في النصف الثاني من القرن العشرين استحوذ مفهوم «الحدث» على اهتمام فلسفي وتاريخي خاص، فماذا نعني بقولنا «حدث تاريخي»؟

يصف آلان باديو، وهو الفيلسوف الأكثر اهتمامًا بالمفهوم، «الحدث التاريخي» بأنه لحظة لا تخضع للحسابات، فهو كلحظة الوقوع في الحب في الروايات الرمانسية، أو الاختراع في العلوم التقنية، أو الثورة في السياسة. لا يمكن استيعاب حدث ما بهذا المعنى داخل خطة مؤسسية أو وضع روتيني طبيعي، بقدر ما يعبر هذا الحدث عن لحظة انبثاق استثنائية وفريدة تلغي ما كان سائدًا وروتينيًا ومألوفًا.

الأحداث التاريخية أيضًا مراوغة بطبعها كما يقول ميشيل فوكو، لأننا لا يمكن أن نكون خارج الحدث بشكل كامل حتى نحكم عليه بشكل كلي ونهائي، وهنا تكمن مراوغة الحدث، فهو دائمًا مُتجدد بتجدد تأثيره داخل التاريخ وبتجدد مواقعنا نحن أيضًا داخل التاريخ، وهكذا فإن حُكمنا عليه يظل مُشتتًا وغير نهائي.

كيف يمكننا اليوم إذن أن نتعاطى مع «مايو 68» الذي يمكن أن يوصف بأنه أهم ثورة ثقافية في العصر الحديث، ضمن معطيات زماننا القائم؟


عالم ما بعد الحرب.. جيل من الحالمين

إن الثورة التي بدأت لم تطرح التساؤل على المجتمع الرأسمالي فقط، بل على المجتمع الصناعي أيضًا. إن مجتمع الاستهلاك يجب أن يَئول إلى الهلاك ويموت ميتة عنيفة، إنه مجتمع غربة الإنسان لذا يجب أن يزول من التاريخ لأننا نريد أن نصنع عالمًا جديدًا أصيلًا، نريد مجتمعًا جديدًا كليًا، إننا لا نعرف أي نوع من المجتمعات هو، ولكننا نتلمسه كلما حثثنا السيّر في ثورتنا.
زعيم طلابي فرنسي، مايو 68

أطلق المخرج الإيطالي الشهير برناردو بيرلوتشي على فيلمه عن «مايو 68» «الحالمون The Dreamers». نرى خلال أحداث الفيلم ثلاثة شبان مُنعزلين عن العالم، يعيشون داخل حياة سينمائية جميلة مُلونة، يمارسون بأنفسهم أدوار بطولتها، يختارون تفاصيلها بجرأة وشغف دون وصاية من أحد، حياة غير نمطية مفتوحة على كل الاحتمالات والتجارب، يختفي فيها الفرق بين ما هو واقعي وما هو خيالي، يخوضون خلالها كل التجارب والمغامرات التي تخطر ببالهم، يُعلون فيها من شأن كل ما هو جمالي وفرداني وجديد، على حساب ما هو موروث وعام وباهت وغير شخصي.

حيث كان العالم – وأوروبا بصفة خاصة في الستينيات – عالمًا باهتًا كئيبًا مُنهكًا من فظاعات الحرب العالمية الثانية ومن تأثير فترة استعمارية عريضة امتدت لقرون شملت أغلب أنحاء العالم تقريبًا. وكان جيل الشباب الذي تَشكل وعيه بالعالم بعد الحرب يرى نفس الأجيال التي قادت العالم إلى حرب مُدمرة في السابق وهو يتسابق في التسليح النووي ويرتكب المذابح ضد الشعوب الثائرة من أجل استقلالها الوطني خارج أوروبا (في فيتنام وفلسطين والجزائر وغيرها)، ويمارس العنصرية على أساس اللون والدين، ويتملّكه الخوف المرضي من الآخر، وكانت كل هذه الممارسات تتم بإشراف مؤسسات عقلانية حداثية وبمبرّرات خطابية تتحدث عن المجتمع الأخلاقي والمثالي.

عبّرت فلورنس جوتييه، من طلاب مايو 68، عن ذلك بقولها:

أدركت أن القهر كان في المكسيك والاتحاد السوفيتي وفيتنام والولايات المتحدة وكل مكان… وسرعان ما تناثرت الأفكار الجامدة بفعل نار النقاشات، فأية معجزة حدثت في 68؟ لقد صار كل شيء منفتحًا وجديدًا، فبعد الاستنكار والخوف وأثناء الثورة بدأت أحب عائلتي الإنسانية المختلفة والمتباينة التي لم أكن بحاجة لأنتمي لشيء آخر سواها.

من المفارقات الدالة هنا أن حراك مايو 68 بدأ بحوادث صغيرة جدًا مقارنة بالشعارت التي رُفعت بعد ذلك. ففي إحدى الليالي الباردة في يناير/كانون الثاني 68، في جامعة نانتير الفرنسية، سأل الطالب دانييل كوهين بندت، الفرنسي من أصل يهودي، الوزير الذي أتى في زيارة رسمية إلى الجامعة، عن قداحة لإشعال لفافة تبغ يدخنها. لم يكن التمرد واردًا في الحسبان أبدًا في عقل الطالب الفرنسي الذي تصرّف بشكل عفوي بعدما رأى القداحة في يد الشخص المعني، مما أربك الوفد الرسمي للدولة. إلا أن رد فعل الوزير والوفد المصاحب له حينما حاولوا إبعاد الطالب كان دافعًا لتطور النقاش أكثر، حيث سَأل الطالبُ الوزيرَ عن مشاكل الشباب الجنسية، فرد عليه الوزير بأن يقذف نفسه داخل الماء البارد، وأن مشاكل الشباب الجنسية لا تعني وزير الشباب في شيء!

تطوّر هذا الحادث الصغير على الرغم من تقديم الطالب دانييل كوهين اعتذارًا مكتوبًا إلى الوزير خشية الفصل من الجامعة، ليتحول إلى أوسع حراك احتجاجي شبابي تشهده أوروبا والولايات المتحدة والعديد من دول العالم، وأكبر إضراب عُمالي تشهده فرنسا طوال تاريخها الحديث.

يذهب آلان تورين في كتابه «نقد الحداثة» إلى أن الحداثة كصيرورة دمج للناس داخل النظام لها ثلاث موجات رئيسية إدماجية كبرى: دمج أرستقراطي في القرن الثامن عشر، وبرجوازي في القرن التاسع عشر، وشعبي في القرن العشرين. يضيف بول ريكور على هذا في تحليله لحراك مايو 68 الذي عاينه عن قرب أن بنية السلطة و الإقصاء كانت أوضح ما يكون في الجامعة بالنسبة للطلاب في حقبة ما بعد الحرب:

إنّ العُنصر المشترك الوحيد بين الحراك المختلف في كل تلك المُدن، فيما يبدو لي، هو النمو الديمغرافي السريع غير المتحكَّم فيه من قِبَل مؤسسة كانت نخبوية برجوازية في الأصل، فوجدت نفسها، بسرعة فائقة، مُلزَمة بالخضوع لتوجه أكثر شعبية، مع أنّها ظلت عاجزة عن ملاءمة بنيتها النخبوية مع وظيفتها الجديدة المتمثلة في نشر عام للمعرفة بشكل متساوٍ وغير منحاز لمصالح فئة أو طبقة بعينها، وهو ما شعر الطلاب أنه غير موجود.

هذا مادفع سوفاجو رئيس اتحاد الطلاب الفرنسي إلى القول: «إن ثورة الطلاب هي ثورة مزدوجة: ثورة على الجامعة، وثورة على المجتمع الذي خلق الجامعة».

لا شكّ أنّ الحدث – كما يوضح جيل دولوز – كان يشبه الجذمور الذي ينتشر بسرعة بين الأشجار دون أن يكون محكومًا بمركز ما [الجذمور هو ساق تنتشر عبرها النباتات أفقيًا دون أن يكون لها جذر محدد في الأرض].

انتشرت أخبار الحراك الطلابي في باريس، أولًا إلى ألمانيا الغربية ثم براغ وستوكهولم وميكسيكو سيتي وبيونس آيريس، فالولايات المتحدة والصين وطوكيو. خرج الطلاب الغاضبون من سُلطوية المؤسسة التعليمية الجامعية ليُسائلوا عالم ما بعد الحرب؛ هذا العالم الذي كان يبدو قبل مايو 68 راسخًا إلى أبعد الحدود. فجأة، اشتعل هذا العالم بالحلم والثورة، وكان الطلاب هم النار والنور لهذا الحلم. التحموا بالشارع فانطلق صوت جيل جديد يعلن رفضه لكل شيء: الاستبداد، العنصرية، قهر الأقليات، الدولة البوليسية، توحش رأس المال، النفاق الأخلاقي البرجوازي، الجمود الأيديولوجي، هيمنة النزعة التكنوقراطية على الحياة، حتى الملل والاغتراب في حياة الإنسان أرجع الطلاب سببه لطبيعة المجتمع الصناعي وثاروا عليه.


رفض اليوتوبيا والاضطرار إليها

الملل هو الثورة المضادة.
أحد الشعارات التي رفعها الطلاب في حراك 68
إن الحركة التي حدثت في مايو 1968 كانت حركة عالمية، وعملية تحديث للمجتمع يقودها جيل ما بعد الحرب . فهذا الجيل رأى أن الذين عاشوا الحرب لديهم رؤية منغلقة بالكامل بالنسبة للعالم والمجتمع والأخلاق، منغلقة لدرجة العجز عن طرح المستقبل، ولهذا السبب الوحيد حدث الانفجار… كنا نقول في مايو 1968 إن المستقبل ملك لنا، فنحن أفضل بكثير من الجيل السابق، وما يزعجنا هو عدم فهمه لأي شيء… كنا نقول اتركونا نقوم بعمل الأشياء، اتركونا نصوغها وسيكون ذلك أفضل. وبالطبع في إطار هذه الطريقة لرؤية الأشياء، لم يكن المستقبل يخيفنا.
دانييل كوهين بندت

في أحد الحوارات الكاشفة في فيلم «الحالمون The Dreamers»، يظهر الصراع المُتمثل بين الأبناء من جيل الستينيات وجيل الآباء. يسخر الأب من نزعة الشباب لاستخدام الفن والاحتجاجات ليس لاستفزاز المجتمع فقط، ويردف ساخرًا، ولكن «لتغييره». فيجيب الابن مستغربًا: «ألا ينبغى أن نفعل شيئًا والسلطة تحاصر الفنانين والمثقفين، والمهاجرون يتم نفيهم، والشرطة تعتدي على الطلاب». يستدرك الأب قائلًا: «لا تفهمنى خطأ، أنا أقول إنه قبل أن تسعى لتغيير العالم، ينبغي أن تدرك أنك أنت أيضًا جزء منه، لن يمكنك أن تقف بعيدًا وتنظر إليه من الخارج».

اعتبر الطلاب ثورة مايو 68 ثورة جذرية على الأنظمة التقليدية كالرأسمالية والشيوعية،حيث كتب هربرت ماركيوز صاحب التأثير الكبير في الحركة:

الطلاب نبض هذا العصر، تخفق في صدورهم أزمته، ويجأرون بالشكوى من دولهم التي لم تعد تفهم من الحرية إلا شعاراتها، كما يجأرون من التفاهة التي أصبحت تسود حياتهم وحياة الإنسان عامة، سواء الذي يعيش في ظل مجتمع رأسمالي أو دولة الرفاهية، أو الشمولية الشيوعية، لأن النظريات التقليدية لم تعد قادرة على تبرير نفسها إزاء المنطق الثوري لهذا الجيل، ولم يعد هذا الجيل مستسلمًا للفرضيات الطبيعية أو القيم التاريخية، لأن منطقه الرفض، وأحلامه الثورة، وإمكانياته الثقافة والوعي.

فالثورة في نظر الطلاب أيضًا ليست مرحلة، ولا هي تعبير عن أهداف سياسية أو ثقافية، وإنما ثورة على النظام، وعلى الدولة، وعلى الحياة بشكلها القائم، فإذا كانت واجهة الغضب سياسية أو ثقافية فهي في مضمونها حياتية قبل كل شيء.

رفضت حركة 68 الأيديولوجيات الطوباوية، لكنها خلقت مدينتها الفاضلة الخاصة بها، وحاولت تجسيدها في حراكها على الأرض دون تكلف عناء تكوين نظرية عنها. آمنت حركة مايو 68 أن الحياة أسمى النظريات والأيديولوجيات، أسمى من اللغة. يقول رينييه فينييت عن مايو 68:

خلال ثورة 68، ألقى ملايين الناس عن كاهلهم عبء الشروط المُستلبة، وروتين البقاء، والتزييف الأيديولوجي وعالم الاستعراض المقلوب وتقييد الجنس بالإنتاج والمجتمع. منح الحراك أخيرًا إجازات حقيقية لأناس لم يعرفوا سوى أيام العمل وتصاريح الغياب، ذاب الهرم الهيراركي مثل كومة سكر تحت شمس مايو، كانت الشوارع تخص أولئك الذين يحفرونها بحثًا عن الشاطئ تحتها.


ماذا تبقى؟

لقد تبادل الناس الحديث كما لم يفعلوا أبدًا من قبل. تفجرت الأذهان بحياة ملونة بإبداعية ذاتية أصيلة تجلّت في كل مكان: الشعارات، اللغة، السلوك والتكتيكات، وتقنيات قتال الشوارع، والتحريض، والأغنيات والمجلات الكوميدية المصورة. هكذا كان بإمكان الجميع قياس كمية الطاقة الإبداعية التي جرى سحقها خلال زمن البقاء، خلال الأيام المحكوم عليها بالإنتاج والتسوق، والتليفزيون، وبالسلبية التي رفعت إلى مرتبة المبدأ .. لقد جربوا الحياة دون وقت ميت،البهجة العظيمة، تلك البهجة في عيون وعلى شفاه كل أولئك الذين كانوا يُحدثون بعضهم للمرة الأولى.

بالعودة إلى مفهوم «الحدث»، كان طبيعيًا أن يختلف المؤرخون والتحليلات حول حقيقة ما حدث في مايو 68.،يذهب مثلًا الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى اعتبار أحداث هذا العام التعبير التاريخي عن الانتقال من حقبة الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

على ناحية أخرى يذهب الأكاديمي الماركسي البارز ديفيد هارفي إلى أن الليبرالية الجديدة أجادت توظيف هذا الحراك والثقافة السياسية والاجتماعية التي نتجت عنه لترويج التنافر البنيوي بين الفرد والمجتمع، أو بين مفاهيم الحرية الفردية والهوية الشخصية من ناحية ومفهوم العدالة الاجتماعية والبيئية والتضامن والتكافل الاجتماعي من ناحية أخري، بما يخدم مصالح الأجندة الأيديولوجية لليبرالية الجديدة على حساب أهداف مايو 68 التي رُفعت ضد توحش رأس المال وضد توحش البيروقراطية كذلك.

بعد مرور خمسين عامًا على انتفاضة مايو 68 جرت مياه كثيرة تحت الجسر بلا شك، وما زال السؤال عما كان في هذا العام موضع خلاف قائم حتى الآن. والسؤال عما تبقى من هذا العام مثار جدل لا ينتهي. وحده ذلك العدد الهائل من الأسماء المنتشرة لهذا الحدث هو مؤشر على قيمة انتفاضة 68 كحدث تاريخي من الصعب وصفه باسم واحد ليظل الحكم عليه مُشتتًا وغير نهائي: الحركة الطلابية، ثورة الأجيال، حركة إصلاح أسلوب الحياة، ثورة ما بعد البنيوية، الثورة الثقافية. فكل من تلك الأسماء له مبررات، فلا تفسير نهائي لحدث تاريخي كمايو 68،بل هو حدث ما زال يتفاعل مع الحاضر أكثر مما يمكث بشكل سكوني في الماضي.

المراجع
  1. 1968 الثوار الشباب «موجة تمرد عالمية»، نوربرت فراي، ترجمة: عُلا عادل، دار صفصافة.
  2. تناقضات الحدث: ماذا تبقى اليوم من حدث آيار/ماي 68؟، د. خالد طحطح، مؤمنون بلا حدود.
  3. ثورة مايو 68: تحت أحجار الرصف، الشاطئ، أمين حمزاوي، إضاءات.
  4. حوار مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور «من فالانس إلى نانتير»، حاوره: فرنسوا أزوفي ومارك دولوني، ترجمة: حسن العمراني، مركز مؤمنون بلا حدود.