نادرًا ما تخلو قائمة بأفضل 50 فيلمًا في تاريخ السينما من ذكر «أحدهم طار فوق عش الوقواق» (One Flew Over The Cuckoo’s Nest)، إنتاج عام 1975، الذي حصد جائزة أفضل فيلم، وأفضل إخراج للأمريكي-التشيكي «ميليش فورمان»، وأفضل ممثل للنجم «جاك نيكلسون» عن دور «راندل مكمرفي»، وأفضل ممثلة للقديرة «لويز فليتشر» عن دور الممرضة «رتشد»، وأفضل سيناريو للكاتبين «لورنس هوبن» و«جو جولدمان».

في اللقطات الأولى، نرى نزلاء المصحة النفسية نائمين بينما الجلادون يؤدون عملهم بنشاط منذ الصباح. تصل الممرضة رتشد (الممرضة الكبيرة) مبكرًا، فلا يجوز للسلطة التغيب أو التخلف مطلقًا، لأنها تستقي رهبتها في قلوب الضحايا من علمها المحيط بالتفصيلات، ومن وعيهم بهذا العلم بما يستوجب الحضور العلني الدائم. وخلال جريان البرنامج اليومي المعتاد، يصل المصحة وافد جديد، إنه مكمرفي المشاغب، المتهم بمجامعة فتاة قاصر، روح حرة متمردة – بلا شك – تلج قفص الطيور. سيقيم مكمرفي في العنبر فترة وجيزة وصاخبة، يكشف فيها للنزلاء شيئًا من لذة الحرية، حرية من أغلال الذات قبل أن تكون حرية من أغلال السلطة. سيصلب بعد أن يضرب بنفسه مثالاً عمليًا على الحياة المثلى كما يراها، ليغادر المصحة والحياة مسيحًا بلا تلاميذ، اللهم إلا فرار «الزعيم الهندي» (نزيل من سكان أمريكا الأصليين) في اللقطة الأخيرة.

أما في الواقع، فقد أثر مكمرفي في الملايين حول العالم، جمهور ضخم ابتاع نسخ الرواية وصفق للمسرحيات وعشق الفيلم، نظم المسيرات وشارك في الحملات ونجح في تغيير منظومة الرعاية النفسية بتهميش دور المصحات، في أحد أبرز انتصارات توجه «إلغاء الرعاية المؤسسية» (Deinstitutionalization) المنتشر في الغرب آنذاك. تلك حقبة تضافرت فيها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية أعطتها زخمًا فريدًا، سيكون لها دور محوري في تاريخ العلاج النفسي ومساره حول العالم، وسيستمر تأثيرها على حياة ملايين المرضى النفسيين وأسرهم داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها حتى اليوم.


ما بال عش الوقواق؟

أحدهم طار فوق عش الوقواق رواية صدرت عام 1962 للأمريكي «كين كيزي» الأديب والكاتب الصحفي وأحد رموز ثقافة الستينات المتمردة. استوحى الكاتب أحداث روايته من مشاهداته خلال عمله فترة بمصحة نفسية. وسرعان ما حققت نجاحًا تجاريًا ونقديًا ضخمًا، وتحولت إلى عروض مسرحية لكبار النجوم، قبل أن تتحول إلى الفيلم السينمائي الشهير.

يمكن فهم العنوان على مستويين، فعش الوقواق لقب شهير للمصحات النفسية في أمريكا، ذلك التأويل السهل. بينما نقرأ في الفصل السابع والعشرين من الرواية التي تسرد أحداثها على لسان الزعيم الهندي، قصة تهويدة متوارثة اعتاد ترديدها مع جدته أثناء اللعب. تحكي التهويدة عن طائر وقواق ماهر في الصيد، يخطف الطيور الصغيرة ويضعها في عشه لالتهامها لاحقًا. وفجأة مر سرب من ثلاث إوزات، طارت الأولى يمينًا، وطارت الثانية يسارًا، بينما طارت الأخيرة فوق عش الوقواق والتقطت منه طائرًا مسجونًا وحررته، مما يجعل الترجمة الأدق للعنوان هي «إحداها طارت فوق عش الوقواق».

إذن الإوزة التي طارت فوق العش هي مكمرفي، والطائر المحرر هو الزعيم الهندي،لكن ذلك النجاح صاحبته خسائر فادحة، حتى يسعنا القول إن الإوزة قد أشعلت النار في عش الوقواق بما يحويها من طيور ذات أجنحة كسيرة، لا يقوى أكثرها على مواجهة الحياة في الغابة، رغم الإقرار بالطبيعة السلطوية الوحشية للعش وأصحابه من طيور الوقواق، فلعل إصلاح العش كان أولى من حرقه كما سنرى.


الطريق إلى إلغاء الرعاية المؤسسية

بشكل عام، بدأ الوعي حديثًا بأوضاع المرضى النفسيين المزرية مع منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، بفضل معلمة أمريكية تدعى «دوروثيا دكس» زارت سجنًا أمريكيًا وهالها حال المرضى هنالك، فقامت بجهود فردية قانونية هائلة أدت إلى إنشاء عشرات المصحات النفسية. لكن سلسلة مقالات «عشرة أيام في عنبر مجانين» للصحفية «نيلي بلي» التي ادعت الجنون وقضت أيامًا معدوة في إحدى تلك المصحات أحدث صدمة مجتمعية وإصلاحات تشريعية جادة.

وسرعان ما اجتاحت العالم الغربي ثقافة الستينيات المضادة، بعد انطلاقها من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بصورها المختلفة؛ مثل ظهور مجتمعات الهيبيز، وانتشار عقاقير الهلوسة (سجن مؤلف الرواية ذاته عدة أشهر لتعاطي المخدرات)، ونمو حركة العصر الجديد الروحانية، واندلاع الثورة الجنسية التي طغت روحها ومقولاتها على الأحداث ناهيك بأحاديث ومغامرات مكمرفي «المهرج المحب للمرح والمهووس بالجنس» كما قدمته الرواية الصادرة مطلع ذلك العقد.

اقرأ أيضًا: «خرافات الطاقة»: بدائل السياسة والدين في الإعلام

تزامن ذلك مع تشريعات تعلي من حقوق المرضى وتقيد سلطة المصحات بصورة حدت من أعداد نزلاء في المصحات النفسية العامة. جاء ذلك في ظل اهتمام خاص من الرئاسة الأمريكية متمثلة في «جون كينيدي» (1917-1963)، أرجعه الكثيرون إلى التردي المفجع لحالة شقيقته المريضة عقب خضوعها سرًا لجراحة فصية، إذ فقدت القدرة على الحديث والسير والتحكم في العملية الإخراجية. إلى جانب رغبة ملحة من الحكومة الفيدرالية في تقليص النفقات على حساب ميزانيات الولايات، وإعادة توجيه جزء من الميزانية المتنامية لهذا الملف إلى مصارف أخرى.

توجت مسيرة الحركة بقرارين من المحكمة العليا للولايات المتحدة في السبعينيات؛ أولهما عام 1975 (تاريخ صدور الفيلم السينمائي) بعدم أحقية الولاية في احتجاز أي مريض نفسي لم تثبت خطورته على سلامته أو سلامة غيره، والآخر عام 1978 بعدم أحقية الولاية في احتجاز أي مريض نفسي دون موافقته.


طيور بلا أعشاش

على مدار النصف الأول من القرن العشرين كانت السياسات العلاجية المتبعة في الطب النفسي تزداد سوءًا؛ بسبب اللجوء المفرط إلى التعقيم واحد من عدة ممارسات طبية أمريكية وحشية ألهمت النظام النازي الوليد
والجراحة الفصية التي تسلب المريض وعيه إلى درجة كبيرة. لكن اكتشاف مضادات الذهان في الخمسينيات منح الأمل للكثير من المرضى الذين تجاوز تعدادهم داخل المصحات النفسية نصف مليون نزيل ومعهم الملايين من أفراد أسرهم، مثلما سيمنح المجتمع أملاً في التكفير عن ذنوبه خلال اللوثة الوحشية التي سيطرت عليه قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها.

انتقل عبء الرعاية النفسية من المصحات الضخمة والمتخصصين إلى مراكز الصحة النفسية المجتمعية وأسر المرضى،فانخفض عدد نزلاء المؤسسة الصحية من نحو 560 ألف شخص في الخمسينيات إلى 45 ألف عام 2012، فتخففت الميزانية الفيدرالية أخيرًا من حمل كبير، لينخفض إنفاقها على ملف الصحة النفسية بداية من الثمانينات. كما نال المرضى حريتهم وحقوقهم، لكن الصورة على أرض الواقع كانت مختلفة. «أن تموت بكامل حقوقك»، استخدم «دارولد تريفرت» – الطبيب النفسي الأمريكي المرموق، مواليد 1930 – هذه العبارة الساخرة لتوصيف وضع نسبة كبيرة من المرضى عقب إلغاء الرعاية المؤسسية.

لم تتحسن الخدمات الصحية المقدمة إلى المرضى النفسيين، بل ساءت إجمالاً، وبلغت صورة كارثية في حالة «ذوي الأمراض العقلية الخطيرة» (Severe Mental Illness) نتيجة عدم جاهزية مراكز الصحة النفسية لمعالجة تلك الحالات، والقدرات المتدنية للمعالجين أنفسهم. إضافة إلى اكتظاظ المراكز العاجزة عن استيعاب أعداد المرضى، إذ بلغ عدد المراكز المنشأة بحلول عام 1977 إلى 650 مركزًا فقط؛ أي أقل من نصف العدد المطلوب حينها لخدمة 1.9 مليون مريض نفسي سنويًا.

يدعم التقييم السلبي للتجربة الأمريكية عددًا من الإحصائيات قوية الدلالة. بداية من الثمانينيات، لوحظ ارتفاع في نسبة ذوي الأمراض العقلية الخطيرة بين المشردين. وفي مطلع الألفينات، رجحت دراسات أن تعدادهم في السجون أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في المصحات. بينما خلصت دراسة أخرى في عام 2014 إلى أن نسبتهم قد بلغت 20% من نزلاء السجون الفيدرالية ونحو 16% من نزلاء سجون الولايات؛ أي عشرة أضعاف نزلاء المصحات النفسية. كما أشارت أخرى إلى أن للأمر علاقة بظاهرة إطلاق النار العشوائي المتكررة في الولايات الأمريكية، حيث يعاني نحو 20% من منفذي العمليات من الذهان أو الضلالات. وما تزال التشريعات القانونية عائقًا منيعًا أمام حجز المريض النفسي في المصحات دون موافقته، وإن أعربت أسرته عن مخاوفها، مما يسفر عن حوادث أسرية أليمة.

عاش مكمرفي متمردًا حرًا، مات مصلوبًا كما يليق بأسطورته، جاء وذهب، وما يزال الملايين يدفعون حتى اليوم فاتورة تمرده.