قليلة تلك المذكرات التي كتبها من تولوا الحكم في مصر. ربما اكتفى بعضهم بكتابة مشاهدات عن أحداث وقعت أثناء فترة حكمهم، والبعض الآخر جعل آخرين يكتبون عنهم وعن أبرز ما في عهودهم. وسواء حدث هذا أو ذاك، فإن المروي والمكتوب منها يبقى وثيقة جيدة لتاريخ العصر، رغم ما يشوب تلك الكتابات من تمجيد أو دفاع عن قرارات أو عن أشخاص، وهي أمور متوقعة ومنطقية بطبيعة الحال.

قليلة كذلك المذكرات التي كتبها حاكم مصري وزوجته. في مصر الجمهورية فعلها الرئيس الراحل أنور السادات في «البحث عن الذات»، وزوجته الراحلة جيهان في «سيدة من مصر». وفي مصر الخديوية فعلها فقط الخديوي عباس حلمي الثاني في «عهدي»، وزوجته الأميرة جويدان في «مذكرات الأميرة جويدان»، والأخيرة أقرب لمشاهدات وانطباعات السيدة عن زوجها، وعن طرائف ونوادر حدثت معها أثناء تولي زوجها حكم مصر.

والحقيقة أن مذكرات عباس حلمي الثاني الصادرة في 1993 عن دار «الشروق» والمترجمة عن الفرنسية باسم «عهدي»، وكذلك مذكرات زوجته الصادرة عن دار «الهلال» في 1980 والملحقة بدراسة لا تقل أهمية عن المذكرات التي كتبها سعد رضوان، وتكشف جانبًا مهمًّا من تاريخ أحد الحكام المصريين المختلف عليهم بشكل كبير. فكثير من مؤرخي الحركة الوطنية المصرية يعتبرونه جزءًا من سلسال دولة أبناء محمد علي، بكل ما فيها من نزق واستهتار ورفاهية ومهادنة للقوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وأحيانًا الألمانية، وقطيعة كاملة مع أحوال الشعب المصري البائسة، أما بعض المؤرخين فأرادوا إنصاف من يجب إنصافه، فاعتبروه «خديوي مصريًّا»، بمعنى الكلمة، مهتمًّا بشئون الدولة ومحاولًا – قدر استطاعته وإمكانياته وإمكانيات الدولة حينها – أن يواجه المحتل الإنجليزي الذي تواجد عسكريًّا على أرض مصر منذ 1882.

مدافع شرس عن أبيه وجدِّه

بدأ عباس حلمي مذكراته التي كتبها في منفاه التركي، وبعد نحو 25 سنة من تركه للحكم في سنة 1914، وكان دافعه في الكتابة، كما يروي، أولًا إحساسه بالوحدة، وثانيًا رغبته في المشاركة بكتابة تاريخ إحدى الفترات المزدحمة بالأحداث، رغم معرفته أن «التاريخ الحقيقي والذي لا يخضع للمناقشة لم ولن يُكتب أبدًا، وذلك أنه لا يوجد أي حي يمكنه أن يلم بكل مظاهر ما حدث»، كما يقول. وثالثًا لما أسماه «إعطاء العدالة لذكرى والدي الخديوي توفيق، والذي لم تكن سيرته في أغلب الأحيان، محددة ولا أمينة»، أما رابعًا فهو الدفاع عن نفسه ضد من يقول إنه أظهر ميلًا واضحًا للإنجليز، إذ كانت الحقيقة غير ذلك تمامًا.

لقد بدا الخديوي عباس حلمي الثاني مدافعًا شرسًا عن أبيه وجده إسماعيل الذي قال في أول فصول مذكراته إنه كان يرغب في أن تكون مصر قطعة من أوروبا، وكان أحد أشكال الحكومات الأوروبية هو النظام البرلماني، ولذلك نجح إسماعيل بالفعل في إنشاء أول برلمان مصري في يوم عيد ميلاده، 25 نوفمبر 1866. وفي خطابه الذي ألقاه باللغة العربية – وكانت سابقة – عبَّر إسماعيل عن رغبته الأكيدة في سرعة تحسين الظروف المادية للبلاد.

قال كذلك إن جده أنشأ لمصر مكانة جديدة بين دول العالم بعيدًا عن سيادة الدولة العثمانية، فعمل أولًا على تأكيد السيادة المصرية ونهضة اللغة العربية، إضافة إلى مشروعات كبيرة مهمة، ومنها حفر قناة السويس وشق الترع وإصلاح الشرطة والقضاء، هذه المكانة هي التي جعلتها مطمعًا استعماريًّا واضحًا، خصوصًا مع توسعه في الحصول على القروض من الخارج.

ويعتب الخديوي عباس حلمي عليه أنه أغرق البلاد في الديون، وهو الأمر الذي أورثه لوالده الخديوي توفيق، الذي ورث حكم مصر وهي مثقلة بالدين الخارجي، ووجهة محتملة للقوى الاستعمارية. يقول إن والده جاهد ولم يحتمل الضربات الداخلية، ومنها «فتنة عرابي»، على حد وصفه.

ويبدو الخديوي عباس حلمي الثاني في دفاعه عن والده وجده موضوعيًّا إلى حد بعيد، رغم إغفاله – عمدًا – الكثير من الحقائق والنتائج التي أدت إلى أوضاع كارثية على المستوى الاجتماعي في فترة الاحتلال البريطاني، وربما وقع الخديوي تحت سيطرة «انصر أباك وجدك ظالمًا أم مظلومًا»، وهو هنا يحقق جملته المؤسسة أن لا تاريخ حقيقيًّا قد كُتب أو سيُكتب.

الطفولة وبداية الحكم

ولد الخديوي عباس حلمي الثاني في 14 يوليو 1874، في سراي «نمرة 3» بالإسكندرية. ولكن عيناه تفتحت على النور في قصر عابدين بالقاهرة بعد أن تولى والده الحكم، وقد ورث عن والده حب مصر، وإيمان ديني عميق. وبين 1880 و1882 (فترة التقلبات الكبرى في مصر والتي انتهت بالغزو الإنجليزي) أمر والده ببناء مدرسة إلى جوار قصر عابدين، على أن تستقبل 100 طالب فقط من الأسر الراقية!

طفولة الخديوي عباس حلمي الثاني وصباه كانت مليئة بالرفاهية بكل تأكيد، فهو ابن خديوي في النهاية، لذا كان يسافر كثيرًا إلى أوروبا في رحلات تسلية وترفيه، ولكنه في مرات عديدة أراد أن يزور المصانع والمراعي في دول القارة العجوز. هناك يؤكد الخديوي أنه تعلم معنى العمل. أحب في الفرنسيين بساطتهم، وفي الألمان انضباطهم، ولكنه رأى بريطانيا «مجتمعًا مقسمًا بين سحر الود الساذج، وبين جمود شعب متعالٍ ومنغلق». أحب الصبي عباس حلمي أوروبا، فأراد أن يكمل تعليمه هناك، وفعلًا ذهب إلى سويسرا التي يصف عقول أهلها بـ «العقول المحايدة». أحب فيهم الديمقراطية المنظمة، تأثر بالحرية التي نعموا بها، بالتضامن القوي بين فئات الشعب، لفت نظره كذلك تنظيم الجيش الذي وُضِع بهدف دفاعي فقط!

مكث الخديوي عباس في سويسرا لأعوام، بعدها أكمل تعليمه في العاصمة النمساوية فيينا، حتى جاءه نبأ وفاة الوالد. مات الخديوي توفيق، وعليه أن يكون حاكمًا الآن وهو بعد لم يتعدَّ الـ 18 سنة، فعاد إلى مصر.

ونستطيع أن نُجمل ما رواه عباس عن نفسه في فترة التكوين أنها كانت مثمرة ومحملة بكثير من الروافد المعرفية والإنسانية، أولها حب لمصر وإيمان بالدين الإسلامي، وثانيها إلمامه بالتجربة الأوروبية في النهضة الصناعية والفكرية والسياسية، وثالثها التجربة التي يقدم عليها هذا الشاب، وهي بالتأكيد أكبر من سنه بكثير، خصوصًا أن وضع البلاد حينها لم يكن في أفضل الأحوال، فهي بلاد مثقلة بالديون وينخر فيها الاستعمار بقوة مستفيدًا بخيراتها ومواردها، فضلًا عن اضطراب واضح في مقاصد وضمائر أفراد بالحكومة، إضافة إلى عدم استقرار في الشارع السياسي.

إصلاحات «عباس».. وعلاقته بأبسط الناس

على عكس ما كان متوقعًا سعى الشاب إلى الإصلاح، فقد بدأ الخديوي عباس حلمي الثاني عهده بالكثير من الإصلاحات السياسية، ومنها، ووفقًا لما رواه بالمذكرات، تعديلات في مجلس النظار (الحكومة)، وإصلاحات في الجيش. تقرب الخديوي عباس حلمي أكثر للقوى الوطنية، وعرف عهده معنى الصراع الحزبي، حتى إن كان واقعًا تحت تدخلاته هو شخصيًّا أو تدخلات الإنجليز، فضلًا عن محاولاته الأكيدة لتحديد النفوذ الأجنبي في مصر، وقد شاءت الظروف أن تحدث في أوروبا بين عامي 1900 و1907 فترة من الأخطاء والصراعات المختلفة، ما جعل رغبة بريطانيا متزايدة في مواجهة أي محاولة لزحزحتها عن مستعمراتها المنتشرة في ذلك الوقت.

تلك الإصلاحات هي التي جعلت اللورد كرومر، أول معتمد بريطاني في مصر، يصفه في أول مقابلة له: «الخديوي الشاب سوف يكون مصريًّا للغاية، وأنه يرى في هذا ما يُنبئ بما سوف يحدث بعد ذلك».

تحدث الخديوي عباس حلمي الثاني في مذكراته عن رموز الحركة الوطنية حينها، والتي لم يكن يفصلها عن حركة عرابي، بل أكد أنها امتداد للعصبية التي خلقتها الحركة في مصر، وبتأجيج من اللورد كرومر على وجه التحديد. تحدث عن الشيخ علي يوسف وعن سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد، وتحركاتهم جميعًا في فضاء السياسة المصرية التي كانت تستوعب حينها التعددية، ولكن بتعصب كبير. تحول في سياق حديثه لعلاقته بالفلاحين وبالأرض وبأبسط الناس، مؤكدًا أنه كان يرى أنهم المصريون الحقيقيون صانعو أي نهضة، متفاخرًا بإلغائه للسخرة والكرباج، ووقوفه أمام اللورد كرومر الذي أراد «نجلزة» مصر بكاملها، أي أن يسيطر الإنجليز على كل مفاصل الحياة في الدولة.

ولأنه ليس كل الإنجليز، عنده اللورد كرومر، تحدث بكل خير ودقة وإنصاف عن السير إلدون جورست، المعتمد البريطاني الثاني زمنًا، وهو الرجل الذي أعطاه مزيدًا من الحرية في العمل والحركة بالمجتمع، لكن كوشتنر المعتمد الثالث هو الذي أقصاه إلى منفاه، بإيعاز من كرومر الذي سافر مريضًا إلى بلاده، تاركًا توصية بإنهاء «الخديوية» في مصر، وبأن تصبح البلد مكونة من «رءوس إنجليزية، وأيدٍ مصرية».

أما قصة إبعاده عن مصر فقد ذكرها الخديوي في الكتاب بأسًى شديد، فعندما دخلت بريطانيا الحرب العالمية الأولى منحازة إلى أحد المعسكرين، كان هو في تركيا التي كانت قد دخلت الحرب منحازة إلى المعسكر الآخر، فمنعته السلطات الإنجليزية من العودة من جديد إلى مصر، بحجة أنه منضم إلى معسكر الأعداء، رغم أنه كان يعارضها، ويفكر حينها في تأسيس حلف عربي مواجه لها، وقد انتهى الأمر في النهاية بمحاولة اغتيال فاشلة في إسطنبول، نجم عنها جرح خفيف في خد الخديوي.

من أهم فصول الكتاب فصل خاص بعلاقته بطبقة الفلاحين المصريين، حيث إنه يعتبر الفلاح صبورًا صامتًا تحتفظ حركاته ببطء شبه تقليدي منسوج من الغموض، وهذا الهدوء، في رأيه، هو رأس مال الفلاح، وهو تراث حضارات موغلة في القدم، ومنه تحول من العطش إلى الرخاء. ولكنه مثلًا يفسِّر لفظ «السخرة» بأنه يعني المساعدة، إذ أسيء استخدامه، فيقول إنه بدونها لم يكن ممكنًا أن يقوم الفراعنة بإقامة منشآتهم المعمارية العريقة. بدونها لم يكن المصريون سيشيدون لا المدن ولا المعابد ولا المسلات ولا قنوات المياه التي تبهر العالم.

يقول إن السخرة نظام ليس له مثيل من أجل إنجاز الأعمال الضخمة. ولكنه يعود ويؤكد أن استخدام «الكرباج» مثلًا هو الأمر غير المحمود في العملية الإنتاجية. ورغم انحياز الخديوي عباس حلمي الثاني لنظام السخرة إلا أنه وقَّع على مرسوم إلغاء «السخرة» و«الكرباج».

نوادر «جويدان»

حالة الود التي تحدث بها الخديوي عباس حلمي الثاني عن علاقته بالفلاح وبأبسط الناس لها جانب آخر، ولكن على لسان زوجته الأميرة جويدان في مذكراتها، فهي قد تحدثت عنه وعن كثير من المواقف الإنسانية التي شاهدته فيها، ومنها موقفه أثناء استقباله ليخت المحروسة، الذي جاء محملًا بالكثير من الرجال والنساء مصابي ومشردي الحرب التركية البلغارية، وكيف كان الرجل يعالجهم ويحنو عليهم بنفسه في سرايا «راس التين» بالإسكندرية.

«مذكرات جويدان» لم تكن مذكرات بالمعنى المعروف، بل كانت مشاهدات ومواقف ونوادر قليلة، حكت عنها الأميرة خصوصًا عن أغرب الهدايا التي قُدمت لها، حيث أتت سيدة وقدمت لها طفلها كهدية. حكت عن تنكرها في زي رجل أثناء افتتاح قناطر النيل، وكيف عادت من رحلة في عرض البحر في زي ممرضة، تحكي كذلك عن تفضيلها للإقامة في الأستانة عن إقامتها في قصور القاهرة، وكيف كانت لا ترى في مصر سوى زوجها الخديوي في قصر إقامتهما بـ «مسطرد».

ربما كان التماس الوحيد في المذكرات هو فصلها الذي عنونته بـ «كيف نشأ العداء بين الخديوي واللورد كرومر؟» حيث عزته بكل تأكيد إلى وطنية الخديوي عباس حلمي، ومصريته، التي أحبتها فيه، وهي التركية المدللة. كما تبدو مذكرات أو نوادر «جويدان» متوافقة مع ما حاول الخديوي عباس حلمي الثاني إظهاره في مذكراته، خصوصًا في مسألة انشغاله بالأحوال السياسية المصرية عن أي شيء آخر، ما جعلها تؤكد أنها تمنت لو كانت صديقًا له، لا زوجة.

هي تقول في المذكرات إن زوجها لم يكن له أصدقاء كذلك، فرفاق الصبا صاروا ياورانات يحضرون التشريفات، أما صداقة الماضي، كما تقول، فلا ذكر لها، ربما فخر الدين فقط هو صاحبه، وفخر الدين هو الخادم الأمين للخديوي، وتحكي جويدان عن فخر الدين بحب شديد، وتذكر أنه كان أقوى رجل في المدينة، الكل يخافه ويخشون بأسه، لكنه مشهور بالصدق والوفاء.

وحدث ذات يوم أنه كان يجلس على مقهى يعزف فيه رجل وامرأة، فوجد فخر الدين الرجل يهين المرأة، فأشهر مسدسه وأصاب الرجل برصاصة بين عينيه، ولما سجن هرب من السجن إلى عرض البحر، وهناك اقترب قاربه الصغير من يخت المحروسة، وبالصدفة كان الخديوي عباس حلمي عليه، ومنذ أن رآه حينها وثق فيه وصار خادمه الأمين!

مذكرات عباس حلمي الثاني ونوادر زوجته جويدان، وإن غلب عليها الطابع الدفاعي عن الخديوي وعهده، لكنها جزء مهم من التاريخ المصري الذي كتبه حكامه من قصورهم المشيدة، لا من قلب البيئة النابض بكل ما هو حي وحيوي.