في أيار/مايو 1968، عشرة ملايين عامل وآلاف الطلبة يشعلون فتيل الثورة، أكبر إضراب عام في التاريخ الفرنسي، لقد جرجر الفرنسيون أحلامهم إلى الشارع ليحققوها.

لم تكن أحداث مايو الشهيرة مجرد تمرد طلابي محدود بمطالب تقليدية – باستثناء بداية الأحداث- لقد أكدوا إمكانية الثورة الشاملة ضمن عالم الرأسمالية البيروقراطية الحديثة، مُطالِبين بعالم تتحقق فيه الحياة اليومية بعيدًا عن شروط الاستلاب الحديث والتمثيل السلعي الاستعراضي للخبرات، كانت الخبرة الحقيقية المعيشة مطلبهم الأول.

لأسابيع معدودة أصبح الفن -الذي كان تخصصًا- ملكًا للجميع، ودبَت الحياة من جديد في عروق التواصل البشري الذي قتلته التعبيرات التمثلية الاستعراضية.

لقد تضامن الجميع ضد العمل القسري؛ ومن أجل إنقاذ الحياة اليومية من بشاعة العقل المحض الذي أودى بها إلى مقبرة الأداتية المفرطة، لقد حَوَلوا الحياة من الحديث الممل عن عمل الأشياء إلى الاستمتاع بالأشياء، من التمثيلي إلى الواقعي المفعم باللذة الشعرية للعالم الذي كان مخبأ خلف الاستعراض، لقد استعادوا الوقت الذي كان يضيع في المصانع و المكاتب وأمام التليفزيون.

ولأن إلحاح الذهاب إلى أي مكان قد توقف فقد تجولوا في الشوارع بلا وجهة، اكتشفوا أقدامهم وهي تطير فوق أرصفة باريس، اكتشفوا ألسنتهم وهي تنطق شعرا متدفقا يبرز متعة التواصل الإنساني، صارت الحياة مقطوعة سوريالية لطيفة، لقد استعادوا التواصل.

«تبادلوا الحديث كما لم يفعلوا أبدا من قبل»، تفجرت الأذهان بحياة ملونة بإبداعية ذاتية أصيلة تجلت في كل مكان: الشعارات، اللغة، السلوك والتكتيكات، وتقنيات قتال الشوارع، والتحريض، والأغنيات والمجلات الكوميدية المصورة، هكذا كان بإمكان الجميع قياس كمية الطاقة الإبداعية التي جرى سحقها خلال زمن البقاء، خلال الأيام المحكوم عليها بالإنتاج والتسوق، والتليفزيون، وبالسلبية التي رفعت إلى مرتبة المبدأ [1].

لقد جربوا الحياة دون وقت ميت، «البهجة العظيمة، تلك البهجة في عيون وعلى شفاه كل أولئك الذين كانوا يُحدَثون بعضهم للمرة الأولى»[2].


«الجمال في الشارع».. صورة لأحد الملصقات الثورية من 68

حجارة الرصف الثقيلة التي قذفوا بها الشرطة كشفت أسفلها عن الشاطئ، كما كشفت تلك العبارات المرسومة على الجدران (تحت أحجار الرصف، الشاطئ)، و(الجمال في الشارع ) إمكانيات وخيالات العالم الجديد.

غلاف لمجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» يحمل عبارة «تحت أحجار الرصف، الشاطئ» مع صورة من الأحداث

«خلال أسبوع واحد ألقى ملايين الناس عن كاهلهم عبء الشروط المستلبة، وروتين البقاء، والتزييف الأيديولوجى وعالم الاستعراض المقلوب.. منح المهرجان أخيرا إجازات حقيقية لأناس لم يعرفوا سوى أيام العمل وتصاريح الغياب، ذاب الهرم الهيراركى مثل كومة سكر تحت شمس مايو، كانت الشوارع تخص أولئك الذين يحفرونها»[3]

الانتفاضة التي قامت بعد عقد من الزمان تقريبا على تأسيس الأممية المواقفية وقد حملت آمالها ووجهات نظرها – وإن لم تحملها هي نفسها كزعيمة للحراك – تلك الانتفاضة التي حققت النفي الجذري للسلطة الاستلابية – بشقيها الرأسمالى الحاكم والنقابي الحزبي البيروقراطي المعارض – تم استيعابها داخل علاقات السلطة ذاتها التي عارضتها بتنصيب زعماء ونجوم للحفل الثوري، وتحديد مطالب يمكن للسلطة التعامل معها بما يحفظ بقاءها.

لقد خَلَفت مايو 68 وراءها النقاش الأكثر جدلية حول الثورة، حول إمكانية النجاة بالثورة من استيعاب واستعادة الاستعراض لها.


الرأسمالية وإعادة تدوير الثورة

لقد تم استيعاب الفنانين بحبسهم داخل المعارض، العمال بحبسهم داخل البيروقراطية النقابية، الطلبة في دائرة الراديكالية المؤقتة بلعبة الاحتجاج، والديمقراطية داخل الأحزاب التي لا تفعل سوى تأبيد السلطة؛ جميعها من أكثرها محافظة إلى أشدها تقدمية.

تخاطبنا الدعاية السلعية قائلة: (ثورة) جديدة في عالم (س) من السلع، يتم تحويل كل الوسائل والمصطلحات التي كانت فعالة في مواجهة الاستعراض إلى أداة جاهزة في خدمته، الفشل المتكرر للثورات يخلف وراءه مئونته وأسلحة نقده فيلتقطها الاستعراض.

حينئذ تصبح العبارة الراديكالية الأكثر تهكمًا على السلطة وعلاقاتها القائمة فكاهةً على لسان مُقدِم للبرامج أو نبوءة مُثيرة على لسان موديل للإعلانات، وتتحول الهتافات العميقة المتجذرة في الوعى المُعارض إلى أدوات للتلاعب الخطابي للسلطة التي حطمت الثورة، ويتحول الزعماء والقادة والناشطين الثوريين إما إلى السجون في حالة ثباتهم على أدنى مبادئهم – التي تمت بالفعل سرقتها – وإما إلى حثالة ثورية تشارك السلطة في تحريف مضامين الثورة لمصلحتها.

يتواطأ النقاد – الكلاميون أو السياسيون الفاعلون على الأرض عن قصد أو عن غير قصد – مع العلاقات التي «يسعون لنسفها»، بينما الاستعراض مُتجذر في كل حرف وكل إيماءة.

وعلى النقاد توخي الحذر من استيعابهم داخل أدواته الخطابية والعملية، وتحمل مشقة البحث باستمرار عن أدوات جديدة لجعل نقدهم في صُلب لاقات السلطة القائمة والتي ستحاول دائما استيعاب كل بادرة للنقد اللاذع الذي يصيب حقيقتها وتحويله إلى مجرد مظهر متكافئ مع ما حوله، بإدخاله في المعادلة السلعية – تحويله إلى سلعة – والنتيجة: تكافؤ وتشظي وخواء الآراء على اختلافاتها البينة تماما كما تتكافأ السلع على اختلافاتها التي تظهر وكأنها بلا نهاية.

تتم استعادة النقد داخل العلاقات الاستعراضية، بتحويل المعاني والتكتيكات والأهداف إلى أنماط وصور معلبة جاهزة مُعاد تشكيلها بحيث يتم الرد عليها بوصفها تعبيرا عن المجتمع الحر الذي توفره الرأسمالية.

لكنها تعود في الحقيقة إلى مصطلح صاغه هربرت ماركوزه وهو (التسامح القمعي)، أي قدرة السلطة على تحصين الوضع القائم بتقديم كل الآراء المتعلقة بموضوع ما بمنتديات عامة أو برامج حوارية متضمنة داخل صناعة الثقافة، حيث تبدو الآراء جميعها سواء في القيمة، وكل الادعاءات بالصحة نسبية.

أو يتم استيعاب النقد بتصديره كمجرد وسيلة للإصلاح، مُنبه يحذر العلاقات الحالية من الانحراف عن طبيعتها التي تقدم على أنها الطبيعة البشرية السليمة، وأي خلل أو عطل أو فشل للنظام يُصور على أنه ابتعاد للنظام عن مبدئه الأصيل وليس عن زيف هذا المبدأ من الأساس.

«يضمن الاستعراض أن مظهر الانشقاق الفعلى يستبعد ظهوره الفعلي» بحيث يصبح جزءا مما انتقده

تنتج الثورة أفكارًا وصورًا ومصطلحات تُخلّفها وراءها على مدى فشلها المتكرر في إنهاء الاستلاب، هذه الأشياء لا تلبث أن تتحول إلى أسلحة في يد الاستعراض يضمن بها تجدد الدم في عروقه.

يتم إفراغ كل المفاهيم من محتواها وإعادة تدويرها ضمن الاستعراض (الثورة يتم استيعابها داخل الموسيقى، والدعاية والإعلان، وأشكال الفن) يسمح الاستعراض لجيش من الفرق الموسيقية والفنانين والكتاب بل الناشطين الثوريين العاطلين بالظهور للنور وجلعهم مشاهير عن طريق ادَعاء انتمائهم للثورة، في حين أنهم بأنفسهم من يساعدون على استيعابها داخل أشكال التمرد المقبول واللائق، بمطالب محدودة تستطيع السلطة التعامل معها.

يتم تفتيت المناخ السياسي وبالتالي تحطيمه تمامًا بواسطة تفتيت الجدال المجتمعي الذي ينتجه إلى جدالات ومشاحنات منفصلة تعرض الأشياء وتفسرها لنفسها وليس للكل (الاقتصادي – ثقافي – اجتماعي ) الذي يحتويها.

يتم تفتيت الرأي الواعي الذي من المفترض أن يُكوَنه الإنسان والموقف التي من المفترض أن يتخذه إلى أكبر عدد ممكن من الآراء في القضايا المعروضة بحيث يتخذ في كلٍ على حدة رأيًا ينفصل بكل مستوى من المستويات (اقتصادية – ثقافية – اجتماعية) يمنعه من تكوين رؤية شاملة تجمع المشكلات وتردها إلى الكل الفاسد الذي يتسبب بها.

يعود النقد «مُعبأ إلى من خلقوه»، لكن تظل في ثورة السلعة (س) على لوحة الإعلانات «إمكانية تغير محوري لم تجد التعبير عنها في أي مكان»، إمكانية قابلة للتحول إلى وضعها الصحيح في كل لحظة . «لأنه ثمة دائما فرصة أمام وعد الثورة على لوحة إعلانات أن يؤخذ حرفيا في الشارع»[4].


قاوموِا اللغة!

تظل التسميات مقبولة طالما أنها تأتي من داخل المعجم الاستعراضي، بحيث يتم تحويل الكل – تحديدًا المثقفين والفنانين – إلى مهنيين مقابل أجر، الدادائيون والسورياليون سيتحولون إلى شعراء أصحاب دواوين ضمن قائمة الأكثر مبيعًا، وإلى رسامين تشغل لوحاتهم معارض البرجوازية، إلى «سكاكين محراث شعبية تحرث بها التربة الخصبة لقاعات العرض الجائعة إلى الإثارة والتواقة للتجارة».

التراث التخريبى الذي تركته الدادائية سيتحول إلى وسائل للتعبير في يد فنان تقليدي مُحافظ يعلن بسعادة انتمائه إلى عالم البرجوازية السعيد، السحر الذي أنجزته السوريالية يتحول إلى أشكال مستعادة في «سلع وأعمال فنية وتقنيات دعائية، في لغة السلطة، في نموذج للخيال المستلب، في موضوعات التكريس والكماليات الثقافية»[5].

بحيث يتم الاكتفاء بوصف: سوريالى لكل ما هو غريب وساحر – فقط بهدف الترويج له داخل العلاقات السلعية – دون الانتباه لما تعنيه السوريالية من خيال جامح وشاعرية ذاتية تناقض كل ما هو نفعي برجوازي مؤقت.

ولأن «البرجوازية في إدراكها لخطر السريالية قد حولتها إلى تجارة جمالية عادية»، فإن (السوريالية في خدمة الثورة)[6] تتحول إلى السوريالية في خدمة التكلَف البرجوازي.

لذا يُطالبنا راؤول فانيجيم بـ «التحريف»، وهي عملية «قلب واستخلاص لمعنى مفقود». والتحريف «انتحالي لأن مواده تظهر بالفعل داخل الاستعراض، وتخريبي لأن تكتيكاته هي تكتيكات عكس المنظور».

إذ يجب تفكيك اللغة – باعتبارها الملجأ الأول لحماية العلاقات القائمة – بواسطة أخرى جدلية تكشف التناقضات، يجب تعرية كل الثرثرة البرجوازية عن قِيمها الخاصة وفضح السلعة التي تختبئ خلف كل بادرة وإيماءة استعراضية حَوَلت الحياة اليومية – بدءًا بإلقاء السلام حتى الزواج – إلى مجرد تمثيل ميكانيكي محفوظ قبلا.

«ومن هنا يجب الاستعانة بكل التراث الأدبى والفنى للإنسانية» «كل ما يفيد في عمل توليفات جديدة»، بحيث تتم إعاقة المعاني المضللة للاستعراض بالمعارضة بين عناصرها – تمامًا كالشعر – وهو ما تم استخدامه بامتياز على صفحات الدوريات الصادرة عن المواقفية وفي الشعارات على الجدران، وفي أفلام ديبور، الذي كان أيضًا مُخرجًا سينمائيًا.


في انتظار الثورة أم الثورة في الانتظار !

وصف جان باروه كتاب فانيجيم (ثورة الحياة اليومية) بأنه «دليل لانتهاك منطق السوق ونظام الأجور أينما استطاع المرء الإفلات»، وكان ذلك يعني أنه «إما أن يتخبط المرء في تصدعات المجتمع البرجوازي، وإما أن يعارضه دون توقف بحياة مختلفة تكون عاجزا لأن الثورة وحدها هي التي يمكن أن تجعلها واقعا»[7].

السؤال العتيق يطرح نفسه كمطرقة تقرع سندان (رأس) كل من فكر ذات مرة في المهمة، الوعي أولا أم الثورة؟، هل يمكن حل المسألة بمجرد العيش على نحو مختلف يجتهد في انتهاك كل العلاقات القائمة؛ أم بالتعايش المُكره الذي يستغل كل فرصة للتحريض الجذري من أجل الثورة، لكن كنتيجة للمقاومة الشرسة التي أظهرتها الرأسمالية ضد الثورة، فقد رأى المواقفيون ضرورة «الحكم على كل نشاط راهن على أساس قدرته على زيادة الفرص الثورية».


[3], [1] Rene Vienet, «Enrages and Situationists»

[2] Alain de Botton,«what’s to be done about art»

[4] instructions for taking up arms« »

[5] le surealisme,texeles et debates

[6] اسم الدورية الصادرة عن سوريالية باريس

[7] what is situationism « »

باقى العبارات الواردة بين علامتى النص « » مقتبسة عن الفصل الثالث من الكتاب

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.