنصرية، والسلوكيات الناتجة عنهم يمكن أن تكون ضارة للغاية، فإن هذه الأفعال والعقول لا تفيد في نهاية المطاف إلا الطبقة الحاكمة المستغلة.

ومع ذلك، غالبًا ما يتم طرح مفهوم «الامتياز» داخل الحركة التقاطعية. وذلك يؤدي إلى الفكرة أن أولئك الذين ليسوا ضحايا لشكل من أشكال الاضطهاد لديهم مصلحة في الحفاظ على هذا الاضطهاد، أو لديهم مصلحة في المساهمة بنشاط في ذلك الاضطهاد من خلال التمتع بمزايا شخصية.

يتفق الماركسيون على أن الأشخاص الذين يعانون من اضطهادات متداخلة متعددة يواجهون حواجز اجتماعية وتمييزًا أكبر على أسس متعددة. ومع ذلك، فإن ما يوصف أحيانًا بالامتيازات، في رأينا، يجب أن يُنظر إليه على أنه من حقوق الإنسان وينبغي أن يتمتع به الجميع على قدم المساواة.

فيجب علينا أن نلغي النظام الذي يقسم الطبقة العاملة ويحرم الطبقات المضطهدة من هذه الحقوق، ويساهم في تقسيمنا بإجبارنا على النضال من أجل الفتات. فعلينا القول: «الحل ليس السباق إلى أسفل وأن نكون متساوين في فقرنا. يجب علينا أن نأخذ ما نحتاجه من الطبقة المستغلة والقمعية!».

إن اضطهاد جماعة يساعد في الحفاظ على النظام الرأسمالي الذي يستغل ويقمعنا ويضطهدنا جميعًا بطرق مختلفة. فليس من مصلحة أي عامل الحفاظ على اضطهاد مجموعة أخرى. للوهلة الأولى، يبدو أن بعض العمال يحصلون على امتيازات على حساب الآخرين وبالتالي يستفيدون من اضطهاد الآخرين. على سبيل المثال، من المعترف به أن الرجال يتقاضون أجوراً أكثر من النساء مقابل عمل متساو في جميع أنحاء العالم. ولكن لا بد أن نؤكد أن هناك ثروة كافية للجميع، لكن غالبية الثروة التي تنتجها الطبقة العاملة هي من نصيب الأقلية الحاكمة. فمن مصلحة الطبقة الرأسمالية أن تدفع أجوراً أقل أو ترسخ سياسيات تمييزية ضد النساء العاملات والمهاجرات والأقليات العرقية أو الجندرية، لأنه كما أوضحنا بالفعل، فإن هذا يضع ضغطًا هبوطيًا على جميع الأجور ويجبر طبقات معينة من الطبقة العاملة أن تكون أكثر «مرونة» ومتاحة للعمل غير المستقر.

يعارض الماركسيون بنشاط جميع أشكال الاضطهاد ولكن خصوصًا من خلال التجربة الملموسة للنضال، سيغير الأفراد أنفسهم، وتتحول أفكارهم نتيجة لذلك. إن ما يسمى بالعامل «ذي الامتيازات» الذي يديم المواقف التمييزية يساهم في الواقع في تخفيض أجره من خلال المنافسة إلى الانخفاض لأجور العمال الذين ينتمون إلى طبقات من العمال المضطهدين؛ هذه التصرفات تستاند في الفعل أرباب العمل والنظام الرأسمالي الذي يستغلنا ويضطهدنا جميعًا، نساء ورجالًا. العمال الذين لا يعانون من اضطهاد متعدد ومتقاطع لديهم الكثير ليخسروه من خلال إدامة اضطهاد الآخرين، لأنه لا يرسخ سوى استغلالهم الخاص. جميع العمال لديهم عالم يكسبونه من خلال الاتحاد في النضال من أجل الاشتراكية، الأمر الذي سيحسن بشكل كبير الظروف المعيشية للجميع.

ولكن، بدلاً من التضامن الطبقي، تعزز التقاطعية مفهوم «الحلفاء»، مما يوحي بأن القطاعات المختلفة من الطبقة العاملة والمضطهدين لها مصالح مختلفة ويجب أن يكون لكل منهم تنظيم منفصل خاص به. يناشد الماركسيون صراعًا مشتركًا قائمًا على مصالح العمال المشتركة، تنظمه الأحزاب العمالية والنقابات العمالية وينادون بصراع ضد كل أنواع الاضطهاد التي تُمارس على الرجال والنساء العاملون، وضد الاستغلال الطبقي. بعبارة أخرى، صراع ضد النظام الرأسمالي وكل ما يخلقه من أزمات أو اضطهادات.

إن خطر «السياسة المبنية على نظرية الامتياز» هو أنه يدفع المناضلين إلى محاولة إقناع أقسام معينة من الطبقة العاملة بأنه من مصلحتهم قمع أو اضطهاد طبقات أخرى من العمال، وبالتالي ليس للعمال نفس المصالح. بدلاً من توضيح سبب أهمية الاتحاد ضد الطبقة الرأسمالية. هذا في ملصحة الرأسماليين فقط، الذين يستغلون العنصرية والتمييز الجنسي وجميع أشكال الاضطهاد والتمييز الأخرى. ولكن عندما يتحد العمال «ذوو الامتيازات» والمظلومون والمضطهدون ضد رجال الأعمال ويطالبون بأجور متساوية وظروف عمل أفضل، فإن قوة هذه الوحدة تمكن جميع القطاعات من هز وتهديد الطبقة المستغلة.

تعمل الطبقات المضطهدة من الطبقة العاملة أيضًا ككبش فداء للطبقة السائدة. فعندما تكون الرأسمالية في أزمة، الطبقة السائدة وممثلوها داخل الدولة يلومون هذه المجموعة أو تلك المضطهدة أو المهمشة، ويحاولون تحريضنا ضد بعضنا البعض. عندما يكافح الناس من أجل البقاء ولا يتم تقديم حل من قبل اليسار، يمكن لهذه الأفكار أن تترسخ في المجتمع. لقد رأينا ذلك بوضوح في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، عندما استسلم بيرني ساندرز ودعم كلينتون، فأصبح دونالد ترامب قادرًا على الصعود إلى السلطة بإثارة المشاعر العنصرية وكراهية النساء وكراهية الأجانب في بعض طبقات الطبقة العاملة الذين رأوا في هيلاري كلينتون ممثلة الوضع الراهن والنظام (وهي بالفعل كذلك).

ومع ذلك، أشارت استطلاعات الرأي إلى أنه يمكن كسب جزء كبير من هذه الطبقة إلى اليسار وأنها مستعدة للنضال ضد «طبقة المليارديرات» بدلاً من استهداف الجماعات المظلومة ككبش فداء.

هذا مثال ملموس على قدرة هذه المواقف والأفكار التمييزية أن تترسخ في المجتمع الطبقي، التي تشتتد مع الندرة والفقر والإحباط من النظام الرأسمالي، خاصة عندما يفشل اليسار في تقديم بديل حقيقي موثوق.

فيمكننا أن نتصور بسهولة كيف هذه الأفكار التمييزية لن يكون لها جاذبية تذكر إذا كان بإمكان الجميع التمتع بمستوى عالٍ من المعيشة مع إتاحة فرص للجميع إلى التمكين والتعليم العالي ولحضانات للأطفال والرعاية الصحية، المواصلات، الإسكان، الثقافة، إلخ. سيكون من الصعب إلقاء اللوم على مجموعة معينة إذا كان الجميع متساوين في استخدام الموارد والفرص التي سوف تؤدي إلى ارتفاع مستوى المعيشة.
ومع ذلك، هذا غير ممكن في ظل الرأسمالية، التي تقوم على الإنتاج من أجل الربح بدلاً من الاحتياجات البشرية. فالمطلوب هو صراع طبقي موحد لتوحيد جميع طبقات المظلومين في النضال ضد النظام الرأسمالي الذي يستغلنا ويضطهدنا جميعًا.

الصراع الطبقي والصراع ضد الاضطهاد

يعترض الماركسيون على تقسيم الناس على أساس محاور مختلفة للإضطهاد ويؤكدون الحاجة إلى الوحدة. لا يمكن فهم نضال مجموعة مظلومة ومضطهدة معينة بمعزل عن أشكال الاضطهاد الأخرى والنظام الرأسمالي الذي يولدها. على الرغم من أن أتباع التقاطعية يعترضون على عزل الناس عن طريق محور واحد للإضطاد، فإن نتيجة نهجهم الذاتي هو عزل الناس وفقًا لعدد لا حصر له من التكوينات للاضطهاد والامتيازات المتعددة، دون قاسم مشترك عام. هذا ما تقترحه المنظرة النسوية التقاطعية والأستاذة باتريشيا هيل كولينز في كتابها «الفكر النسوي الأسود: المعرفة، الوعي، وسياسات التمكين» (Black Feminist Thought) (نُشر باللغة الإنجليزية عام 1990) ، عندما أكدت أن «مصفوفة الهيمنة العامة هي موطن لمجموعات متعددة، كل من تلك المجوعات تخضع لعقوبات وامتيازات مختلفة مما يؤدي إلى وجهات نظر جزئية، لا يوجد مجموعة لديها منظور واضح. لا توجد مجموعة لديها النظرية أو المنهجية التي تسمح لهم باكتشاف «الحقيقة» المطلقة».

هذا المنظور متشائم إلى حد ما، ويتركنا لأنفسنا مع حقائقنا الجزئية والذاتية، ولا شيء يفسر أصول الاضطهاد أو كيفية التغلب عليه مرة واحدة وإلى الأبد.

إنها وجهة نظر تقودنا إلى الفردية والتأمل البسيط بدلاً من النضال الجماعي لتحويل الواقع. فالعالم موجود بشكل ملموس، خارج أفكارنا ومشاعرنا. بالطبع فهمنا للعالم هو بالضرورة جزئي وفردي، لكنه لا يزال انعكاسًا لواقع موضوعي ويتم اختبار أفكارنا حول هذا الواقع باستمرار في الممارسة العملية.

إن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل الرأسمالية موجودة بموضوعية. إذا كنت لا تصدق ذلك، توقف عن العمل وعن دفع الإيجار، وانظر ماذا سيحدث! نظرًا لأن الغالبية منا تعيش في ظل الرأسمالية ويتم استغلالها من قبل رأس المال، فإن التحليل الطبقي يمثل أفضل «زاوية نظر» وأفضل أداة نظرية لتوحيدنا وتحريرنا.

وبينما تنظر التقاطعية إلى جميع أشكال الاضطهاد على أنها أساسية بنفس القدر، يشدد الماركسيون على أن الطبقة هي الخط الفاصل الأساسي في المجتمع الرأسمالي. يعتمد نمط الإنتاج الرأسمالي بشكل أساسي على استخراج فائض القيمة على حساب العمال من قبل أصحاب وسائل الإنتاج، الرأسماليين. هذا لا يعني أن الاستغلال الطبقي هو أسوأ أشكال الاضطهاد من حيث المعاناة، أو أن الطبقة العاملة تتفوق بطريقة ما على المجموعات المضطهدة الأخرى.

هذا يعني أنه ما دام أننا نعيش في مجتمع تستغل فيه الطبقة الطفيلية الحاكمة الأغلبية وتضطهدها، فلا يمكن أن تتحرر أي مجموعة مضطهدة حقًا، لأن عدم المساواة المنهجية ستظل موجودة دائمًا. فممثل عن الطبقة الحاكمة (وهي الأقلية في المجتمع)، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو التوجه الجنسي، سينتهي به الأمر إلى خدمة مصالح طبقته، وهي الطبقة التي تعتمد على انقسام واضطهانا جميعًا.

تمثل أرباح الطبقة الرأسمالية العمل غير المأجور للطبقة العاملة، والذي لا يتم دفعه مقابل القيمة الكاملة لعملها. هذا ما يسميه الماركسيون «الاستغلال الطبقي» – والمهم التأكيد على عدم الخلط بينه وبين «الطبقية» (classism)، التي تشير إلى التمييز ضد الفقراء الذين يُنظر إليهم على أنهم جزء من الطبقة الدنيا، بدلاً من اعتبار ذلك ضمن علاقات اقتصادية. الماركسيون معترفون بالدور المهم للتمييز والاضطهاد في دعم بنية النظام الرأسمالي، ولكن يؤكدون أيضًا أن الواقع الاقتصادي للاستغلال يضع العمال في وضع فريد يمكنهم به قلب النظام الرأسمالي، لأنهم هم من ينتجون كل ثروات المجتمع. علاوة على ذلك، على الرغم من عدم تعرض جميع العمال للاضطهاد المركب، فإن الغالبية العظمى من المضطهدين يتم استغلالهم كعمال أو غير ذلك من انخفاض الأجور، أو كعاطلين عن العمل، أو كخاضعين للعبودية الحديثة. وهذا يجعل من الاستغلال الطبقي العامل الموحِّد لجميع المضطهدين. تضم الطبقة العاملة الغالبية العظمى من طبقات المجتمع المضطهدة ، والصراع الطبقي هو بالتحديد الذي يمكن أن يوحد كل طبقات المضطهدين ضد عدونا المشترك، الطبقة المستغِلة، وفي هذه العملية يمكن تدمير الأفكار والمواقف التمييزية.

لكن، لسوء الحظ، فشل معظم قادة الحركات الطلابية والعمالية في تنظيم صراع طبقي يمكن أن يوحد كل المضطهدين. في الوقت نفسه، غالبًا ما تبنت هذه البيروقراطيات لغة التقاطعية لإخفاء حقيقة أنها لا تناضل بأي حال من الأحوال من أجل إصلاحات جادة لتحسين حياة الطلاب والعمال. أيضًا، يتم تطبيق السياسات الرمزية مثل التكافؤ بين الجنسين وسياسة الكوتا القائمة على الهوية دون اعتبار للمنظور الطبقي. لكن، في الواقع، تؤدي هذه السياسات فقط إلى تحسين وضع حفنة من البيروقراطيين الذين يرفضون الانخراط في النضال من أجل ظروف من شأنها أن تخفف من القهر والاضطهاد واستغلال غالبية المجتمع.

تستخدم الطبقة الحاكمة أساليب مماثلة في محاولة لاسترضاء المظلومين مع ترك نظام الاضطهاد والاستغلال سليمًا تمامًا. لكي تكون مقتنعًا، عليك فقط إلقاء نظرة على المواقع الإلكترونية للبنوك الكبرى، حيث يتباهون بتنوع موظفيهم.

ولكن، تمثيل المجموعات المضطهدة في البنوك والشركات الكبرى لا يغير واقع غالبية الطبقات المضطهدة من الطبقة العاملة، إذا لم تتغير الظروف المادية التي تولد الاضطهاد. أيضًا، التمثيل للجماعات المضطهدة في اتحادات الطلاب والعمالية فقط لن يحدث التغيير.

الفكرة وراء «التمثيل» هي أنه لو كان هناك المزيد من الأفراد المضطهدين في المناصب القيادية (كممثلين في المنظمات الطلابية والعمالية، في الانتخابات، كرؤساء تنفيذيين أو مديرين لشركات في الصناعة في القطاع الخاص)، سيساعد ذلك في القضاء على قمعهم واضطهادهم أو تقليله.

ومع ذلك، من المهم أن نفهم أن الجماعات الأقلية المضطهدة ليست مضطهدة لأن تمثيلها قليل، إنهم ممثلون تمثيلًا قليلًا بسبب الاضطهاد المنهجي الذي يخلق حواجز أمام مشاركتهم في الحياة العامة والسياسة. فأفضل طريقة لتحقيق تمثيل حقيقي للجماعات المضطهدة داخل الحركة هو بناء منظمات قتالية ونضالية يمكنها أن تبدأ بفعالية في إزالة هذه العقبات من خلال النضال لإنهاء هذه الظلم والاضطهادة. وهذا من شأنه أن يشجع شرائح واسعة من الجماعات المهمشة والمضطهدة تاريخياً، وأن يلهمهم التوحد والسعي للتغلب على العقبات المنهجية التي قوضت مشاركتهم في السياسة والحياة العامة.

سيشجع مثل هذا النضال على تطوير قيادة حقيقية آتية من الأسفل، بدلاً من الإجراءات الرمزية الآتية من الأعلى. فتهدف الاشتراكية على وجه التحديد إلى جلب جميع طبقات المستغَلين والمضطهدين إلى النضال من أجل عالم أفضل. فيجب علينا انتخاب ممثلينا لأفكارهم السياسية وقدرتهم على قيادة نضال حقيقي.

لم يؤد انتخاب نساء مثل مارجريت ثاتشر وأنجيلا ميركل وتيريزا ماي وهيلاري كلينتون إلى أعلى المناصب السياسية إلى تعزيز قضية تحرير المرأة، وقد شن الثوار حملة نشطة ضدهن، واستمروا في حملتهم ضدهن. نفس الشيء يمكن رؤيته مع مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، كمثال واحد فقط من بين أمثلة عديدة. وبالمثل، استمرت الظروف المعيشية للأمريكيين السود في التدهور في عهد أوباما. بصفتنا ثوارًا، سندعم سياسيًا يساريًا ضد كل هؤلاء الأشخاص، بغض النظر عن ميولهم الجنسية أو جنسهم أو عرقهم أو الإثنية.

ففكرة التمثيل هو أداة قوية في أيدي الطبقة الحاكمة، التي تستخدمها لتشجيع الناس على دعم القادة الذين يمثلون مصالح الرأسمالية بسبب عرقهم، وميولهم الجنسية، والجندر، وما إلى ذلك، بدلاً من انتخاب هؤلاء القادة على أسس مصالح طبقية.

ونرى حتى أن أعضاء الطبقة الحاكمة مثل هيلاري كلينتون قد تبنوا لغة التقاطعية لكسب تأييد سياسي. أدانت كرينشو وغيرها من أتباع التقاطعية هذه الانتهازية، وهذا جيد جدًا، وأشاروا إلى أنه أن فئة «المرأة» ليست متجانسة، وأن هيلاري لا تمثل مصالح جميع النساء، بسبب سياساتها الإمبريالية.

ومع ذلك، فإن التقاطعية لا تعالج جذر الاضطهاد وهذا يعني أنه في النهاية، لا تشكل تلك النظرية تهديدًا للطبقة الرأسمالية وحلفائها الإصلاحيين، ولهذا السبب من السهل جدًا أن يتبنوا لغتها ليعطوا لأنفسهم صورة تقدمية. فالتأكيد على وجود أشكال متقاطعة مختلفة من الاضطهاد لا يهدد الطبقة الحاكمة، طالما يتجنب المرء السؤال عن سبب وجود هذا الاضطهاد ولمصلحة من. عدم تبني هيلاري كلينتون وأمثالها خطابًا ماركسيًا يؤكد ضرورة توحد الطبقات المضطهدة في الصراع الطبقي والإطاحة بالرأسمالية!

إصلاح أم ثورة؟

هل يعني هذا أن الماركسيين يزعمون أن الأفراد أو الجماعات الذين يعانون من الاضطهاد المختلف عليهم أن يضعوا نضالاتهم في الخلف باسم الصراع الطبقي، وأنه لا يمكن فعل أي شيء لمكافحة أو تخفيف الاضطهادات المختلفة إلا بعد قدوم الثورة الاشتراكية؟

على الإطلاق. فيعارض الماركسيون بشدة جميع أشكال الاضطهاد والتمييز هنا والآن، ويحاربون بكل قوة المواقف التمييزية والانقسامية داخل الحركة السياسية، لأنها لا يمكن أن تفيد إلا الطبقة رأسمالية. يؤكد أيضًا الماركسيون أنه لا يمكننا تغيير الأفكار على نطاق واسع دون القضاء على أساسها المادي، أي الندرة والمنافسة. ولهذا السبب – من بين أسباب أخرى – يشارك الماركسيون في النضال اليومي من أجل الإصلاح ويربطون هذا النضال بالحاجة إلى الاشتراكية.

نظرًا لأن الإصلاحات لا يتم تقديمها بشكل طوعي أبدًا ودون نضال ضد الطبقة الحاكمة، فإن أفضل طريقة للفوز بالإصلاحات هي من خلال العمل الجماهيري الجذري من الأسفل الذي يلهم الخوف من الثورة للرؤساء والسياسيين. إن النضال ضد الاضطهاد ومن أجل أي إصلاح يخفف هذا الاضطهاد يجب ألا يقتصر فقط على أكتاف المجموعة التي تعاني من هذا الاضطهاد أو ذلك التمييز، بل يجب أن تشمل الطبقة العاملة بأكملها وجميع المجموعات المضطهدة. فلدى الرجال والعاملين الغيرين مصلحة راسخة في الدفاع عن حقوق المرأة و الـLGBTQ، ويجب على العمال البيض الانضمام إلى الكفاح ضد العنصرية، وما إلى ذلك.

تكمن قوتنا في وحدتنا، وانتصار طبقة واحدة من الطبقة العاملة هو انتصار للطبقة بأسرها ولكل المضطهدين.

من خلال الصراع الطبقي الموحد تبدأ الجماهير في رؤية قوتها ورؤية حدود الرأسمالية وحدود ما يمكن لهذا النظام الاقتصادي تقديمه لهم في تحسين ظروفهم المعيشية. إذا نظرنا حول العالم اليوم، فمن الواضح أن الإصلاحات الجديدة ليست هي القاعدة. على العكس من ذلك، يجب على العمال والمضطهدين في كل مكان النضال من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية والمزايا الاجتماعية التي حصلوا عليها في الفترة السابقة. لذا، بينما نناضل من أجل الإصلاحات التي من شأنها أن تخفف من الاضطهاد وتحسن ظروف المعيشة وظروف العمل للطبقة العاملة، فعلينا أن نشرح بأنه لا يمكن ترسيخ أي إصلاح في ظل الرأسمالية المأزومة. من أجل الحصول على تحسينات دائمة، يجب أن ندمجها مع النضال من أجل التحول الاشتراكي للمجتمع.

فعندما تتعرض الأرباح للتهديد وتدخل الرأسمالية في أزمة، لا يتردد الرؤساء والمصرفيون وأصدقاؤهم في الدولة في استعادة ما فزناه ذات مرة من خلال الصراع. كما أنه من الممكن أن تزيد العنصرية وأشكال أخرى من التحيز. يمكننا أن نلاحظ استهداف الشعبويين اليمينيين وجزء من وسائل الإعلام بعض الجماعات المضطهدة ويلومونها على تخفيضات الأجور وإجراءات التقشف.

الطريقة الوحيدة للدفاع عن مكتسبات الماضي، ومحاربة المواقف الاضطهادية اليوم والتحرك نحو مجتمع قائم على المساواة حقًا هي إنهاء الإنتاج من أجل الربح بحيث يمكن استخدام الثروة والموارد الهائلة الموجودة بشكل ديمقراطي لمصلحة الأغلبية.

التحول الثوري للمجتمع

هذا لا يعني أن المواقف التمييزية ستختفي بين عشية وضحاها بعد الثورة الاشتراكية. الاضطهاد بجميع أشكاله موجود منذ أجيال، وفي بعض الحالات لآلاف السنين، وترك بصمة عميقة على الوعي البشري. ومع ذلك، فإن الحركات الجماهيرية لها تأثير عميق على الوعي. فيبدأ الأشخاص الذين يشاركون في الحياة العامة يرون أن هناك رؤية مشتركة توحدهم مع بعضهم البعض، بدلاً من رؤية تفرقهم بعضهم البعض وتعتبرهم منافسين. فمن الصعب للغاية الحفاظ على المواقف التمييزية تجاه النساء أو المهاجرين أو أفراد مجتمع الميم عندما يكونون في الشوارع يقاتلون من أجل نفس الشيء مثلك. فخلال الإضرابات، يتضح للعمال أنه ليس لديهم مصلحة في التمييز ضد بعضهم البعض، لأن هذا يضر فقط بالإضراب. في حركة جماهيرية، يأتي المشاركون في تلك الحركة إلى هذا الوعي على نطاق واسع.

ومن الأمثلة الحديثة والقوية هو مثال الثورة المصرية عام 2011 التي أطاحت بحسني مبارك. ففي حين عانت النساء في مصر تاريخيًا معدلات عالية من التمييز والعنف، ووقع المسلمون والمسيحيون في صراع عنيف لعقود من الزمن، فقد انتقل الرجال والنساء من جميع الأديان إلى ميدان التحرير. لقد انهارت العقليات التمييزية والنمطية تجاه الجماعات المضطهدة من خلال النضال ضد المستغِل. على الرغم من أن الثورة المصرية لم تطح بالرأسمالية بعد، فإن هذه لمحة عما يمكن تعميمه على نطاق واسع من خلال ثورة اشتراكية وجهد جماعي لبناء مجتمع جديد.

فمن خلال تحويل الأسس الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بشكل جذري على أسس اشتراكية، سيتم القضاء على الجذور الهيكلية والاقتصادية للاضطهاد. ودون طبقة أقلية مستغلة تنتج من أجل الربح، لن يكون هناك دافع اجتماعي أو مادي لتقسيم الأغلبية حسب الجنس أو «الجندر» أو التوجه الجنسي أو المهارة أو العرق أو اللغة أو الدين أو أي فئة أخرى. عندما لا نضطر إلى التنافس على الوظائف والتعليم ومساحات رعاية الأطفال والغذاء والمياه والسكن الميسور التكلفة، ستتغير العلاقات الاجتماعية بشكل أساسي.

يمكن لقادة منتخبين ديمقراطيًا والخاضعين للمساءلة في أماكن العمل لدينا، إضافة إلى الرقابة الديمقراطية على عملية التوظيف، منع الممارسات التمييزية في أماكن العمل. إن الملكية الديمقراطية والسيطرة الديمقراطية على وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية ستقطع شوطًا طويلاً في مكافحة العقليات التمييزية في المجتمع وتضمن أن يتم تدريس التنوع البشري الرائع والاحتفاء به. إن التغيير في الأسس الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع من شأنه أن يسمح بتغيير عميق في النظرة إلى العالم وعقليات الجماهير.

غالبًا ما يُتهم الماركسيون بأن لديهم حلًا جاهزًا من أعلى إلى أسفل يصلح للجميع. في الواقع، الثورة الاشتراكية هي أن تأخذ الجماهير العادية مصيرها بأيديهم وأن تبني مجتمعًا جديدًا لأنفسها. يريد الماركسيون توجيه الجماهير نحو الإطاحة بالرأسمالية وإقامة مجتمع اشتراكي، وبالتالي خلق الأسس الاقتصادية والاجتماعية حيث لن يكون لعدم المساواة والاضطهاد والاستغلال أساس مادي. على هذا الأساس، ستتاح للمجموعات المضطهدة تاريخيًا الفرص والموارد لتلبية احتياجاتها الفريدة.

فعلى أساس المساواة الاجتماعية الحقيقية، يمكن للناس أن يبدأوا في الارتباط ببعضهم البعض على أساس إنساني حقيقي من خلال بناء مجتمع جديد، وسيصبح الوعي الجماعي الجديد ممكنًا.