من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي
جورج أورويل

ظلت السلطات المصرية تعتبره جزءا من ممتلكاتها الخاصة، لا يطلع على وثائقه غيرها وبالتالي لا يرويه أو يكتبه سواها. نكسة وحرب وسلام، واستمر التاريخ حكرا للسلطة.


الذاكرة والتاريخ

ميز عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس بين الذاكرة الجمعية بكونها «إدراكات منتقاة للماضي عبر تفاعلات بين الأفراد، والجماعات والبيئة المحيطة بها»، وبين التاريخ بكونه «رصدا موضوعيا وصادقا للأحداث بناءً على دراسة مهنية».

وتعتبر الوثائق الوطنية في الدول الديمقراطية ملكا للشعوب، يكون لهم حق الاطلاع عليها، تقييمها وتحدّيها بروايتهم الخاصة والتي من الممكن أن تكون مخالفة لروايات السلطة الموثقة. إلا أن السلطات المصرية المتعاقبة احتكرت رواية التاريخ ولم تفسح مجالا لروايات مخالفة حيث توجد قوانين منذ 1954 لا تسمح بتداول أي من الوثائق التاريخية بالدار القومية إلا من خلال تصاريح أمنية.

ولكن أتت الثورة المصرية لتنتزع الحق في المعرفة حيث أصبح المجتمع يبحث عن الحقيقة المخبأة وراء أحداث الماضي المختلفة مثل تفجير كنيسة القدسين، إبعاد أبو غزالة من المشهد السياسي، معاهدة السلام، دور سعد الدين الشاذلي في حرب أكتوبر 1973، ملف أسرى 1964، موقف جمال عبد الناصر من محمد نجيب وغيرها من الأحداث التي لم يتوقف الأمر على احتكار السلطة لروايتها بل امتد إلى تزييفها.


بداية الصراع

هتافات تندد بأمن الدولة وسط شوارع فارغة من المارة والسيارات في ليل 5 مارس 2011، وبحضور مدرعات وقوات الجيش المسئولة عن تأمين المكان، اقتحم المواطنون مقرات أمن الدولة في مختلف أرجاء الجمهورية. وتم نشر فيديوهات للمقرات من الداخل، بما تحويه من زنازين غير قانونية، ملفات ووثائق تثبت فساد نظام مبارك، على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

أتى ذلك المشهد دليلًا على رغبة المواطنين في الوصول إلى الوثائق الرسمية باعتبارها تحوي الحقيقة التي ظلت السلطات المصرية على مدار ستين عاما تحتكرها وتقوم بتزييفها. ففي تلك الفترة التي تلت الثورة اعتبر المجتمع المصري كل ما يخص الماضي والتاريخ الذي شكلته السلطة مشكوكا في أمره.

علت بعد الثورة أصوات المطالبة بمحاسبة الفاسدين على مدار ثلاثين عاما من حكم مبارك بالإضافة إلى المتسببين في مقتل الشهداء أثناء الثورة، فبدأت جولة جديدة من الاحتجاجات والتظاهرات لأجل تحقيق أهداف 25 يناير، في نفس الوقت الذي بدأ ينادى فيه المجلس العسكري بأهمية ترك الميادين لاستعادة الاستقرار والأمن للبلاد وأهمية عجلة الإنتاج. تلك النغمة التي تبنتها وسائل الإعلام المختلفة في فترة حكم المجلس العسكري.

فكانت أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء هي بداية الصراع من أجل حفظ الذاكرة حيث خرجت روايات السلطة بمؤسسات الإعلام لتروي تلك الحدثين تحديدا بشكل مخالف عن رواية المتظاهرين لهما، كما بدأ ينظر كل طرف لطبيعة المرحلة بشكل مغاير للطرف الآخر.

حينها بدأ يُدرك قطاع كبير من الشباب أهمية توثيق الثورة حتى لا يتم تزييفها، وضرورة توضيح ما يحدث من مواجهات مستمرة بين متظاهرين وقوات من الشرطة أو الجيش.


الفن ميدان، حكاوى التحرير والجرافيت

شهدا يغنوا وشهدا يطيروا.. شهدا اعتصموا وشهدا شهود
شهدا بيجوا من ماسبيرو ويزوروا محمد محمود

استطاع الفن ميدان من خلال الغناء بشكل شبه يومى أثناء الاعتصامات والمظاهرات بميدان التحرير أن يوثق حكايات الشهداء ويروي الثورة من خلال ما يراه الثوار وليس السلطة، فكان يجتمع المتظاهرون حول مختلف الفنانين الذين شاركوا في المبادرة مثل رامي عصام، أمير عيد وفرقة أسكندريلا. واستمر الفن ميدان في إقامة فعالياته بشكل مستقل وتطوعي أمام قصر عابدين، شهريا لمدة ثلاث سنوات، إلى أن تم إيقافه من قِبل قوات الأمن في سبتمبر 2014.

الرسم والكتابة على الجدران كانت أيضا من أبرز الوسائل التي استخدمها الثوار في توثيق الثورة، في مراحلها الأولى وأثناء فترة المجلس العسكري، بمختلف محافظات الجمهورية. وأصبحت جدران شارع محمد محمود شاهدا على تلك المواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة والجيش بداية من نوفمبر 2011، حيث اهتم الجرافيتي بنقل ما لا يتناوله الإعلام من خلال رسم الشهداء والمعتقلين بمختلف انتماءاتهم، وكتابة عبارات تطالب بسقوط نظام مبارك بوجوهه المختلفة.

وبالرغم من ما تعرض له الجرافيتي من إزالة أحيانا أو إلقاء القبض على راسميه في أحيان أخرى إلا أنه قد تم توثيقه في أكثر من كتاب، من بينهم «جدران الحرية» للكاتب الألماني دون كارل والمصرية بسمة حمدي. وقد تم مصادرته من قِبل جمارك الأسكندرية بدعوى وجود رسومات تحرض على الجيش والشرطة. وهناك الكثر من المدونات الإلكترونية مثل suzeeinthecity بالإضافة إلى صفحات الفيسبوك المختلفة التي اهتمت بمتابعة الجرافيتي وتوثيقه.

يُعد مشروع تحرير مونولوج نموذجا آخر لحفظ ذاكرة الثورة من خلال عروض الحكي، حيث بدأ المشروع بعد أسبوع من سقوط مبارك بتجميع قصص المشاركين في الثورة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وإعادة حكي تلك القصص على مسارح مصر المختلفة. وتم تصوير تلك العروض ورفعها على موقع يوتيوب، لتكون وسيلة أخرى لحفظ الذاكرة الجمعية وتجيب على سؤال من قتل المتظاهرين في 25 يناير 2011.


الشارع لمن؟

إن المساحات تفسح مجالًا لإحياء الذكرى، لكنها تشكل أيضًا محفزًا للتذكر، ومصدرًا للروايات التي تخلد الذكرى، ومركزًا للنزاع على دلالات التاريخ. وإن إدارة المساحات بغرض إحياء الذكرى وبناء المتاحف والأنصاب التذكارية يتطلب موارد مؤسسية
لاله خليلي

امتلاك وحفظ وثائق وشهادات تخص أي حراك سياسي أو إجتماعي في المجتمع هي الخطوة الأهم في الصراع بين الأطراف المختلفة لتشكيل الذاكرة الجمعية وسرد التاريخ وبالتالي التحكم في المستقبل. وتتشكل الذاكرة الجمعية من خلال وسائل شتى مثل المتحاف، النُصب التذكارية، الاعتذارات العلنية، اكتشاف أماكن التعذيب والسجون واتخاذ إجراءات ذات خصوصية كالاحتفالات السنوية وإعادة تسمية الأماكن والشوارع العامة.

نجح الثوار في إطلاق اسم محمد مصطفى كاريكا والذي قُتل في اشتباكات مجلس الوزراء في ديسمبر2011 على أحد الشوارع، وأصبح شارع محمد محمود معروفا باسم “عيون الحرية”. كما ظهرت حملة كاذبون، والتي كانت تجوب الشوارع المختلفة لمحافظات مصر، في محاولة للخروج من زندق التحرير وميادين الاعتصامات والتظاهرات، حيث اهتمت بعرض فيديوهات لكشف انتهاكات المجلس العسكري وفضه للاعتصامات بالقوة لمن لا يشاهد تلك الفيديوهات الموثقة على مواقع التواصل الاجتماعي.

كان للحملة صدى مسموع إلى أن اضطر المجلس العسكري بسببها أن يُنشأ لجنة الإعلام العسكري الوطني، في بداية شهر يناير لعام 2012، بهدف التصدي إلى تلك الحملة، من خلال اهتمام اللجنة بنشر الحقائق كما يراها المجلس العسكري وإمداد وسائل الإعلام المختلفة بها.

وفي صعيد متصل بتلك المعركة الدائرة بين الطرفين على المساحات العامة، قامت الدولة باستخدام مواقع شهدت أحداث عنف -بين متظاهرين ومعتصمين في مواجهة قوات من الشرطة والجيش- في رواية الثورة وما تلاها من أحداث من خلال منظورها الخاص، حيث هدمت الدولة النصب التذكاري لشهداء الثورة، الذي تم انشاؤه في ميدان التحرير بجهود شعبية، معللة أن هذا النصب يحوي أسماء لبلطجية وليس شهداء. وفي نوفمبر 2013 قامت الدولة ببناء نصب تذكاري آخر لشهداء 25 يناير و30 يونيو (شهداء الشرطة) في ميدان التحرير.

كما قامت في الإطار ذاته، بتجديد ميدان ومسجد رابعة العدوية بعد أن أصابهما الدمار جراء فض رابعة بالقوة، بالإضافة إلى بناء نافورة تذكارية في مايو 2014 على هيئة كفين، يمثلان الجيش والشرطة، يحتضان كرة في المنتصف تمثل الشعب.


تزييف الوعي

وكانت سوزان مبارك تتفق مع نجلها على أن المشير طنطاوى يمثل العقبة الرئيسية التي تقف حائلا دون إتمام مخططها في التوريث وكانت لديها قناعة أن موقف المشير ليس فرديا، بل هو ذاته موقف الفريق سامي عنان وموقف أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسحلة

كتاب الجيش والثورة.

كتب مصطفى بكري كتابا بعنوان «الجيش والثورة: من الميدان إلى الانتصار» والذي تم نشره على حلقات بصحيفة الأسبوع التابعة لجريدة الأخبار، ليسرد قصة الثورة المصرية من وجهة نظر المؤسسة العسكرية من حيث الأسباب والنتائج، بالإضافة إلى موقف الجيش آنذاك من مبارك وتفهمه لأسباب الثورة. وحاول المجلس العسكري بمختلف الوسائل وقتذاك الترويج لفكرة أن الثورة قامت رفضا لمشروع التوريث وأن الجيش كان له الدور الأكبر في إنجاحها.

وشهد المجتمع المصري من بعد 30 يونيو حالات عدة لتشويه بعض رموز 25 يناير من خلال تسريب مكالمات شخصية لهم. وأصبح اقتحام مقرات أمن الدولة تُهم يتم توجيهها إلى النشطاء السياسيين من التيارات المختلفة، بعد أن كانت تلك الأفعال تُعد نتيجة طبيعية للثورة.

كما تعالت أصوات الإعلام المصري بأن ثورة 25 يناير كانت مؤامرة أجنبية لوصول الإخوان إلى الحُكم شارك فيها حماس ودول أجنبية. لم تكن تلك التُهم جديدة فظهرت مع الثورة وما تلاها من أحداث وسخر المصريون آنذاك من توفيق عكاشة، وأحمد سبايدر وكل من كان يصدر تلك الرواية عن الثورة. ولكن مع حكم الإخوان طفت تلك الروايات وأصبحت تتناول بجدية من مختلف وسائل الإعلام، حتى اعتبر البعض 30 يونيو ثورة التصحيح لنكسة 25 يناير.


من يكتُب الخاتمة

امتازت الثورة المصرية بخروجها من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، لتُصبح تلك المواقع شاهدا عليها، مما يجعل عملية احتكار رواية الثورة لفصيل هو أمر يصعب حدوثه. كما أن محاولات النظام في التضييق على المساحات العامة في المجتمع لن يغير شيئا من حقيقة أن ذاكرة الثورة، وإن لم تكن مجمعة فهي محفوظة.

وتلك المرحلة التي يعيشها المجتمع المصري بعد مرور نصف عقد من الثورة لا تنُم عن كونها مرحلة كتابة للتاريخ وخاتمة للثورة حيث ما زال الحدث قيد التكوين. ولكن هي مرحلة صراع على تشكيل الوعي الجمعي، فمن يمتلك الوسائل الأقوى والنفس الأطول والصوت الأعلى سينجح في التأثير على قناعات ورغابات المجتمع في الحاضر ولربما سيشكل المستقل، لكنه سيعجز عن التحكم بالماضي ومحو ذاكرته، فلم تعُد الرواية حكرا لأحد.