من الأمور الجوهرية جدًا في أي فهم للثورات في العصر الحديث، أن تتزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة، وبما أن الفكرة الحاضرة للعالم الحر هي أن الحرية -وليست العدالة والعظمة- تمثل المعيار الأعلى للحكم على الهيئات السياسية، فإنه ليس فهمنا للثورة وحده، بل مفهومنا كذلك للحرية، الذي هو ثوري الأصل، هما اللذان يتوقف عليهما قبولنا ورفضنا لذلك التزامن.
حنة أرندت – «في الثورة»، ص38، 39

ربيع لم يكتمل

بحسب ما تذهب إليه المنظّرة السياسية الألمانية الشهيرة «حنة أرندت» في كتابها المهم «في الثورة»، فإن الثورة بداية لقصة جديدة لم تُرو من قبل، بداية عنيفة بالأساس، تولد الحرية من مخاضها الدامي.

التأمل في منظور «أرندت» للثورة، يدفعنا لإعادة قراءة ثورات الربيع العربي بأثر رجعي، كثورات غير مكتملة على الأرجح، أقرب لأن تكون انتفاضات اجتماعية واسعة المدى والنطاق؛ أكثر منها ثورات ناجزة وجذرية.

انتفاضات وإن أسقطت رءوس بعض الأنظمة، إلا أنها، رغم ذلك، لم تحدث بنهاية المطاف قطيعة حقيقية مع ماضي العهد السياسي السابق الذي ظل حاضرًا في جميع خلفيات المشهد السياسي لدول الربيع، بل انقض على معظمها.

فثورات الربيع لم تتحول إلى فعل حقيقي مؤسس للحرية، وما يترتب عليها من تعددية وتداول حقيقي للسلطة، وهو ما يجعلنا في الأخير بحاجة إلى التوقف لبرهة لإعادة قراءة وتحليل ما جرى في السنوات الماضية برمته.


البحث عن بداية جديدة

تقول «حنة» أرندت إن الثورات لا يمكن أن تندلع، وتنجح إلا إذا كان هناك عدد كافٍ من الرجال المهيئين لسقوط السلطة، والمستعدين في الوقت ذاته لتوليها، التواقين لتنظيم أنفسهم وللعمل معًا من أجل هدف مشترك.

بحسب «أرندت» كذلك، لا يجوز لنا أن نستنتج أن الثورات تحدث دائمًا عندما تكون الحكومة في حالة تفكك، أو غير قادرة على فرض السلطة وعلى فرض الاحترام الذي يرافق ذلك، بل على العكس، يعد طول العمر اللافت للنظر والغريب لهياكل سياسية عفا عليها الزمن أمرًا معروفًا في التاريخ، ويشكّل بحد ذاته ظاهرة بارزة في التاريخ السياسي الغربي قبل الحرب العالمية الأولى. بذلك تضع «أرندت» شرطًا لا مفر منه لنجاح الثورات، ألا وهو نضوج البديل الاجتماعي والسياسي وتوافره.

يثير طرح «أرندت» هنا العديد من التأملات والأسئلة عند إسقاطه على المشهد السياسي لدول الربيع العربي، وأولها السؤال عن توافر البديل الاجتماعي والسياسي من عدمه. واقع ما جرى خلال السنوات الماضية، بعد الكثير من المد والجذر، والكر والفر بين الحراك الشعبي والثورات المضادة في العالم العربي، يحسم الإجابة على ذلك التساؤل! حيث أدى عدم توافر بديل ناضج لتلك الأنظمة من أي من التيارات السياسية والفكرية العربية.

في هذا السياق لا يمكن إنكار دور الأنظمة في خنق المجال العام، وإجهاض أي محاولة لخلق بديل اجتماعي وسياسي لها على مدى العقود السابقة من جانب، والمراهقة السياسية التي اتسمت بها معظم التيارات التي اعتلت المشهد السياسي بعد سقوط رءوس بعض هذه الأنظمة.


عودة أشباح الماضي

تقول «أرندت» إنه قبل 40 عامًا من اندلاع الثورة الفرنسية، كان الفيلسوف الفرنسي «مونتسكيو» قد عرف جيدًا أن الخراب ينهش ببطء الأسس التي تقوم عليها الهياكل السياسية في الغرب، وكان يتخوف من عودة حكم الطغيان لأن الشعوب في أوروبا، وإن كانت لم تزل تحكم بالعادة والعرف آنذاك، إلا أنها لم تعد تشعر بالارتياح سياسيًا ولم تعد تثق بالقوانين التي تعيش في ظلها، ولم تعد تؤمن بسلطة من يحكمهم.

لم ينظر «مونتسكيو» هنا إلى الأمام -كما تقول «أرندت»- نحو عصر جديد من الحرية، ولكنه على العكس من ذلك، خشي أن تنقرض الحرية من المعقل الوحيد الذي عثرت عليه، إذ إنه كان على قناعة بأن الأعراف والعادات، وأصول السلوك وقواعد الأخلاق، وباختصار المثل العليا كلها -وهي مهمة جدًا لحياة المجتمع وبعيدة الصلة جدًا بالكيان السياسي- ستتهاوى سريعًا في أي حالة من حالات الطوارئ، والتوحش الاجتماعي، والفوضى السياسية.

مثل هذه التقديرات لا تقتصر هنا على فرنسا وحدها وفق ما تقول «أرندت»، حيث كان الفساد في النظام القديم للحكم يغلف نسيج الهيكل الاجتماعي والسياسي في أوروبا كلها.

في المقابل، وفي إطار عالمنا العربي، الذي تنبأ فيه أحد منظري تنظيم القاعدة، بانهيار النظام الإقليمي الرسمي العربي، في الكتاب الشهير المعنون بـ«إدارة التوحش»، الذي ظهر في 2004، أي قبل بدء موجة الربيع العربي بسبع سنوات؛ تبدو مخاوف «مونتسكيو» الذي استشرف هو الآخر، قرب انهيار السلطة السياسية في بلاده وفي أوروبا خلال القرن الثامن عشر، هي ذات المخاوف التي طالما أرقّت كثيرين في عالمنا العربي اليوم، حيث عودة الاستبداد وحكم الطغيان بصورة أقسى وأشد وطأة مما كانت عليه الحال قبل اندلاع ثورات الربيع.


في الحرب والثورة

تشير «أرندت» في مقدمة كتابها إلى أن العلاقة المتداخلة بين الحرب والثورة والتبادل المشترك بينهما، ليس ظاهرة جديدة، بل إنها قديمة قدم الثورات ذاتها، سواء تلك التي كانت مسبوقة أو مصحوبة بحرب للتحرير؛ كالثورة الأمريكية، أو تلك التي أدت إلى حروب دفاعية وعدوانية كالثورة الفرنسية. أما في القرن الـ20، فقد ظهرت إضافة إلى ذلك، بحسب «أرندت»، أنماط مختلفة من الأحداث كان صخب الحرب فيها مجرد مدخل، ومرحلة تحضيرية للعنف الذي أطلقته ثورة ما.

في هذا السياق، تنبأت «أرندت» بأنه من المحتمل جدًا أن الثورة بمعزل عن الحرب، ستظل باقية معنا في المستقبل المنظور، مستشرفة بذلك الثورات المخملية التي اندلعت في نهاية الثمانينيات في شرق أوروبا، والثورات الملونة كالثورة الأوكرانية، والثورة الخضراء في إيران في العقد الأول من القرن الراهن، فضلًا، في هذا الإطار، على ثورات الربيع العربي كالثورة التونسية والمصرية.

تقول «أرندت»، رغم ذلك، أنه يجب علينا ملاحظة أن الثورات والحروب لا يمكن تصورهما خارج ميدان العنف، وهذا وحده يكفي لوضعهما بعيدين عن الظواهر السياسية الأخرى، حيث من الصعب إنكار الميل المشئوم الذي أظهرته الثورات لاندلاع الحروب، كما جرى على سبيل المثال، في عالمنا العربي في ليبيا وسوريا واليمن خلال السنوات الماضية.


تمرد بلا ثورة

ترى «أرندت» أن المعجزة التي أنقذت الثورة الأمريكية التي وقعت في أواخر القرن الـ18 لا تعود إلى أن المستوطنين كانوا من القوة بما يكفي لكسب حرب ضد إنجلترا، بل إلى أن هذا الانتصار لم يشكل في النهاية مجموعة كبيرة مفككة من وحدات الكومنولث، ومن الجرائم والكوارث، إلى أن غرقت في النهاية الأقاليم المرهقة.

بحسب «أرندت»، فإن ذلك هو المصير المعروف لأي تمرد لا يستتبع بثورة، وبالنتيجة هو المصير المعروف لمعظم الثورات، وذلك لأن نهاية التمرد، كما تشير «أرندت»، هي التحرير، في حين أن نهاية الثورة هي تأسيس الحرية، وهي المرحلة الثانية الأهدأ للثورة، وهي تعني بذلك مرحلة تدشين الدساتير.

وهي المرحلة التي أخفق، بلا شك، عالمنا العربي، منذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، في تحقيقها، بفشل تحويل الثورات الشعبية إلى نظم دستورية تؤسس للحرية، وربما الاستثناء الوحيد في هذا الإطار، التجربة التونسية التي جعلت التأسيس للدستور، مهمتها الأولى في المرحلة الانتقالية المؤسسة للتحول الديمقراطي، وهي البلد الوحيد أيضًا، ضمن تجارب الربيع العربي، الذي حصد، حتى الآن، قسطًا لا بأس به من ثمار الثورات.

وعندما نتأمل بالفعل الجغرافيا السياسية القارية لأمريكا، نلاحظ كيف استطاع ذلك البلد الذي قوامه السكاني في غالبيته العظمى من المهاجرين أن يحقق تلك الوحدة السياسية بعد ثورة دامية كحرب الاستقلال الأمريكية، في حين أن عالمنا العربي فشل تاريخيًا، منذ انفصاله عن الدولة العثمانية، بعد الثورة العربية في مطلع القرن الماضي، في الحفاظ على وحدته السياسية التي قُسِّم فيها المقسم، وجُزِّئ فيها المجزأ مرة تلو الأخرى، في سياق دامٍ مستمر حتى يومنا هذا.

وإلى أن تنضج بدائلنا الاجتماعية والسياسية، وتنجح في الفكاك من تجربة ماضينا السياسي القريب ثقيلة الوطأة، وتستطيع تأطير تجاربنا الثورية في المستقبل عبر مشاريع دستورية تدشن للحرية، يبدو أن عالمنا العربي سيظل أسيرًا للهياكل السياسية الاستبدادية القائمة، وأسيرًا كذلك لمرحلة التيه التاريخي التي تغلف واقعنا السياسي والاجتماعي، أو على الأقل هذا ما نستطيع أن نخلص إليه من قراءة «أرندت» العميقة للثورات.