طور عالم السياسة والاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل (1902- 1978) صيغة عن وسائل التخطيط وتصميم الرسائل الإعلامية سماها «صيغة لاسويل». تطرح الصيغة الأسئلة التالية: «من يقول؟ ماذا يقول؟ بأي وسيلة؟ لمن؟ وبأي قصد؟». أصبحت صيغة لاسويل لاحقاً من أساسيات العمل الإعلامي لإيصال الرسائل والمعلومات بالشكل الذي يُحدث التأثيرات التي تريدها الأنظمة. في مرحلة لاحقة، طور لاسويل من هذه الصيغة نظرية «الرصاصة السحرية» التي اعتمدت على النظريات العامة في مجال علم الاجتماع وعلم النفس في ذلك الوقت بخاصة نظريات فرويد عن التحليل النفسي.


الرصاصة السحرية

يفترض لاسويل أن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأشخاص المنعزلين، ويُعتبر الإعلام أكبر قوة مؤثرة فيهم. يستجيب الناس في المجتمع للوسائل الإعلامية بشكل فردي، تلقائي ومباشر. سميت النظرية بالرصاصة السحرية لأنها تصوب نحو الهدف بشكل دقيق فلا تُخطئ الهدف مهما كانت دفاعاته. سميت النظرية كذلك بـ«الحقنة تحت الجلد» التي لا يشعر بها المتلقي، وهي تشبه أيضا حقنا في الوريد تسري مع الدورة الدموية، وفي لحظات، يمتد تأثيرها لكل الجسم (المجتمع) بشكل لا يمكن الفكاك منه.

عمدت الآلة الإعلامية إلى الترويج لقيم وأهداف النخب المهيمنة على الاقتصاد والسياسة لتجنيد الجماهير في صف هذه القيم، ولا نستثني من هذا المسار مصر

تناول العديد من النقاد نظرية لاسويل ببساطة شديدة وشكك بعضهم في أن يكون للإعلام هذا التأثير الكارثي. برزت نظريات لاسويل بعد الحرب العالمية الأولى وما أحدثته من دمار، فظهر اهتمام بدور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري في تكوين الرأي العام وحمل آراء الناس لأي وجهة يرغب فيها صانعو القرار. وصف لاسويل وسائل الإعلام في ذلك الوقت بأنها «المطرقة الجديدة»، تقريبًا كما يصفها نعوم تشومسكي: «الدعاية في النظام الديمقراطي اليوم هي بمثابة الهراوات في الدولة الشمولية».

اعتمادا على صيغة لاسويل، سعت وسائل الإعلام على مر التاريخ إلى تمرير رسائل للكتل الجماهيرية تهدف إلى الإلهاء لتحويل الرأي العام عن الأحداث السياسية، بإبقاء الجماهير مشغولة بقضايا فرعية أو ليس لها وجود لتمارس النخب السياسية والاقتصادية استبدادها في هدوء. وفي حالات أخرى، عمدت الآلة الإعلامية إلى الترويج لقيم وأهداف النخب المهيمنة على الاقتصاد والسياسة لتجنيد الجماهير في صف هذه القيم، ولا نستثني من هذا المسار مصر.

في مصر، عملت وسائل الإعلام منذ 30 يونيو/حزيران 2013 حتى اليوم بجِد على تحويل صورة السلطة في أذهان الناس من «السلطة الدستورية القانونية العقلانية التي تعمل في إطار من القوانين والقواعد» حسب تعبير ماكس فيبر [1]، لـ«سلطة كاريزمية»، يُنظر فيها للسيسي كقائد فرد يتمتع بموهبة متفردة يجب أن تكون له سلطة مطلقة.

وهكذا تنبع كل السلطات من يد القائد مرشد الدولة ومخلصها ومنقذها. وإلى جوار وجوده الطاغي، تعتبر كل المؤسسات الوسيطة كالانتخابات والأحزاب والبرلمان مجرد هوامش لأن حكمة السيسي الأيديولوجية تفوق كل هؤلاء.

مصر هي السيسي والسيسي هو مصر ومن يهتف ضد السيسي «عايز يوقع مصر»، تمامًا كما هتف المؤمنون بالنازية في مهرجانات نورمبرج «أدولف هتلر هو ألمانيا، وألمانيا هي أدولف هتلر».

نتيجة لذلك تصبح الديمقراطية غطاء لديكتاتورية مطلقة، تمتزج السلطة المطلقة للسيسي والتفويض الشعبي له ويشكلان «ديمقراطية شمولية»، يصبح فيها دور السيسي القائد هو:

– أن يفتح عيون الناس على المخاطر التي تحدق بهم «الإرهاب».

– وتعبئة الجماهير لتكون كتلة قاهرة لا تقاوم «التفويض».

وهذا ما يميز فاشستية وديكتاتورية السيسي عن أي نظام ديكتاتوري تقليدي؛ فبينما تبغى أي أنظمة ديكتاتورية تقليدية إبعاد الناس بشكل أو بآخر عن السياسة، هدف السيسي -كفاشي- تعبئة وتجنيد الجماهير في صف قيم وأهداف النظام، عن طريق الدعاية المتواصلة ليل نهار، واستخدام التجمعات والتفويض والتظاهرات الشعبية ليجعل إرادته كطاغية تبدو كأنها إرادة الشعب وهذا ما قام به الإعلام.

إذا مارس أحد العنف غير الدولة يعد «إرهابيا» وستعمل الآلة الإعلامية على تصويره كخطر محدق لا منقذ منه إلا السيسي.

هذه العلاقة التكافلية بين الإعلام والسلطة في مصر امتدت لتطمس كل الخطوط الفاصلة بين الاثنين عبر إقصاء كل أبواق المعارضة الإعلامية سواء قنوات أو مقدمي برامج أو إلغاء برامج حوارية برمتها، لتهيمن السلطة في النهاية بشتى وسائل العنف الذي تقتضيه هذه الهيمنة. إلا أن هذا العنف حسب تعبير ماكس فيبر مرة أخرى «عنف مشروع» حيث أن الدولة كما يقول فيبر: «الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة».

فإذا مارس أحد العنف غير الدولة يعد «إرهابيا» وستعمل الآلة الإعلامية على تصويره كخطر محدق لا منقذ منه إلا السيسي. وإمعانا في الحفاظ على الجماهير تحت السيطرة عاجزة تماما عن فهم استراتيجيات الاستعباد، يجب الحفاظ على مستوى عام من الجهالة لا تحيد عنه السلطة كأحد مقاومات بقائها، فلا تلق الجماهير باللوم على النظام لفشله في توفير احتياجاتهم بل يلوموا أنفسهم لأن قدراتهم ومستوى ذكائهم أقل من أن يوفر لهم حياة كريمة.

وهذه الرسالة يقدمها الإعلام في قالب براق إيجابي تحت شعار «دعوة للعمل» الذي ركزت عليه كل الأنظمة من أول ناصر وحتى السيسي. فسبب الفقر والعوز ليس تقصير الدولة بل تقصير المواطنين، وبدلًا من التمرد على النظام الاقتصادي ينظر المواطن لنفسه بعين العجز. العجز الذي يمنعه من التشكيك في أي من مؤسسات الدولة. وكأن مؤسسات الدولة كهنوت إلهي لا تنطق إلا بالحق المطلق.

هذا هو الإعلام، الكيان الأكثر خطرا على وجه الأرض، القادر على تحويل الإله شيطانا والشيطان إلها. على السلطة الحاكمة فقط تأليف ما تشاء من الأكاذيب وسيحولها الإعلام إلى حقائق وبالأدلة. يكفي أن تُقدم مناظرة بين خصمين حول أي موضوع في برنامج حواري، ليجد المواطن نفسه أمام سحابة سوداء من الشك تنسف أي مسلمات. بمرور الوقت يتبنى الأفراد ما تريد لهم الحكومة أن يتبنوه.


[1] ماكسيميليان كارل إميل فيبر‏ (21 أبريل 1864 – 14 يونيو 1920) كان عالمًا ألمانيًا في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو واضع تعريف “البيروقراطية”.