في السنوات القليلة الماضية تجاوزت عوائد صناعة الدواء عالمياً حاجز التريليون دولار. سوق عملاق يسيطر عليه عدد قليل نسبيًا من الشركات الكبرى، أكثرها أمريكية الجنسية. سمح ذلك الاحتكار بتراكم ثروات ونفوذ مكنت الشركات من التلاعب لتحقيق مزيد مكاسب، دون أي اعتبار لضوابط أخلاقية يتصور حضورها في الصناعة الأكثر مصيرية في حياة الإنسان.

يلقي هذا التقرير الضوء على سبل للاحتيال خبرتها مافيا الدواء العالمية، ازداد الاهتمام ببعضها خلال السنوات الأخيرة، حتى بدأت بعض الدول أخيرًا في سن قوانين تحد من قدرة الشركات على التلاعب والخداع، بعدما تجاوز الأمر عموم الجماهير وطال الأطباء والمتخصصين أنفسهم داخل أروقة البحث العلمي. وسنضرب الأمثلة بأدوية الـ«ستاتينات» المخفضة للكوليسترول، التي تستحوذ على حصة كبيرة من سوق الدواء العالمي.


الخداع الدعائي

تقدم شركات الدواء دعاية مخادعة. لا نقصد المبالغات الدعائية المألوفة، من طراز «تخلص من الألم في دقائق» أو «اقض على 99.9% من الجراثيم». بل دعاوى موجهة إلى المريض والطبيب، ظاهرها الدقة والجدية والحقائق العلمية. فعندما يبلغنا – خاصة شفهيًا – أن الاختبارات العلمية كشفت عن قدرة دواء على خفض احتمالية الإصابة بمرض ما بنسبة 50% – على سبيل المثال – يبدو الأمر صادقًا وصريحًا بصورة لا تدعو إلى أي شك. لكن الشك هنا هو التصرف الصحيح.

في الواقع، تخص النسبة المذكورة بالأعلى حالة محددة، هي دواء «أتورفاستاتين» – نوع من الستاتينات – الذي يحقق لشركات الدواء العالمية عشرات المليارات من الدولارات سنوياً، منها «فايزر» الأمريكية التي تسوقه تحت اسم «ليبيتور». تدعم فايزر منتجها بحملات دعائية وتسويقية عملاقة يخاطب بعضها المرضى ويخاطب البعض الآخر الأطباء، تحقق لها بالفعل مبيعات تتجاوز العشرة مليارات دولار سنوياً.

في العام 2008، تضمنت إحدى الدعاية صورة ترويجية يظهر فيها «روبرت جارفيك» – عالم أمريكي مرموق ومطور القلب الصناعي – مع نص يؤكد قدرة الدواء على خفض احتمالية الإصابة بالنوبة القلبية بنسبة 36% (كتبت الأرقام بخط عملاق) للمرضى ذوي عوامل الخطورة المتعددة. لكن كتب أسفل الإعلان بخط صغير توضيحاً كثيراً ما تخطئه العين، يتعلق بـ«نسبة خفض الخطر النسبي» (relative risk reduction). فما ذلك؟

حسناً، الخدعة تكمن في كلمة «نسبي». بمعنى أن الانخفاض في احتمالية إصابتك بنوبة قلبية هنا بمقدار الثلث تقريباً، ليس انخفاضاً مطلقاً، بل انخفاض في مقدار نسبة أخرى، هي النسبة الأهم التي تخفيها الدعاية والمطويات قدر الإمكان. في حالة ليبيتور تحديداً، كانت الـ36% تعبر عن انخفاض في احتمالية إصابة مطلقة كانت في الأصل 3% ثم تحولت بفضل الدواء السحري إلى 1.9%.

نكرر للتوضيح، كانت احتمالية إصابة هذا القطاع من المرضى بنوبة قلبية نحو 3% فقط في البداية، ثم انخفضت مع تناول الدواء إلى 1.9%. مع الانتباه إلى ما توحي به النسبة الضخمة مجردة في البداية، من أن احتمالية الإصابة التي انخفضت بمقدار 36% كانت في الأصل 100%، وهو التباس يسهل التعرض له دون وعي.

على أي حال، يبقى الانخفاض في حالة ليبيتور انخفاضا تافها في المطلق، لكنه انخفاض عظيم نسبياً يصلح ذكره منفردًا لخداع الجمهور. ولك أن تقارن في مخيلتك بين الوقع النفسي لدعاية تخبرك أن دواء سيخفض احتمالية إصابتك (النسبية) بالنوبة القلبية بنسبة 36%، والوقع النفسي لدعاية تخبرك بأنه سيخفض احتمالية إصابتك (المطلقة) بنسبة 1.1% فقط، ومن سوء الحظ أن الدعاية الثانية هي الأدق.

في النهاية، لديك الآن دافع قوي للتشكك في تلك النوعية من الدعاية الطبية المغرية مستقبلا، كما يمكن لاستشارة طبيبك الخاص أن تنجيك من تلك الحيلة. لكن القسم التالي أقرب إلى التزوير والتلاعب منه بالخداع أو ألعاب الحواة، بل لعله أقرب إلى المجازر نظرًا لطبيعة ضرره التراكمية والمستديمة واسعة النطاق.


التزوير العلمي

تغولت مافيا الدواء خلال العقد الأخير حتى أحكمت قبضتها الناعمة على مفاصل البحث العلمي الكبرى، بفضل مئات المليارات من الدولارات التي تجنيها سنوياً. وهو ما حذر منه الكثيرون، نشطاء وأطباء وعلماء وسياسيون. مثل «مارسيا أنجل»، الطبيبة والكاتبة الأمريكية، وأول امرأة تتولى رئاسة تحرير «مجلة نيو إنغلند الطبية» (NEJM) العريقة، إذ كتبت في العام 2009 مقالة بعنوان «شركات الدواء والأطباء: قصة فساد»، جاء فيها:

ببساطة، لم يعد بالإمكان تصديق كثير من البحوث السريرية المنشورة، أو الاعتماد على حكم الأطباء الموثوق بهم أو الإرشادات الطبية الرسمية. ولست أجد أدنى متعة في البوح بهذه النتيجة التي توصلت إليه ببطء وعلى مضض على مدار العقدين الذين عملت فيهما محررة.

بما يتفق مع ما كتبه «ريتشارد هورتون»، الأستاذ الجامعي الإنجليزي المرموق ورئيس تحرير مجلة «ذا لانسيت» الطبية العريقة، في مقالة نشرها في العام 2015:

إن الاتهام الموجه إلى العلم صريح: الكثير من الأدبيات العلمية، ربما نصفها، ببساطة: غير صحيح. لقد ابتلي العلم بدراسات ذات عينات صغيرة الحجم، وآثار تافهة، وتحليلات استكشافية خاطئة، وتضارب فج في المصالح […] ليسلك بذلك منعطفًا يودي إلى الظلام.

وفي الرابع من أبريل/نسيان من العام 2018، عقد البرلمان الأوروبي جلسة استمرت ساعتين، تحت عنوان «إمبراطوريات الطعام والدواء: هل تقتلنا من أجل الربح». شارك فيها عدد من المتخصصين، مثل «أسيم مالهوترا» طبيب القلب والكاتب الإنجليزي صاحب الحضور الإعلامي البارز.

أوضح الحضور عددًا من التبعات الكارثية لتغول إمبراطوريات الطعام والدواء، منها تضارب المصالح البشع الذي أضر أشد الضرر بـ«الطب المسند بالدليل» وأثره المدمر على الصحة العامة. ويتخذ تضارب المصالح صور عدة، كما لا يقتصر أثره على مرحلة محددة من البحث العلمي.

اليوم، تتولى مافيا الدواء تمويل نسبة هائلة من التجارب العلمية التي أثارت بعضها جدلاً كبيراً. منها تجربة «جوبيتار» السريرية الممولة من قبل شركة «أسترازينيكا» العالمية لصناعة الدواء، والمنشورة في العام 2008 بمجلة نيو إنغلند الطبية، حيث أكدت الأثر الإيجابي للستاتينات في درء النوبات القلبية.

لكن تقييم نقدي نشر في «مجلة جاما للطب الباطني» بعد عامين، خلص إلى أن تجربة جوبيتار تفتقر إلى الاتساق في النتائج بصورة تدعم الاتهامات الموجهة إلى التجارب السريرية الممولة تجارياً، من حيث ضعف الجودة والتحيز المخل، إلى جانب تعدد صور تضارب المصالح، مثل العلاقات المالية التي تربط تسعة من محرري التقرير الرئيسي الأربع عشرة بشركة أسترازينيكا. أو الارتباط الواضح بين فساد البيانات الأولية الخاصة ببعض الأدوية والتحكم المطلق لباحثي الشركة في جمع وإدارة جميع البيانات الأولية. أو انتقاء مجموعة علاج وهمي (placebo group) ذات قابلية أكبر للإصابة بمشاكل قلبية، رغم لزوم تطابق احتمالات الإصابة بين جميع العينات.

الأكثر كارثية من بحوث منفردة كالمذكورة بالأعلى – رغم ضخامة عددها وخطورتها الجسيمة – هو التلاعب بالتحاليل التلوية (Meta-analysis). فالتحاليل التلوية هي تحليلات إحصائية لنتائج مجموعة من الدراسات السابقة، بهدف اكتشاف علاقة مشتركة أو استنباط توجه عام.

في العام 2015، على سبيل المثال، نشرت مجلة علم الأوبئة السريري دراسة شملت 185 تحليلاً تلوياً يخص الأدوية المضادة للاكتئاب، لتكتشف أن ثلث تلك المواد من حررها موظفون لدى مافيا الدواء. ننقل هنا تعليق «جون إيوانيديس» أستاذ الطب وعلم الأوبئة الأمريكي بجامعة ستانفورد، وأحد المشاركين في تأليف الدراسة:

كنا نعلم أن صناعة الدواء مستعدة لتمويل دراسات تروج لمنتجاتها، لكن تمويل التحليلات التلوية التي لطالما كانت حصناً حصيناً للطب المسند بالدليل أمر مختلف تماما […] إنه هذا التأثير الجارف للتحيزات وتضارب المصالح في المجال أمر مذهل حقًا.

علاوة على ذلك، تؤثر مافيا الدواء في البحث العلمي بطرق غير مباشرة. مثل النشر الانتقائي للأبحاث والتجارب السريرية ونتائجها، بما يغري الباحثين بتصورات غير واقعية عن فاعلية الدواء ونسب المخاطر وما شابه. يحدث ذلك كثيراً مع تجارب الدواء الفاشلة، أو تلك التي ترصد آثارًا جانبية قد تضر بسمعة الدواء في السوق.

نتيجة للوعي المتزايد بأضرار النشر الانتقائي، بدأت بعض الدول الأوروبية في سن قوانين تجبر شركات الدواء على إتاحة نتائج التجارب السريرية والتجارب قبل السريرية، نظراً للأهمية الحيوية لتلك البيانات. وما زال الوعي بألاعيب وجرائم مافيا الدواء في ازدياد، لكنه ما يزال أقل كثيرا مما نحتاجه لمكافحة تغولها وسمومها المبثوثة بين أوراق البحوث والمراجع العلمية.

يحفظ أكثرنا النداء الشهير «لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل، الدواء فيه سم قاتل» الذي بثته الإذاعة المصرية مراراً خلال أحداث فيلم «حياة أو موت» (إنتاج 1954)، بهدف إنقاذ المواطن «أحمد إبراهيم» – لعب دوره الفنان «عماد حمدي» – من جرعة دواء فاسد، سارع الصيدلي الذي أخطأ في إعداده ذاته – لعب دوره الفنان «حسين رياض» – بإبلاغ السلطات معرضًا نفسه للعقوبة.

لكن اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، يأبى القدر الساخر إلا أن يصير الإعلام والبحث العلمي ذاتهما أداة في يد مافيا الدواء، تخدع بها أحمد إبراهيم ورفاقه لسرقة أموالهم وربما حياتهم أيضًا.