حتى نكسة يونيو/حزيران 1967م لم يكن هناك ما يمكن اعتباره «ظاهرة إسلامية» يمكن التعامل معها وفقاً لأطر تحليلية واضحة. فالمواجهات بين النخب الوطنية (العسكرية) في الدول العربية المؤثرة –مصر وسوريا والعراق– والحركات الإسلامية، جعلت الإسلاميين بين السجون والمنافي.

وعقب النكسة مباشرة كانت «أسئلة الهزيمة» تتجاوز السياسي والعسكري إلى المعرفي، حيث شاع بقوة خطاب يعتبر النكسة «شهادة وفاة» المشروع الوطني التحديثي (العلماني)، وعقب ذلك بدأت العودة القوية للإسلاميين لتصل إلى ذروتها بدءًا من النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، ومعها أصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: من هؤلاء؟!


الثوري والسلفي والإصلاحي

كانت المصطلحات تبدو أكثر وضوحاً، وحدود الاختلاف والتشابه أقل رمادية. وأول جهات التصنيف وأكثرها يسراً كانت جهة الانقسام وفقاً لثنائية: الثوري/ الإصلاحي، وكان «جمال الدين الأفغاني» رمزاً للثوري، فيما «محمد عبده» رمزاً للثاني، وهي ثنائية تجاورت مع ظواهر أخرى:

  • ثنائيات أخرى كـ الديني/العلماني، والصوفي/ السلفي، إلى أن بدأ صراع على السلطة كان متعدد الروافد.
  • كانت جماعة الإخوان تمثل كياناً تنظيمياً كبيراً وجماعة متعددة الأدوار راكمت الأدبيات الأكبر حجماً في المسار الإصلاحي حتى ظهور مؤلفات سيد قطب المتأخرة.
  • بقي التصوف حقيقة اجتماعية تبلغ الغاية في الضخامة، ولم يشهد الخطاب التحليلي الذي تناول الحركات الإسلامية اهتماماً كبيراً به إلا متأخراً.
  • كان الإسلام الاجتماعي المؤسسي (الجمعية الشرعية – جماعة أنصار السنة المحمدية – …) ظاهرة أخرى تعكس عجز التقسيم الثلاثي (الثوري/ السلفي/ الإصلاحي) عن فهم الظاهرة التي تنوعت وتعرضت لتأثيرات من مصادر حداثية وشهدت –داخلياً– تحولات كبيرة.

كانت أولى التحولات الكبيرة التي شهدتها الظاهرة الإسلامية –بمعناها الواسع– ميلاد اجتماع سياسي جديد تمثل في زوال الرابطة السياسية الدينية التي جمعت المسلمين لأكثر من ألف عام (الخلافة) وهو ما واجهته بمعظم أطيافها بمقولة: «الاستعادة»، ما جعل مشروعية الدولة الوطنية الحديثة (القطرية) قضية شائكة حتى اليوم، فهي من ناحية قوضت مفهوم «وحدة الأمة»، ومن ناحية أخرى، أتت برؤية قيمية جديدة، حملتها نخبة جديدة (المطربشون والعسكر)، وانطوت على اعتراف لا شبهة فيه بـ «المركزية الغربية».


مقاتلون.. لا دعاة ولا قضاة

من التحولات العظيمة الأثر، تحول لم ينتبه له الإسلاميون أنفسهم، الانتقال من مقاومة طغيان «إكراهات الواقع» على القيم إلى نوع من الواقعية المراوغة، لم يعد فيها الشرع المعيار الحاكم بل أصبح –في المقام الأول– وسيلة لتبرير خيارات انحاز إليها «إسلاميون حركيون»، حلوا محل الفقهاء والدعاة، ووضعوا السلطة نصب أعينهم.

ومع اتساع نطاق تأثير أفكار سيد قطب حلت الرؤى الشاملة محل المعايير الشرعية، ولذا لم يكن غريباً أن يشهد العام 1974م محاولة الانقلاب العسكري الشهيرة بـ «قضية الفنية العسكرية» لتتبلور للمرة الأولى معالم الرافد الجديد (الانقلابي) الذي أضيف إلى الثلاثية المشار إليها سلفاً: الثوري/ السلفي/ الإصلاحي. وكان الدور المركزي (فكرياً وتنظيمياً) للشيوعي السابق «صالح سرية» في محاولة الانقلاب مؤشراً على تحول كبير، حلَّ فيه هدف الاستيلاء على السلطة محل بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وأصبحت أحلام إصلاح المجتمع أو تثويره صفحة من الماضي.

كان كتاب: «دعاة لا قضاة» ذائع الصيت المنسوب للمرشد الثاني للجماعة المستشار «حسن الهضيبي» مؤشراً تاريخياً على تدافع بين رؤيتين إحداهما ترى أن على الإسلاميين الاضطلاع بواجب «الهداية»، والأخرى ترى أنهم يملكون حق «الإدانة»، وقبل أن يُحسَم الصراع كانت «حتمية المواجهة» (وهو عنوان إحدى أهم أدبيات الجماعة الإسلامية المصرية) تحيل الفقهاء والدعاة –ومعهم القضاء– إلى التقاعد وتضع التاج على رأس «المقاتلين».


الأجيال والمراحل والتداخلات التنظيمية

كان كتاب: «دعاة لا قضاة» مؤشراً تاريخياً على تدافع بين رؤيتين إحداهما ترى أن على الإسلاميين الاضطلاع بواجب «الهداية»، والأخرى ترى أنهم يملكون حق «الإدانة»

وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني كان التيار السلفي يبدو –في المقام الأول– حركة اجتماعية محافظة تولي اهتمامها في المقام الأول لنشر العلم الشرعي. وقد كان هناك «مسار هامشي» احتفظ بقدم في أرض السلفية ووضع الأخرى في أرض الأفكار الثورية (أو الانقلابية)، بتأثير انتقال أشخاص فاعلين، وخيارات تنظيمية حداثية غلب عليها الشمولية والشعبوية. وبمرور الزمن راكم هذا المسار أدبيات تغلب عليها التلفيقية تضم كتابات: «سيد قطب»، «شكري مصطفى»، «صالح سرية»، «عمر عبد الرحمن»، «أيمن الظواهري» و آخرون.

وقد ساهمت عوامل في دخول دراسات الحركات الإسلامية ما يشبه النفق المظلم:

  • أفكار شائعة عن الأجيال (وبخاصة أجيال الجماعات المسلحة).
  • حالة مزدوجة من: «الترييف» و«العسكرة» اجتاحت الحركات الإسلامية، وهي حدثت مترافقة مع عاصفة الترييف والعسكرة التي أعقبت الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر والجزائر والعراق وغيرها، خلال الخمسينات والستينات.
  • تداخلات تنظيمية لم تتوقف حتى اليوم من أهمها العلاقات الملتبسة بين تنظيمي «الجماعة الإسلامية المصرية» و«الجهاد المصري»، تحالفاً وانفصالاً، وانتقال بعض أهم رموز الجماعة الإسلامية إلى الإخوان المسلمين الذين اشتهروا لاحقاً بـ «رموز التأسيس الثاني» للإخوان. وشهد العام 1998 التداخل التنظيمي الأكثر أهمية بتحالف كوادر من تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد مع تنظيم القاعدة لتولد: «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبين». وفي الهلال الخصيب ولد «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) من رحم «تنظيم القاعدة» بينما مؤسسوه خليط من السلفيين والبعثيين، والصوفية (النقشبندية).
  • انتقال بعض أكثر الحركات تأثيراً في نفق من التقلبات الحادة وبخاصة في قضية التنازع بين «أولوية قتال العدو القريب» و«أولوية قتال العدو البعيد».
معايير التصنيف أصبحت تحتاج إلى نقاش صبور يعيد النظر في «وجهات التصنيف»، والأسس النظرية، فالظواهر تتناسل وتتداخل وتشهد تحولات وتنطوي على مفارقات

وفي متاهة التحولات والتداخلات التنظيمية كانت المصطلحات تشهد الفوضى نفسها تقريباً، وصار على الباحث أن يتعامل مع قائمة طويلة من المصطلحات التي تستخدم لوصف الظاهرة ما بين: وصفية تحاول أن تكون محايدة، ومتناقضة حد التهافت، وقدحية تستهدف الوصم لا الوصف: الإسلاميون، الإسلامويون، المتأسلمون، التكفيريون، السلفيون الجهاديون، الإرهابيون…

وقد أصبح مصطلح «السلفية الجهادية» الأكثر رواجاً، ومن الناحية نفسها، الأكثر إثارة للجدل، فالسلفية في أكثر دلالاتها دقة حركة محافظة أقرب إلى الانعزال عن السياق الحداثي (الرسمي والنخبوي)، وعليه فإن الجمع بينها وبين «الجهادية»، هو بنظر غير قليلين من الباحثين، خلط لا يخلو من سوء نية، وعليه يدعو البعض لاستخدام تعبير «التكفيرية»، باعتبار التوسع في التكفير، وكذلك الاستباحة السمتين المميزتين لهذا الطيف من التنظيمات المسلحة.

وهذه المتاهة لا تعني أن التصنيف ممتنع، وقد اجتهد الباحث النرويجي توماس هيغهامر في أطروحته للدكتوراه المعنونة: «الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب»، في تقسيم الجماعات المسلحة في واقعها الراهن، وفقاً لأهدافها. وحسب هيغهامر، فإن هذه الجماعات تنقسم على النحو التالي:

  • الثوريون الاجتماعيون: يقاتلون نظماً إسلامية يعتبرونها غير شرعية من أجل الوصول إلى السلطة.
  • التحرريون: الذين يتخذون العنف سلاحاً يناضلون لتحرير بقعة معينة من محتل غير مسلم.
  • الوحدويون: الذين يتخذون العنف سلاحاً لصد عدوان الكافرين عن الأمة الإسلامية برمتها وعن أراضيها.
  • الجهاديون العالميون: يقاتلون الغرب بالوسائل كافة وفي المناطق كافة.
  • الطائفيون: الذين يتخذون العنف سلاحاً يقاتلون لترويع الطائفة المنافسة وتهميشها (سنية أو شيعية).[1]

والخلاصة أن معايير التصنيف أصبحت تحتاج إلى نقاش صبور يعيد النظر في «وجهات التصنيف»، والأسس النظرية (وطبعاً المعايير الفقهية)، فالظواهر تتناسل وتتداخل وتشهد تحولات وتنطوي على مفارقات، وجانب منها خلقة الواقع أولاً وأخيراً، وحالة الصدام المتصاعدة التي جعلت الإصلاحي والثوري يتراجعان لحساب المقاتل التكفيري المشبع بأفكار الاستباحة.


[1] الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، توماس هيغهامر، ترجمة: أمين الأيوبي، مراجعة: سعود السويدا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2013م، ص 16.