مع دخول الأندلس في عصر «ملوك الطوائف» الذي استقلَّت فيه كُل مدينة كُبرى عن غيرها مُعتبرة نفسها إمارة صُغرى، بدا أن الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية بدأ أولى خطواته على منحدر الهبوط، بعد أن بلغ ذروة نضجه الحضاري والعسكري.

تشتَّت البلاد إلى 20 مدينة، وتمترست مملكتا قشتالة وأراجون في الشمال، ومنهما راحت تنطلق سكاكين كاثوليكية حامية لا تتوقف عن اقتطاع الأراضي الإسلامية؛ ضاعت مدريد ثم طليطلة ثم سرقسطة ثم لشبونة، وبخلاف ذلك سيطر الفقهاء المالكيون المتشددون على الأجواء، وطاردوا كل مفكرٍ مخالفٍ لآرائهم وراقبوا أنفاس الفلاسفة والصوفية، فماذا عمَّن جمع بين الأمرين؟!

لم يحتج ابن عربي إلى كثيرٍ من الذكاء ليُدرك أن هذه المرحلة السوداء ستزداد تفاقمًا كلما مرَّ الوقت، فقرَّر أن يسبق نوائب الدهر ويرحل عن جنَّة الإسلام في الأرض قبل أن يجد نفسه يومًا سجينًا لإحدى محاكم التفتيش أو منفيًا بأمر الخليفة خارج داره بعد ما تُحرق كُتبه ورسائله كما حدث مع ابن رُشد أو مُلاحَقًا بكرباج قشتالي يُجبره على ركوب سفينة خشبية تُلقيه على ساحل المغرب.. كلا، قرَّر هو السفر إلى المغرب من تلقاء نفسه.

هو الشيخ أبو بكر محمد بن علي، الذي ينحدر نسبه إلى قبيلة طيء العربية، ليكون جده الأكبر هو حاتم الطائي، أسطورة العرب في الكرم، وبهذا فإن نسب الصوفي الأشهر قد انحدر من قبيلة عربية عريقة بلغ من شهرتها داخل الجزيرة وخارجها أن البيزنطيين كانوا يُسمُّون العرب بـ«الطائيين»، لهذا لم يجد أهل الأندلس لقبًا يخلعونه على الشيخ أبي بكر إلا «ابن العربي».

وُلِد في بلدة «مرسية» جنوب شرق الأندلس، في رمضان سنة (560هـ – سنة 1165 م)، وشبَّ في بيتٍ اشتهر بتفوقه في العلوم الدينية، فكان طبيعيًّا أن يحرص أفراده على وضع ابنهم أبي بكر على طريق العلم، فبدأ يتلقى العلوم الدينية وهو في الثامنة من عُمره، وكلما امتلأت روحه به طلب المزيد منه فسافر في طلبه إلى لشبونة ثم إلى إشبيلية، والتي كانت من أكبر مراكز التصوف في الأندلس في عهده، وواحدة من أهم عواصم الأرض الفكرية، فقضى فيها نحو 30 سنة يدرس الفقه والحديث وعلوم القرآن، ولا يتوقف عن تجرع مناهل الثقافة والتصوف.

أحاط ابن العربي بالتراث العربي بشكلٍ تام، لكنه حصر كل اهتمامه بالتأليف في التصوف، ووقف كل علمه لخدمته، ولم يكتب حتى في بعض المجالات المُحبَّبة إلى نفسه كالفلسفة إلا في المواضيع ذات الصلة بمسائل التصوف.

وخلال ما يُمكننا تسميتها بـ«الحقبة الأندلسية» من حياته، وضع عددًا من المُؤلَّفات الشهيرة مثل «التدبيرات الإلهية»، و«مواقع النجوم«، و«الخلوة»، التي شملت إرشادات بسيطة تأخذ بيد الفرد في بداية طريقه نحو الصوفية، ذاع صيتها ونشرت اسمه على الألسنة شرقًا وغربًا، ولم يمنعه طيب مقامه في إشبيلية من أن يقوم برحلاتٍ خاطفة خارجها، مثلما فعل حين زار سبتة وغرناطة والمرية وقرطبة، أثينا الأندلس في الفلسفة، حيث قابل قاضيها وفيلسوفها البارز، ابن رشد وخاضا نقاشًا تاريخيًّا.

وفي العام 598هـ اتَّخذ أبو بكر من رغبته في الحج ليترك موطنه ويُسافر إلى المشرق؛ حجة لم يعد بعدها أبدًا.

ترك الأندلس ولم يبقَ فيها إلا حزامًا إسلاميًّا صغيرًا يضمُّ جزر البليار وفالنسيا وقرطبة وإشبيلية وغرناطة، التي كانت آخر ما رفع الراية البيضاء.

كُل البلاد ترحب بـ«ابن عربي» إلا مصر

ما أن وطئت قدما أبي بكر ابن العربي أرض المشرق الإسلامي حتى كان عليه أن يُغيِّر اسمه قليلًا تمييزًا عن فقيه صوفي إشبيلي آخر حمل أيضًا اسم أبو بكر بن عربي (468 – 543 هـ) الذي عاصر الإمام الغزالي ووُصف بـ«فخر المغرب»، واعتبره بعض العلماء أحد كبار المُجدِّدين في الإسلام، لذا غيَّر أهل المشرق في لقب ابن إشبيلية قليلًا، وحذفوا منه الألف واللام ليصير «ابن عربي»، وهو اللقب الذي سيشتهر به حتى مماته.

المغرب كان هو وِجهة ابن عربي الأولى حيث زار فاس، ومنها عرج على تونس وفيها التقى بالقُطب الصوفي الشهير أبي مدين الغوث، وبالرغم من كثرة المشايخ الذين تعلَّم منهم ابن عربي، إلا أن أبا مدين يتمتَّع بمكانة خاصة في قلبه، وكتاب «الفتوحات المكية» يزخر بفقراتٍ كثيرة مسبوقة بعبارة: «كان شيخنا أبو مدين يقول».

وكان ابن عربي كلما هبط على بلد لقيه أهلها بالتحية والإعظام، ويخلع عليه كبراؤها الهدايا، لكنه لما نزل مصر حاول أهلها قتله!

يقول الدكتور يوسف زيدان في محاضرة له عن حياة ابن عربي، إن مصر حينها كانت واقعة تحت إمرة الدولة الأيوبية، ووقتها كان الهوى الديني المصري مكتفيًا بالمذهب الشافعي، ولم يكن مستعدًّا لاستقبال أي آراء لأئمة الصوفية فلفظوا ابن عربي مثلما فعلوا سابقًا مع متصوفة كبار آخرين، مثل: عبد الحق بن سبعين وعفيف الدين التلمساني.

أنكروا عليه «شطحاته»، فأباح بعضهم دمه وكاد يُقتل لولا توسَّط أحد الأعيان فأعتق رقبته وساعده على الهرب.

وهكذا رحل ابن عربي، سريعًا، إلى بيت المقدس ومنها زار عددًا كبيرًا من المناطق كنواحي الحجاز وبعض مدن بلاد الروم، وقونية وحلب والموصل وبغداد، ثم محطتيه الكبيرتين؛ مكة التي منَّ الله عليه فيها بحدثين هامين، أولهما حُب حياته الأول النظام بنت زاهر بن رستم الكيلاني، لُقبت بـ«عين الشمس»، كان أبوها شيخ الحرم وقتها، وينحدر من أصولٍ فارسية.

أُغرم بجمالها وذكائها وسعة اطلاعها، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها.

وصفها بأنها فتاة «ساحرة الطرف عراقية الطرف»، وقرض فيها عشرات الأبيات المادحة لحُسنها، أشهرها:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة :: فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف :: وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت :: ركائبه فالحب ديني وإيمان

وفيما بعد، جمع هذه الأبيات في ديوان شعري صغير أسماه «ترجمان الأشواق».

أما الحدث الثاني، فهو بدايته لكتابة مُؤلَّفه الأشهر على الإطلاق «الفتوحات المكية».

يقول ابن عربي:

كنت نويت الحج والعمرة، فلما وصلت أم القرى، أقام الله سبحانه وتعالى في خاطري أن أعرِّف الولي بفنون من المعارف حصلتها في غيبتي، وكان الأغلب منها ما فتح الله سبحانه وتعالى عليَّ عند طوافي في بيته المكرَّم.

من مكة ارتحل ابن عربي إلى دمشق التي استقرَّ مقامه بها ووجد فيها ملاذًا لدى عائلة ابن الزكي وأفراد من الأسرة الأيوبية الحاكمة، بالرغم من غارات الصليبيين التي قضَّت مضاجع حكام مصر والشام، وفيها أكمل كتابه «الفتوحات المكية» ووضع مؤلفًا شهيرًا آخر هو «فصوص الحكم»، وتُوفي ابن عربي في دار القاضي ابن الزكي 28 ربيع الآخر سنة (638هـ- 1140م)، ودُفِن بمقبرة العائلة على سفح جبل قسيون، الذي يُطلُّ على دمشق.

فتوحات إلهية في صحن الكعبة

آية من آيات البيان الصوفي الرائع، وهو يبلغ في النضج التعبيري درجة لا يكاد يلحق بها نص صوفي آخر، وقد تركَّزت فيه خصائص كتابات ابن عربي على نحوٍ لا مثيل له.
الأديب المصري يوسف زيدان متحدثًا عن الكتاب

شهد الشطر الثاني من حياة ابن عربي، والذي قضاه بين دمشق ومكة، ذروة نضوجه الفكري في مجال التصوف بكتابيه «فصوص الحكم»، الذي يُمثل 40 عامًا من التفكر الصوفي، الذي لم يجرؤ على الجهر به بشكلٍ كامل حتى خرج إلى النور سنة 627هـ، وكتاب «الفتوحات المكية» الذي يُعدُّ أهم كتابات ابن عربي على الإطلاق.

يتحدث ابن عربي بنفسه عن عمله الرائد بقوله:

كتاب كبير في مجلدات مما فتح به عليَّ في مكة يحتوي على 560 بابًا في أسرار عظيمة من مراتب العلوم والمعارف والسلوك والمنازل والمنازلات والأقطاب.

ونفهم من هذه العبارة مبدأً لطالما كرَّره ابن عربي في قراطيسه، وهي أنه لا يكتب شيئًا وإنما هو الوحي الذي يُنزل على نفسه و«ملك الإلهام الذي ينفث في روعه» قدرًا من «فتوحات» صدَّرها كعنوان للكتاب موصوفًا بالمدينة التي كان يقيم بها حين تلقَّى أول شعاع ضوء إلهي.

وهو الأمر الذي عاد وأكَّده في صدر «الفتوحات»، بعبارته:

ما قصدت في كل ما ألفته مقصد المؤلفين ولا التأليف، وإنما كان يرد عليَّ من الحق موارد تكاد تحرقني، فكنت أتشاغل عنها بتقييد ما يُمكن منها، فخرجت مخرج التأليف، لا من حيث القصد، ومنها ما ألَّفته عن أمرٍ إلهي أمرني به الحق في نومٍ أو مكاشفة.

وعبَّر عن ذلك شعرًا بقوله:

قلمي ولوحي في الوجودِ يمدُّه :: قـلمُ الإله ولوحـه المـحـفوظُ
ويـدي يـمين الله في ملكوته :: ما شئت أجري والرسومُ حظوظ

وهو النهج الذي بلغ ذروته في كتابه «فصوص الحكم» الذي ادَّعى ابن عربي أن الرسول تجلَّى له في «مبشَّرة» وألقى عليه بالكتاب كاملًا، ثم أخرجه بعدها ابن عربي إلى النور «من غير زيادة ولا نقصان»، وبهذا فهو، بِاعترافه، ليس مؤلفًا وإنما مترجمًا وناقلًا أمينًا.

يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه «هكذا تكلم ابن عربي»، إنه لم يستغرب القصيدة التي كتبها الشيخ الأكبر في مقدمة كتابه:

أنا القرآن والسبع المثاني :: وروح الروح لا روح الأواني

فهو قدَّم بعد مقدمة «الفتوحات المكية» خطبة تُشبه «فاتحة الكتاب» في القرآن الكريم (السبع المثاني = 7 آيات) من حيث تضمنها اعتقاد المتصوفة بأن سورة الفاتحة شملت القرآن كله بشكلٍ مركزي، وهو نفس النهج الذي سار عليه الشيخ واستودع في خطبته هذه عصارة الكتاب قبل أن يبدأ في شرح أفكاره بعدها بالتفصيل.

وبالرغم من إشادة الدكتور أبو العلا عفيفي، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، بالكتاب في أطروحته «الفتوحات المكية لمحيي الدين ابن عربي»، واصفًا إيَّاه بأنه «موسوعة ضخمة من العلوم الدينية والتصوف وعلوم الأوائل»، إلا أنه ينتقد خلوه من وحدة التأليف والغرض، فلم يُرتِّبه صاحبه عن روية أو تفكير، وإنما كان يسجل كل فكرة تخطر بباله وكل تجربة تضطرب في نفسه، تسجيلًا تلقائيًّا هو وليد اللحظة، لذلك يسود الكتاب التفكك والاضطراب كما يسوده الاستطراد وتداخل المسائل بعضها في بعض.

ويحاول ابن عربي تبرير هذه المشكلة الكُبرى التي يعاني منها كتابه بقوله:

اعلم أن ترتيب الفتوحات لم يكن عن اختيار ولا نظر فكر، وإنما الحق تعالى يُملي علينا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره، وقد نذكره كلامًا بين كلامين لا تعلق بما قبله ولا بما بعده.

إلا أن أغلب الظن أن صاحب الفتوحات كان يحاول ألا يغضب الحكَّام عليه، فلجأ إلى تشتيت أفكاره وبعثرتها بين الصفحات وهو ما يُفسِّر عبارته «جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينة لكنها متفرقة»، علاوة على لجوئه إلى لغة رمزية شديدة التعقيد أحيانًا تستعصي على الفهم، اعترف هو نفسه بها بقوله: «أنا لغز ربي ورمزه، ومن عرف أشعار الألغاز عرف ما أردناه»، ما يجعل قارئ الكتاب غير المتخصص في علوم الصوفية يُعاني من صعوبة تحديد كثيرٍ من مقاصد الكلمات.

على مدى 38 عامًا، تم تأليف الكتاب مرتين؛ الأولى خلال زيارته الأولى إلى مكة واستغرق كتابته نحو 38 عامًا (بدأ سنة 598هـ، وانتهى منه سنة 629هـ)، ولا نعلم الكثير عن هذه النسخة غير أخبارها فلم تردنا إلا النسخة الثانية التي بدأ في كتابتها بدمشق سنة 623هـ وانتهى منها خلال 4 سنوات، أجرى فيها عددًا من التحسينات والزيادات. هذه النسخة تُعرف اليوم بِاسم «النسخة القونية»، نسبة للشيخ صدر الدين القونوي تلميذ ابن عربي المفضل، والذي أُهديت إليه «نسخة دمشق» من الفتوحات المكية.

وكمثالٍ لحجم تأثير ابن عربي في الصوفية، فإن تلميذه صدر الدين أصبح أستاذًا للفيلسوف الصوفي قطب الدين الشيرازي وأستاذًا لفخر الدين العراقي أحد كبار شعراء الفرس، وكذلك كان صديقًا حميمًا للشيخ جلال الرومي صاحب ديوان المثنوي واحد من أعظم دواوين الشعر في الدنيا، وهؤلاء جميعًا تشرَّبوا أفكار ابن عربي، وظهر تأثرهم به جليًّا في أعمالهم.

ولا تزال مخطوطة الكتاب القونية الأصلية، تتألَّف من 37 مجلدًا، محفوظة في متحف إستانبول للآثار الإسلامية، نُشرت في 4 مجلدات عملاقة.

يحكي أبو العلا: وضع ابن عربي هذا الكتاب، وهو مُلمٌّ تمامًا بالتراث العقلي والروحي الإسلامي، أخذ من هذا التراث ما أخذ، وفهمه على النحو الذي أراد، وفسَّره وفقًا للوجهة التي ترضي نزعته ومذهبه، ثم أضفى عليه صبغة قوية من تفكيره وتجاربه الروحية حتى خرج على العالم بهذا المصنَّف العجيب.

فيما يشرح عبد الوهاب أمين أحمد في كتابه «المغامرة اللغوية في الفتوحات المكية»، الهيكل البنائي للفتوحات بأن الكتاب يتكوَّن من 6 أبواب تُشير إلى أيام الخلق الستة، ثم ينشق عنها عددٌ من الأبواب يحمل الرقم 560، وهو عام ولادته، وكأنه يُشير إلى استغراقه لأبواب المعرفة الإسلامية منذ عصرها وحتى عصره.

ثم يضيف عبد الوهاب، أن ابن عربي بدأ كتابه بالمعارف التي رآها ضرورية للصوفي في سيره وسلوكه نحو الحق، وهي علوم تبدأ بفنون الحروب وتنتهي بمعرفة أسرار الشعائر الدينية، وبعد ما فرغ من الشرح النظري انتقل إلى الأقسام العملية، وهي: «المعاملات» التي تُبيِّن للسالك ما ينبغي أن يأخذ نفسه به من تجارب صوفية لكي يُعمِّق نموه الروحي ويستكمل بناء شخصيته، وبعدها يتعرض إلى «الأحوال» وهي العوارض والطوالع التي ينفعل بها المرء خلال رحلته إلى ملك الملوك، و«المنازلات» وهي مواطن اللقاء الخالد بين العبد في صعوده والحق (الله) في تنزله ونزوله، وأخيرًا «المقامات»، وهي الآفاق العليا لرجال الروح، التي تنتهي إليها أقدارهم وتتألق فيها شخصياتهم.

ويقول يوسف زيدان في تعقيبه على تحقيق كتاب «شرح مشكلات الفتوحات المكية» للقطب الصوفي عبد الكريم الجيلي، إن الباب الـ560 (الأخير) للفتوحات لا يتعلق بشكلٍ مُباشر ببقية الأبواب ولا مواضيعها، وإنما هو مجموعة وصايا عامة للمريد، لهذا فهو اعتبر أن الباب 559 هو الخاتم للكتاب.

وأكد زيدان أن ابن عربي اهتمَّ بهذا الباب، وجعله بعنوان «في معرفة أسرار وحقائق من منازل مختلفة»، ووصفه في مقدمته بأنه «الباب الجامع لفنون الأنوار الساطعة والبروق اللامعة»، لذلك اعتنى الجيلي تحديدًا بشرحه وتبسيط مقاصده للعامة في الكتاب الذي حقَّقه زيدان.

كما يكشف لنا عبد الوهاب جانبًا من المصادر التي اعتمد عليها ابن عربي في وضع الفتوحات، بخلاف الوحي الإلهي، وهي: «رسالة الأخلاق» للفخر الرازي، وسُنن أبي داود، ومُسند النسائي، وجامع البخاري، وكتاب المحلى لابن حزم، و«الأرجوزة في علم الكلام» لصالح بن الصديق بن علي، و«الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة» لعبد الله بن محمد، و«الأسطقسات» لجالينوس، و«تفسير القرآن» لعبد السلام الإشبيلي، و«محاسن المجالس» لأحمد الصنهاجي، و«ختم الأولياء» لمحمد بن علي الترمذي، و«مقامات الأولياء» لمحمد بن الحسين السلمي، وكتابا «كيمياء السعادة» و«المستظهري» لأبي حامد الغزالي، وغيرها من المصادر التي تشي بمدى اتساع ثقافة ابن عربي وإلمامه التام بكل علوم عصره.

ويعتبر أبو العلا أنه لا يوجد كتاب لابن عربي حمل هذا التأثير على العامة والخاصة، وعلى المشتغلين بالتصوف أو المعنيين بالعلوم الإسلامية الأخرى، حتى أصبح مرجعًا هامًّا لأي عالم صوفي أو راغب في دراسة التصوف.

وهو ما يُؤكِّده زيدان بقوله إن أهل التصوف لطالما اهتموا بهذا الكتاب، فاختصره الشعراني في كتابٍ بعنوان «لواقح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية»، ثم اختصر المختصر ثانية وجعله في كتاب بعنوان «الكبريت الأحمر» (وهو أحد الألقاب المخلوعة على ابن عربي كناية على التميز لنُدرة مادة الكبريت الأحمر في وقتها، وأن المتاح وقتها كان الكبريت الأزرق فقط)، فيما نسج عبد القادر بن قضيب البان على منواله كتابًا بعنوان «الفتوحات المدنية»!

ويرى أبو العلا أن «الفتوحات المكية» أصبح مصدر وحي في إنتاج كثيرٍ من عباقرة العالم الإسلامي، فليس ما خلَّفه شعراء الفرس من شعر صوفي رائع كعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري وجلال الدين الرومي إلا صدى لتلك المعاني التي ابتكرها صاحب الفتوحات وورثتها العقلية الفارسية وأبدعت في صياغتها.

ويعتبر المستشرق البريطاني ألفريد جيوم Alfred Guillaume أن الشاعر الإيطالي الشهير دانتي تأثَّر بما كتبه ابن عربي في كتابه من وصفٍ للجحيم والنعيم.

وحدة الوجود

يا خالق الأشياء في نفسه :: أنت لما تخلق جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه :: فيك فأنت الضيق الواسع
ابن عربي

يقول عبد الكريم اليافي في بحثه «الإنسان والخيال والرمز عند ابن عربي» إن الشيخ أبا بكر بثَّ نظريته حول وحدة الوجود بين جنبات كتابه، وهو يرى أن الخالق على بُعد من المخلوقات يساوي اللانهائية والصفر معًا، فهو بعيد عنها ومُتعالٍ من منطلقات الأحدية المطلقة، وفي نفس الوقت هو قريب منها إذا نظر إلى الأسماء الكيانية والأسماء الإلهية المتجلية في المخلوقات والمتحققة فيها.

وهو ما يشرحه أكثر عبد الرحمن دركزللي في أطروحته «حياة ابن عربي وفلسفته» بقوله إن وحدة الوجود تقول إن العالم بجميع مظاهره هو الله، وأن ليس في الوجود سواه، وهو ما عبَّر عنه ابن عربي في الفتوحات بعبارته «سبحان من خلق الأشياء وهو عينها»، ويترتب على القول بهذه النظرية أن الله هو الأول، وأن العالم صدر عنه وفاض منه، وأنه أراد أن يرى نفسه فخلق الدنيا لتكون بمنزلة المرآة التي تتجلى فيها رحمته وقدرته وتجلياته المختلفة في الخير أو حتى الشر.

فيما يُضيف اليافي: لا أظن أن مفكرًا شرقيًّا ولا غربيًّا رفع من قيمة الإنسان وقدَّس فكره وروحانيته مثل ابن عربي، لذا قال عنه في «الفتوحات»: «أكمل نشأة ظهرت في الموجودات الإنسان»، ويعتبر الإنسان مفتاحًا لكل شيء، بالرغم من قناعته أنه مجرد حدث على سطح الكوكب، إلا أن اتصاله بالله الأزلي رفع من قيمته.

لهذا اعتبر ابن عربي الإنسان مسؤولاً عن تجميل الكون، يقول ابن عربي:

ومن هذه الحضرة (حضرة الجمال الإنساني) تنتقل صورة تجليه فيها إلى المشاهد، فينصبغ بها انتقال فيض كظهور نور الشمس في الأماكن، ويُسمى ذلك النور شمسًا وإن لم يكن مستديرًا ولا في فلك، ثم يفيض الإنسان من تلك الصورة التي ظهر فيها عن الفيض الإلهي على جميع ملكه.

حرب حتى الموت

جاء من بعده قومٌ عمي عن طريقه فغلَّطوه في ذلك بل كفَّروه بتلك العبارات، ولم يكن عندهم معرفة باصطلاحه.
الشيخ سراج الدين البلقيني متحدثًا عن ابن عربي

لم يسلم ابن عربي من بطش معارضيه بالرغم من جهوده في إخفاء آرائه بالرمز أو باللغة الشعرية، بقيت رغم ذلك مثيرة للجدل طوال حياته وبعد وفاته، قام بعض المتطرفين بتخريب قبره، وبقي على حاله حتى دخل السلطان سليم الأول العثماني دمشق، وأمر بإعادة بناء القبر وبناء مسجد قريب منه سنة 924هـ، وهو الفِعل الذي تنبأ به ابن عربي قبل وفاته بقوله في كتابه «الشجرة النعمانية»: «إذا دخل السين في الشين ظهر قبر محيي الدين».

أما على صعيد أفكاره، فلقد اشتعلت المعركة بين السلفية والصوفية خلال القرنين الثامن والعاشر الهجريين، ونال ابن عربي جانبًا كبيرًا من هذا الهجوم، وكان أول من أثار الجدل حول «الفتوحات المكية»، هو الفقيه اليمني جمال الدين ابن الخياط الذي ألَّف رسالة تعرَّض فيها لبعض آرائه، فرد عليه الفيروز أبادي بكتاب عنوانه «الاغتباط بمعالجة ابن الخياط» اعترض فيه على مقولة ابن الخياط واتهمه بأنه دس على ابن عربي روايات مكذوبة ليجلب عليه سخط الفقهاء.

بعدها ألَّف برهان الدين البقاعي كتابه «تنبيه الغبي في كفر ابن عربي»، فردَّ عليه الإمام السيوطي بكتابه «تنيه الغبي في ابن عربي»، كما هاجمه الفقيه الحنبلي تقي الدين ابن تيمية، بسبب إيمانه بـ«الحلول والاتحاد»، واعتبر في نظره أنه أكثر ضلالًا وكفرًا من النصارى وغلاة الشيعة، ومثله ابن خلدون، الذي أنكر على ابن عربي آراءه، بالإضافة إلى الإمام الذهبي الذي قال بحقِّه: «إن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر».

وفي عام 1978م، أثار مجلس الشعب المصري ضجة كبيرة بسبب قرار إحدى لجانه مصادرة كتاب «الفتوحات المكية»، بسبب تعارضه «مع مضمون القرآن والسنة»، وإعلان أحد نوابه رغبته في إحراق الكتاب، وهو المصير الذي لطالما خشي ابن عربي من التعرض له في حياته، وهي المعركة التي شارك فيها الرسَّام صلاح جاهين بكاريكاتير شهير جسَّد حوارًا بين مواطن مصري يسأل شخصًا يُجسِّد مجلس الشعب، سأله: «بتحرق ليه الكتاب؟»، فأجابه «أصل فيه زندقة!»، ولما سأل المواطن: «يعنى ايه زندقة؟»، أجابه مُمثِّل مجلس الشعب «مش عارف».

كاريكتير صلاح جاهين عن كتاب الفتوحات المكية
كاريكتير صلاح جاهين عن كتاب الفتوحات المكية