يعتبر النشاط البركاني وسلوك الصخور المنصهرة وحركتها من أكثر العوامل المستخدمة في تفسير الظواهر التي نراها في تكوين الأرض وعلى سطحها وشكلها. كذلك من السهل اكتشاف مدى تأثير المناخ على السطح بما في ذلك من عوامل تعرية وتآكل بل وفي تكوين بلورات الصخور ذاتها.

لكن هل فكرت يومًا بالعكس؟ هل من الممكن أن يؤثر السطح وأحداثه على النشاط البركاني وعلى حركة الصخر المنصهر الطافي من عمق الأرض لسطحها؟ وإن حدث هذا فأي من العمليات السطحية يمكن أن يكون له هذا التأثير؟

يجيب الجيولوجيون في جامعة جنيف بسويسرا UNIGE بالتعاون مع باحثين من مختلف أنحاء العالم عن هذا السؤال في بحثهم الجديد المنشور في دورية نيتشر لعلوم الأرض Nature Geoscience.

تبدأ القصة من حوالي 6 ملايين عام.


عطش البحر

نقف الاّن أمام مشهد من الحقبة الميسينية Messenian من العصر الميوسيني Miocene. تتحرك صفيحة إفريقيا التكتونية نحو الشمال (ولا زالت) مقتربة من صفيحة أوروبا. بدأ سد كبير في التكون بعرض مضيق جبل طارق فاصلاً بين البحر الأبيض المتوسط وبين المحيط الأطلنطي.

انخفض منسوب مياه البحر وأصبح السطح منخفضًا عن قمة السد فتوقف تدفق الماء من الأطلنطي للأبيض المتوسط. هكذا بدأ زمن العطش وبدأ البحر الأبيض بالتبخر الشديد حتى وصل لمرحلة الجفاف التام. لم تكن المياه التي تصل إليه من النهر تتعدى 10% من تغذيته، كما أن معدل تبخر المياه من سطحه تبلغ عشرة أضعاف هذه الكمية.

لم يلبث البحر حتى جف تمامًا ووصل لمرحلة التجفف desiccation تاركًا وراءه كل أملاحه الذائبة –ولو تعد كذلك- على هيئة طبقة هائلة من خامات الهاليت Halite، والجبس Gypsum وغيرها على أرضية حوض البحر. تكرر الأمر متسببًا في طبقة تبلغ من السمك كيلومترين من الصخور الرسوبية المذكورة مصحوبة بالطمي المضغوط والحصى.

هكذا تسبب انغلاق مضيق جبل طارق في خنق البحر الأبيض المتوسط حتى الجفاف. لكن عمق الأرض كان يحمل تفاصيل أكثر.


مفاجآت تحت الماء

أثناء إجراء الجيولوجيين والمهندسين لأبحاثهم تمهيدًا لإقامة السد العالي بأسوان، تم اكتشاف أن مجرى النيل لم يكن طبقة مسطحة كعادة الأنهار التي تقوم المياه السريعة بكحتها. بدلاً عن ذلك تم اكتشاف ما يشبه الوادي المملوء بالحصى والطمي والرمال.

كان التفسير الوحيد الممكن لمثل هذا التكوين هو فترات الراحة التي تخللت فترات جفاف البحر الأبيض. ما إن يعود البحر للامتلاء بالماء (عند ارتفاع مستوى سطح البحر في فترات الدفء) حتى تسرع المياه لتصب في مجرى النيل المنخفض وقتها لتملأ جوفه بالحصى والطمي[1].

يطرح هذا التصور سؤالاً جديدًا، كيف تكون هذا الوادي وهذه التجاويف التي تقبع تحت البحر الأبيض ذاته؟، لماذا انبثقت مجارٍ نهرية عديدة في هذه الفترة تم غمرها لاحقًا على مر التاريخ؟، من أين أتت هذه اللا خطية Non-linearity في تكوين سطح الأرض في هذه المنطقة؟.

هذه بالضبط هي الحلقة المفقودة التي سلط عليها الفريق البحثي الضوء وتناولها بالبحث. إن عمليات السطح surface processes هي الوحيدة التي تملك القوة والقدرة على التحكم في مثل هذه التنوعات.


تبادل أدوار

عند محاولة إحصاء عدد الثورات البركانية التي تعرضت لها منطقة البحر المتوسط وحدودها لاحظ العلماء اطرادًا واضحًا في الفترة الميسينية. يدل وصول تعداد الثورات البركانية في المنطقة إلى 13 ثورة – وهو ما يعد أكثر من ضعف المعدل الطبيعي – على أن اختلافات عميقة قد حدثت في البيئة المتوازنة تحت الأرض.

يتطلب هذا النشاط البركاني المبالغ فيه تفسيرًا واضحًا وهو الأمر الذي من الممكن أن توفره لنا دراسة الظروف التي تتعرض لها الماجما -الصخور المنصهرة- تحت الأرض. وبالأخص الضغط pressure.

يشير البحث الجديد بواسطة حسابات دقيقة إلى أن الحدث الوحيد المعاصر لهذه الفترة ولديه القدرة الكافية على التأثير على الضغط الذي تتعرض له الماجما في المنطقة هو ببساطة جفاف البحر الأبيض المتوسط، وذلك في انعكاس واضح للأدوار التي اعتدنا عليها. كيف هذا؟.

تؤدي الاختلافات في أوزان كميات المياه التي تملأ حوض البحر وأوزان الصخور المترسبة وطبقات الاملاح أيضًا في إحداث تقلقل fluctuation في الضغط الذي تتعرض له الماجما تحت سطح الأرض. يؤدي عدم الاستقرار هذا لمزيد من الماجما التي ترتفع للسطح وتتصلب وتخلق في طريقها التجاويف والوديان التي تعتبر علامة النشاط البركاني والتي صدمت بوجودها الجيولوجيين إبان بناء السد العالي.

وهكذا ومساعدة التحليل الكيميائي لتكوين الصخور القابعة على حوض البحر أمكن تقديم أدلة على النشاط البركاني الزائد وتحديد عمره – أو مدى قدمه – وهو الأمر الذي يمكن مقارنته كميًا بتأثير وزن الماء المتناقص على ضغط الصخور المنصهرة.

بهذه الطريقة أمكن التدليل على أن النشاط البركاني لا يلعب دور «المسبب» دائمًا بل إنه نتيجة في أحيان أخرى ليس بقليلة أو هامشية. يجعل هذا البحث من نظام العمليات الجيولوجية نظامًا ديناميكيًا تستطيع عملياته التداخل والتسبب في بعضها البعض دون أن يكون أحدها –كالنشاط البركاني-هو الأصل دائمًا، هذه الديناميكية التي جعلت من الأرض الحية حالة ممكنة.

المراجع
  1. Stephen Marshak- Earth: a portrait of a planet. Chap 7