إنْ تميز نظام انتقال الحكم خلال العصر المملوكي في مصر والشام (1250م-1517م) بشيء، فإنه يتميز بالدرامية والدموية في الغالبية العظمى من حالاته. فمن بين نحو 55 سلطانًا انتهت عهود أكثر من 35 منهم بانقلابات، وانتهت حياة أكثر من 20 منهم بين القتل اغتيالًا أو إعدامًا أو بميتة شابتها شبهة اغتيال. والملاحَظ أن بين كل الأنظمة التي حكمت مصر عبر تاريخها الطويل، لم ينته عهد حاكم قَطّ بـ«الإعدام» إلا في العصر المملوكي، فعَن حالات إعدام بعض سلاطين المماليك نتحدث.


الإعدام في العصر المملوكي

فيما يتعلق بالسلاطين المخلوعين بالذات كان تنفيذ الإعدام يتم بشكل أشبه بالقتل العفوي أو الاغتيال.

بينما كانت عملية إعدام شخص من العوام نتيجة مترتبة على تحقيق ومحاكمة ورأي قضائي بأنه-وفق صيغة هذا العصر-قد اقترف «ما يوجب إراقة دمه»، كان إعدام من ينتمون للطبقة الحاكمة يفتقر إلى كل تلك الإجراءات، فكان يكفي أن «يتكدر خاطر السلطان» عليه أو أن يظهر «بالجرم المشهود» وقد ارتكب ما يوصف بأنه «خلع الطاعة» حتى يُقتَل سواء علانية عند بعض أبواب القاهرة أو ليلًا في محبسه.

وحتى وظيفة «الجاندار» والتي تعني بالتركية القديمة «ممسك الأرواح»، وهو الأمير المكلف باعتقال وقتل من يأمر السلطان فيهم بذلك، لم نطالع كثيرًا قيام شاغلها بعمله كمنفذ لمثل تلك الأحكام بالإعدام، بل عادة ما كان يقوم بها «المشاعلي” وهو الجلاد، أو كان يوصف مشهد القتل بأن المحكوم بالموت قد «أُرسِل إليه من قتله ليلًا في محبسه».

وفيما يتعلق بالسلاطين المخلوعين بالذات كان تنفيذ الإعدام يتم بشكل أشبه بالقتل العفوي أو الاغتيال، وهذا يضع الباحث في هذا الشأن في حيرة، فيما يتعلق بالتمييز بين من قُتِلوا بعد خلعهم من السلاطين ومن أُعدِموا بمعنى تنفيذ حكم بالموت بحقهم. لهذا فمعيار التمييز هنا؛ هو أن يكون القتل قد جاء إما بأمر رأس السلطة التالية -أي السلطان المستولي على السلطة من المخلوع- أو من يقوم مقامه، أو أن يكون قد جاء بإجماع الأمراء القائمين بخلع السلطان المقتول عن الحكم وليس بحركة فردية من بعضهم.

بهذا المعيار يتم حصر الذين قُتِلوا إعدامًا من سلاطين المماليك. ووفقًا للمعيار سالف الذكر فإن تسعة ممن قتلوا من سلاطين المماليك نستطيع أن نصف نهايتهم بـ«الإعدام».


1. شجر الدر (1250م/648هـ – 1257م/655هـ)

أول سلاطين العصر المملوكي، لم يشفع لها قيامها بإدارة شئون الدولة باقتدار عند وفاة زوجها السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وما كان منها بعد ذلك من تنازل عن العرش -ولو بشكل صوري- تجنبًا للمشكلات التي كان يمكن أن تجرها الغضبة العامة من تولي امرأة الحكم. فعندما دبرت اغتيال شريكها وزوجها المعز أيبك في حمامه ردًا على محاولته إقصاءها عن صنع القرار، سارع مماليك أيبك لاعتقالها وتسليمها لأرملة السلطان المقتول بينما تخلى مماليك الصالح نجم الدين أيوب عنها رغم سابق تعصبهم لها.

وفي بيت أم علي -أرملة أيبك- قامت جواري تلك الأخيرة، بضرب شجر الدر بالقباقيب حتى الموت في حفل دامٍ استمر من المغرب لفجر اليوم التالي.

تسليم شجر الدر لقتلتها أخذ شكل «تسليم القاتل لولي دم المقتول للقصاص منه»، وغالبًا جاء هذا تجنيبًا لأولي الأمر من بعد أيبك لحرج قيامهم بقتلها بشكل مباشر، وهي من هي مكانةً سواء بحكم موقعها من سيديهم السابقين -أيوب وأيبك- أو بحكم بلائها في إنقاذ البلاد من الغزو والفراغ السياسي


2. المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير «بيبرس الثاني» (1309م/708هـ – 1310م/709هـ)

الخنق بوتر القوس كان من أشهر طرق القتل عند المماليك، حيث اقتبسوا هذا الأسلوب من المغول وقبائل الترك.

بعد اغتيال السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، قام مماليك آل قلاوون بتولية أخيه الأصغر الناصر محمد سلطانًا اسميًّا على البلاد، وتسلطوا باسمه على الحكم حتى استولى أحدهم -العادل كتبغا- على السلطة، ثم انقلب عليه حسام الدين لاجين الذي اغتيل بعد ذلك ليوضع الناصر محمد مرة ثانية على الكرسي لمدة عشر سنوات، تسلط فيها على الحكم كلا من الأميرين بيبرس الجاشنكير وسلار.

عندما بلغ الناصر سن الشباب ضاق بتسلط الأميرين عليه، فهرب من القاهرة للكرك بالأردن ومن هناك بدأ يحشد أنصاره للعودة للحكم كسلطان فعليّ هذه المرة.

عند هرب الناصر أحسّ سلار أن كرسي السلطنة قد صار محفوفًا بالمخاطر، فورط بيبرس الجاشنكير في تولي المنصب، ووجّه هذا الأخير بانفضاض الأمراء عنه وانضمامهم للناصر محمد؛ الذي حشد جيشًا توجه به لمصر التي اشتعلت بالثورة الشعبية ضد حكم الثنائي بيبرس وسلار، واضطر الأول لترك السلطة والهرب لكنه وقع في يد السلطان الناصر؛ الذي انتقم منه بأن أمر بإعدامه في حضرته خنقًا بوتر القوس بعد أن سرد عليه جرائمه بحقه وأغلظ له في اللوم عليها.

الخنق بالوتر كان من أشهر طرق القتل عند المماليك، الذين اقتبسوا هذا الأسلوب من المغول وقبائل الترك التي كانت تؤمن بحرمة إراقة دم ملكيّ، فكانوا إذا أرادوا قتل من خلعوه خنقوه بوتر القوس حتى الموت.


3. الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون (1342م/742هـ-743هـ)

بعد وفاة الناصر محمد دأب أمراؤه على اختيار سلاطين صوريين من نسله فقط، لإضفاء الشرعية على سيطرته -الأمراء- على السلطة من خلف ستارهم. ورغم تحذير الناصر قبل موته من تولية ابنه أحمد الحكم لانحلاله وفساد أخلاقه، إلا أن الأمراء قد ولوه السلطنة بعد إطاحتهم باثنين سابقين من أبناء السلطان الراحل.

كان الناصر أحمد يعيش في منفاه بالكرك حياة الانحلال والعربدة، وعندما أرسل له كبار رجال الدولة يخبرونه اختيارهم له سلطانًا قابلهم بالكبر والترفّع وأهان مكانتهم مما زرع فيهم كراهيته قبل حتى أن يبدأ عهده، ثم ارتكب الحماقة الكبرى حين انتقل بخزائن السلطنة إلى الكرك، ليطلق العنان لملذّاته بعيدًا عن محاولات الأمراء إقناعه بمراعاة شكليات الآداب السلطانية، ثم قيامه بقتل بعض الأمراء المعارضين لممارساته، فما كان منهم إلا أن خلعوه وولّوا أخاه إسماعيل الذي بقي لمدة عامين يرسل الحملات إلى الكرك لإجباره على رد خزائن الدولة المنهوبة.

وأخيرًا تخلى عنه أنصاره بالكرك وسلموه لأعدائه الذين قتلوه بعد اجتماع أمرهم على ذلك. ولم يتحدد أسلوب إعدامه وإن كان رأسه قد حمل ليوضع بين يدي أخيه بالقاهرة.


4. الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون(1345م/746هـ – 1346م/747هـ)

تولى السلطنة بعد وفاة أخيه إسماعيل، وكان مدبّر مملكته الأمير أرغون العلائي الذي كان قد تزوج أمه بعد وفاة أبيه الناصر محمد. وكسيرة سلفه الناصر أحمد كان شعبان منحلًا عربيدًا ولكنه زاد على الأمر إباحته الدعارة واستحداثه شراء المناصب الرسمية بالرشوة.

عبثًا حاول الأمر أرغون إصلاح حال ابن زوجته ولكنه فشل، وما كان من الأمراء الساخطين على السلطان إلا أن انقلبوا عليه وحبسوه بالقلعة ثم أجمعوا على قتله فقتل ودفن بالليل. باختصار كان أسوأ من سلفه الفاسد ولكن نهايته كانت أكثر سرعة ودرامية.


5. المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون(1346م/747هـ – 1347م/748هـ)

وكأنما كان ينافس سلفيه في الانحلال والفساد، فقد كان المظفر حاجي يفوقهما في هذا المضمار إلى حد أنه كان يخالط أهل الفساد والانحلال من العامة ويحضرهم إلى القلعة -مقر الحكم- ليلهو معهم.

إضافة لذلك فقد أحضر إلى مقره جارية اسمها «اتفاق» أنفق عليها الكثير من الأموال، وارتبط بعلاقة صداقة بأمير اسمه «غرلو» اتخذه السلطان ذراعًا يمنى، فزيّن غرلو لسيده التخلص من الأمراء الذين يتسلطون عليه، فانهال عليهم تقتيلًا واغتيالًا حتى اجتمعوا على خلعه واعتقلوه، ثم أرسلوه مع أحدهم خارج القاهرة ليقتله في جنح الليل.


6. الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون(1363م/764هـ – 1377م/778هـ)

بعد تعاقب عدد من السلاطين/الدمى على كرسي الحكم، تولى شعبان -المنتمي للجيل الثاني من آل محمد بن قلاوون- الحكم صبيًا في الحادية عشر من عمره. كان الأمراء يأملون أن يكون دمية كأسلافه، إلا أنه تمكن من السيطرة على الحكم بعد عدد من المحن والمصائب منها الوباء الذي أفنى الآلاف من أهل مصر، والهجوم الفرنجي على الإسكندرية الذي أسقط نحو 20 ألفًا من أهلها، ثم محاولتان لخلعه من بعض أمرائه.

هذه المرة جاء الانقلاب عليه نتيجة قدرته العالية على السيطرة على الحكم، ومحاولته رد الهيبة لمنصب السلطنة. فاستغل الأمراء خروجه للحج وحاولوا قتله عند مدينة أيلة (العقبة)، فهرب إلى القاهرة حيث وجد باقي المتآمرين في انتظاره فاختبأ في بعض البيوت، حتى عثروا عليه وأعدموه سرًا ثم ألقوا جثته مقطعة في قفة خارج قلعة الجبل.

إعدام الأشرف شعبان جاء بمثابة رسالة من مراكز القوى للتاليين من السلاطين أن »أطيعوا المتسلطين عليكم وإلا فإن مصير المتمرد معروف».


7. الناصر (1398م/801هـ – 1412م/824هـ)

بعد انتهاء حكم آل قلاوون انتقلت السلطنة لفئة المماليك ذوي الأصل الجركسي (دولة المماليك الجراكسة-العصر المملوكي الثاني)، بتولي برقوق السلطة، ورّث برقوق الحكم لابنه الطفل فرج ذي العشر سنوات، واستمر الأمراء في صراع وصدام على من يتسلط عليه ويحكم من وراء اسمه لمدة عامين حتى فاجأهم فرج، وهو ابن الثانية عشر بأن استحضر فتوى من القضاة بأنه قد رشد ولم يعد في حاجة إلى وصاية.

أبدى السلطان سبقًا لسنه، ولكن في مجال التآمر والقتل وليس الحكم والسياسة. فبدأ يدبر المذبحة تلو الأخرى بحق الأمراء الطامعين في التحكم فيه، ثم تطور به الأمر لحالة من البارانويا جعلته يسارع للقتل لمجرد الريبة. فتشكلت سحب الفتنة في «الديار الشامية» من المملكة، وأصبح الشام ملجأ لكل متمرد عليه، وعبثًا حاول القضاء على هذا التمرد بإرسال الحملة تلو الأخرى حتى قرر الخروج في آخر تلك الحملات حيث هزمه المتمردون واعتقلوه في أحد أبراج قلعة دمشق.

وهناك تسلل إليه أربعة رجال حاولوا خنقه ثم اضطروا لذبحه عندما اشتدت مقاومته لهم، وألقوا جثته عارية تحت أسوار القلعة، وأشيع وقتها أنهم من «الفداوية» (فئة القتلة الانتحاريين في حركة الحشاشين). ولكن حقيقة الأمر أن هؤلاء الذين قتلوه -أيًا كانت صفتهم- قد دخلوا إليه بإجماع آراء الأمراء المنتصرين، والذين أرادوا أن يبدو الإعدام في شكل اغتيال إرضاءً للسلطان الجديد المؤيد شيخ المحمودي الذي لم يكن راضيًا عن فكرة قتل السلطان المعزول، فكان ما يمكن وصفه بـ «الإعدام اغتيالًا».


8. قنصوة من قنصوة «قنصوة الأول» (1498م/904هـ – 1500م/905هـ)

هو خال السلطان السابق له «محمد بن السلطان قايتباي» – والسلطان محمد هذا كان قد اغتيل لدمويته وجنونه -، و«مِن» في الأسماء المملوكية تعني نسبته للتاجر الذي جلبه لمصر، فالذي جلبه كان يدعى أيضًا قنصوة. والغريب أن هذا السلطان قنصوة لم يُجلَب صغيرًا بل جلب في سن الرابعة والعشرين وتولى السلطنة في سن الثلاثين.

كانت شمس دولة المماليك في هذا الوقت تميل للانحدار تمهيدًا لغروبها الأخير، فكانت الفتن والصراعات الدامية تطحن الدولة. نتيجة لذلك تعرض قنصوة لتمرد من الأمراء الذين حاصروا القلعة وضربوها بالمدافع، حتى اضطر للتنكر في شكل امرأة منتقبة والهرب، ثم أرشد عنه البعض وسلّمه للمتمردين.

ولكن نهاية قنصوة لم تكن على يد من خلعوه، بالعكس فقد سمحوا له بالمضي إلى منفاه بالإسكندرية والتحرك فيه بحرية. ولكن بعد دخول العثمانيين إلى مصر سنة 1517م أشاع البعض أن المماليك قد يستغلون وجوده على قيد الحياة، ليلتفوا حوله ويتخذوه سلطانًا فأمر سليم الأول العثماني بإعدامه وأرسل له من خنقه بمنفاه.


9. الأشرف طومان باي «طومان باي الثاني» (1516م/922هـ – 1517م/923هـ)

بعد هزيمة المماليك من جيش العثمانيين في مرج دابق بالشام، ومصرع السلطان قنصوة الغوري «قنصوة الثاني»، سلطن الأمراء الأمير طومان باي ليقود المقاومة من مصر.

وفي الريدانية تعرض الجيش المملوكي الهزيل للهزيمة، مما اضطر طومان باي للهرب والاختباء عند صديق له من عربان البحيرة ليمهد لمقاومة الاحتلال. ولكن هذا الصديق خالف كل آداب الضيافة، فأفشى سر ضيفه للمحتل العثماني الذي أسر طومان باي ووضعه في الحبس.

يقال أن سليم الأول لم يكن ينتوي قتل طومان باي بل كان معجبًا بشجاعته، ولكن بعض أمراء المماليك -ممن خانوا جيشهم وانضموا للعثمانيين-، نصحوه بذلك خوفًا منهم أن يجعله واليًا على مصر فينكل بهم، فأمر سليم العثماني بشنق طومان باي على باب زويلة، وسار السلطان الأخير في موكب إعدامه يلقي السلام على من يلقاهم، حتى بلغ المشنقة فطلب من الحضور أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قال للجلاد «اعمل شغلك» وحاول الجلاد شنقه مرتين إلا أن الحبل قد انقطع وفي المرة الثالثة تم شنقه.

جدير بالذكر أن هذه هي الحالة الوحيدة -بين الحالات السابقة-، لأن يأخذ شكل إعدام السلطان المملوكي الشكل المعروف للإعدام بعد أن كان عادة ما يُقتَل بشكل خفي أشبه بالاغتيال.


طبيعة الطبقة الحاكمة للدولة المملوكية كطبقة محاربة بطبعها فرضت نفسها على عملية تداول السلطة؛ فكان من الطبيعي أن يأخذ هذا الشكل العنيف أحيانًا، حتى فيما يتعلق بتنفيذ حكم بالإعدام وليس مجرد عملية اغتيال. ولعل الملاحظة الجديرة بالتأمل في هذا الشأن هي أن الإعدام كان نهاية أول سلاطين هذه الدولة، ونهاية آخرهم كذلك.