في النهاية، نحن نحكي قصصًا، وإذا أردت أن تكون صانع أفلام، فإن أفضل شيء يمكنك أن تقدمه للعالم هو حكايتك الخاصة.
المخرج الأمريكي “دارين أرونوفسكي”

في عام 2002، منحت استوديوهات (Warner Bros) الضوء الأخضر لمشروع دارين أرونوفسكي (The Fountain) بميزانية 70 مليون دولار. كان براد بيت المنخرط في المشروع منذ بدايته، هو من سيؤدي آنذاك الشخصية الرئيسية في الفيلم. يعود مشروع هذا الفيلم شديد الطموح لبداية الألفية الجديدة حين تم تشخيص والدي أرونوفسكي بمرض السرطان ليجد أرونوفسكي نفسه غارقًا في هواجسه الخاصة عن الموت والفناء والخلود، وبشكل ما كان مشروع هذا الفيلم سبيله لتجاوز هذه اللحظة. 

  أنفق أرونوفسكي 18 مليون دولار من ميزانية فيلمه على بناء الديكورات وبعض التحضيرات التي تسبق الشروع في التصوير، وهو ما أقلق الجهة المنتجة، ثم  يأتي انسحاب براد بيت- يذهب للمشاركة في بطولة فيلم (Troy )-  كمبرر أكبر لإيقاف المشروع من قبل استوديوهات (Warner Bros). يصف أرونوفسكي في أحد حواراته اليوم الذي كان عليه أن يذهب ليتلقى شخصيًّا خبر إيقاف مشروع فيلمه باليوم الأسوأ في حياته.

 ظل لشهور غير قادر على تجاوز هذه اللحظة، ما الذي يجب فعله من أجل مشروعه؟ هل يتجاوز ويبدأ في العمل على مشروع آخر؟  يحكي:

في إحدى ليالي الأرق الممتدة، تركت سريري  وجلست إلى مكتبي. وضعت أمامي جميع الكتب التي قرأتها أو استعنت بها في الإعداد لهذا الفيلم، وأدركت حينها أنني مقتنع تمامًا به، وأنني لن أستطيع المضي قدمًا في أي شيء آخر ما لم أصنع هذا الفيلم.

شرع أرونوفسكي في كتابة سيناريو جديد للفيلم بحيث لا تزيد تكلفة إنتاجه عن 35 مليون دولار،  واستعان بالأسترالي  هيو جاكمان ليحل محل براد بيت ليستعيد مشروعه من بين الأموات. 

 

في فيلمه (The Fountain) الممتد في ثلاثة أزمنة، يسيطر على بطله على نحو استحواذي هاجس هزيمة الموت، مرة بإيجاد عقار ما من أجل إنقاذ حبيبته المحتضَرة بالسرطان ومرة كمحارب إسباني يبحث عن شجرة الحياة من أجل ملكته. هذا هوس مخرج بفيلم يدور عن الهوس. لا تقتصر تيمة الهوس على هذا الفيلم فقط في مسيرة مخرجه، بل يمكننا القول إن الهوس هو حكاية أرونوفسكي الخاصة والخيط الذي ينظم أفلامه معًا  منذ أول أفلامه (pi) حتى أحدثها (Mother!).

شيء ما ذاتي تمامًا يدفعه نحو هذه السيناريوهات بعينها، بعوالمها المظلمة والقاسية وشخصياتها المعذبة.

يمكن رد انجذابه لتقديم حكاية من العهد القديم كحكاية النبي نوح في فيلمه (Noah) للفكرة نفسها: إنها حكاية أخرى عن بطل مأخوذ بهواجسه، مقود برؤيا أبوكاليبسية للعالم والبشر، إذ يرى أنه ليتخلص العالم من الشر لا بد أن يفنى البشر عن آخرهم. هذه لمسة أرونوفسكي الخاصة التي تجعل حكاية توراتية تتسق داخل عالمه السينمائي.

الفكرة الإخراجية عند دارين أرونوفسكي

 

 في كتابه (فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجًا عظيمًا؟) يشير (كين دانسايجر) إلى مفهوم الفكرة الإخراجية  للتعبير عن الأفكار الأساسية التي تتخلل سينما مخرج ما، والتي تحرك رؤيته الإخراجية وتمنحه صوتًا خاصًّا وبصمة مميزة.  

الهوس هو الفكرة الإخراجية الأكثر إلحاحًا في سينما أرونوفسكي، هوس مظلم  يستنفد أبطاله جسدًا وروحًا. في كل فيلم من أفلامه يعيد استكشاف الهوس المهلك لأبطاله بنفس الحماس.

 

 في فيلمه الأول (pi) يتتبع يوميات عالم رياضيات عبقري يدعى ماكس كوهين/ شون جوليت، يعاني من البارانويا (جنون الاضطهاد والعظمة). يسعى دون جدوى إلى العثور على الرقم الناقص في معادلته الرياضية التي يمكن أن تضع  فوضى العالم داخل إطار منظم. العالم الفوضوي يدفعه نحو الجنون، وهو يبحث عن نظام ما، عن معنًى خلف هذه الفوضى، هذا السعي يستحوذ عليه تمامًا ويتركه بلا حياة تقريبًا، غارقًا في جحيم من الأصوات والصور.

 في (Black Swan) لدينا نينا/ ناتالي بورتمان راقصة بالية  في أحد باليهات نيويورك المرموقة، يتم اختيارها أخيرًا لدور البطولة في باليه بحيرة البجع لتشايكوفسكي. يضعها هذا الدور في مواجهة مع ذاتها بكل تعقيدها وهشاشتها، ومع سعيها نحو الكمال في أداء دورها تضع وجودها نفسه على المحك. 

في (The Wrestler) لدينا مصارع يدعى راندي روبنسون/ ميكي روك كان نجمًا خلال عقد الثمانينيات، أضاع حياته الاجتماعية من أجل المصارعة، ومع خفوت نجوميته وتعرضه لأزمة قلبية يحاول أن يستعيد هذه الحياة مجددًا، لكن دون جدوى. هوس راندي هنا هو هوس بحلبة المصارعة، إنها المكان الوحيد الذي ينتمي إليه، المكان الوحيد الذي يشعره بوجوده ولا يؤذي روحه. من أجل ذلك يفضل  الموت داخلها عن الحياة في العالم الخارجي.

في (Mother!) وفي قلب الحكاية المليئة بالمجازات لدينا شاعر/ خافيير بارديم، مهووس بذاته وإبداعه. رغم امتلاء سينما أرونوفسكي بالصور المعبرة عن الهوس فإننا في هذا الفيلم تحديدًا نجد الصورة الأكثر تعبيرًا عن الطبيعة المظلمة والقاسية للهوس في سينماه. في المشهد قبل الأخير يدور هذا الحوار بين الشاعر والأم/ جنيفر لورانس، المرأة التى منحته كل شيء حتى احترقت تمامًا. تقول له: أكثر ما يؤلمني هو أنني لم أكن كافية. يجيبها: إنه ليس خطؤك، لا شيء يمكن أن يكفيني، ثم يمد يديه داخل جسدها المحترق لينتزع القلب، القلب الذي لا يزال يحمل حبه. يعتصره تمامًا حتى يحوله إلى رماد.

هكذا يفترس الهوس حيوات أبطال أرونوفسكي ويحرق أرواحهم.

يبدو اهتمام أرونوفسكي بالحبكة أقل بكثير من اهتمامه بالشخصيات، إنها أكثر ما يغويه في عالم السينما. أفلامه هي بورتريهات لشخصياته الرئيسية أو character case study. في أفلام أرونوفسكي تكون الشخصية دائمًا هي المركز الذي تتمحور حوله الحكاية. ويكون السؤال عادة الذي يتردد في قلب كل فيلم ويحدد مسار الشخصية في أفلامه: إلى أي مدًى ستذهب الشخصيات خلف هوسها؟

صور متطرفة لشخصيات على الحافة

 

 يتبدل العالم من حول شخصياته، تتبدل ملامحهم، لكن يبقى مسار الشخصيات واحدًا في أغلب أفلام أرونوفسكي. خيط ما غامض يجرهم نحو مصيرهم، إذ يتحطمون في النهاية تحت ثقل أحلامهم. تدفعهم تطلعاتهم المستحيلة نحو حافة من اليأس، الجنون أو الموت.

رغم جودة نصوص أفلامه، يظل ما يميزها على نحو واضح هو أداء أرونوفسكي الإخراجي، وما يمنح إخراجه هذه الخصوصية هي الطريقة التي يعمل بها على جلب أعماق شخصياته المضطربة إلى الشاشة وتحويل عالمها إلى جوٍّ كابوسيٍّ خانق.  يسخِّر أرونوفسكي كل شيء من عناصره الإخراجية لعكس الحالة النفسية لشخصياته، من حركة الكاميرا، للصوت، للمونتاج الحاد، للأداء المذهل لممثليه. يلتزم أرونوفسكي بالسرد المقيد بالشخصية الرئيسية، بحيث يصبح كل ما نرى على الشاشة أو نستمع إليه عبر شريط الصوت هو ما تراه وتسمعه، وهو ما يخلق تجربة معايشة وتوحد استثنائية مع الشخصية الرئيسية. نعانق معًا نفس الكابوس.

 يستخدم كاميرا محمولة باليد تعكس توتر الشخصية وقلقها المتصاعد. يستخدم أيضًا الـ (snorricam)، وهي كاميرا  تثبت في جسد الممثل لتكون في مواجهته مباشرة وتكتسب حركتها من حركة جسده. هي كاميرا شديدة الذاتية، تسبب حركتها لدى المشاهد نوعًا من عدم الارتياح والدوار في محاولة لجعل المشاهد أقرب ما يكون للحالة النفسية للشخصية، والتي تكون في الغالب تعاني من الصدمة أو البارانويا. تتراوح تكويناته بين اللقطات القريبة الخانقة التي تعكس ألم الشخصية وتمزقها الداخلي، ولقطات بعيدة تعبر عن عزلة الشخصية وضياعها.

 

يميل أرونوفسكي نحو صور متطرفة ذات حساسية تعبيرية (expressionistic) في استكشافه لطبيعة الهوس المسيطر على شخصياته، مخ بشري يلتهمه النمل للتعبير عن هوس بطل فيلمه (pi)، يضع بطله إبرة المخدر في جرحه المتقيح في فيلمه (Requiem for a Dream)، وكذلك التشوهات الجسدية والريش الذي ينبت عبر الجراح والألم في جسد نينا كطقوس مؤلمة لميلاد شخصية البجعة السوداء. في أحد المشاهد نشاهدها تتحطم أمامنا كدمية. هذه  الصور المتطرفة في قسوتها وتشوهها تعكس إلى أي مدى يمكن أن يذهب بطل أرونوفسكي خلف رغباته وتطلعاته.

عقدة إيكاروس أو سوف يكون هناك تراجيديا 

 

 يمكن القول بأن جميع أبطال أرونوفسكي مصابون بما يسمى بعقدة إيكاروس، وهو أحد مصطلحات التحليل النفسي، استخدمه لأول مرة عالم النفس هنري. أ. موراي لوصف نوع معين من الشخصيات شديدة الطموح، يتجاوز طموحهم حدود إمكانيات شخصياتهم.

إيكاروس هو أحد شخصيات الميثولوجيا اليونانية، والذي كان عليه للهرب من سجنه القائم على أعلى برج في جزيرة كريت أن يحلق بأجنحة من الريش مثبتة في جسده بالشمع. نصحه والده ديدالوس ألَّا يحلق قريبًا من الشمس كي لا يذوب شمع أجنحته، لكن نشوة التحليق أخذته بعيدًا حتى بدا في عين نفسه كإله قبل أن يسقط صريعًا.

   كيف يدفع إنسان نفسه نحو هلاكه الخاص؟ هذا مجاز الأسطورة ومجاز الرحلة التي تقطعها شخصيات أرونوفسكي. في كل فيلم من أفلامه تتكرر تراجيديا ذلك البطل الذي تدفعه تطلعاته إلى أبعد مما يحتمل، تحلق الروح أبعد من الجسد، ليسقطا معًا في النهاية. في أبطال أرونوفسكي شيء من إيكاروس، فهم يسعون دائمًا إلى شيء من العظمة لمداراة هشاشتهم ومحدوديتهم. تحل أضواء المجد، الكمال، الخلود والمعنى في سينما أرونوفسكي محل الشمس في الأسطورة. تتهادى حكاية إيكاروس خلال سينماه كلحن أساسي مرة على نحو مباشر ومرات على نحو مجازي. في أول أفلامه (pi) يشير إلى الأسطورة بشكل مباشر: يخبر سول/ مارك مارجوليس تلميذه ماكس أنه أسمى سمكته الجديدة على اسمه إيكاروس. وعبر التعليق الصوتي يحكي ماكس هذه الحكاية:

 حين كنت طفلًا أخبرتني أمي ألا أحدق في الشمس، لكنني فعلت ذلك حين كنت في السادسة، ولم يعرف الأطباء إذا كانت عيناي ستشفى أبدًا. كنت مرعوبًا ووحيدًا في الظلام، وببطء تسلل الضوء خلف الضمادات وتمكنت من الرؤية من جديد، لكن شيئًا ما تغير داخلي.
 

تبدأ المعاناة من هذه اللحظة. هناك موتيفة بصرية تتكرر في الفيلم للتعبير عن مجاز الاحتراق نتيجة القرب من الشمس، وهي كادرات ساطعة مغمورة تمامًا بالأبيض حتى تختفي تمامًا ملامح الصورة. تتكرر  هذه الموتيفات في اللحظات التي تبلغ فيها معاناة الشخصية مع هواجسه ذروتها.

 

 لا يشير أرونوفسكي في بقية أفلامه بشكل مباشر، ولكن تستمر موتيفة الكادرات الغارقة في الضوء. هذا الضوء الذي يخفي غالبًا في طياته الموت. أوضحها نهاية فيلمه ( black swan) لا ينهي فيلمه بشاشة سوداء، يقطع مونتاجيًّا بين بطلته التي تنزف روحها في الكواليس إلى أضواء المسرح، ثم يعود إليها في لقطة مقربة جدًّا لتغرق الشاشة في ضوء أبيض باهر، بينما يعلو على شريط الصوت هتاف المشاهدين. تستمر أيضًا في مسار شخصياته المتكرر، مسار صاعد نحو الشمس، نحو ضوء يعمى العيون وإلى باب يفضي إلى الهاوية.