التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أننا نحقق فائدة كبرى من دراسة الماضي، فنفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج.
حازم الببلاوي، الاقتصادي والكاتب والمفكر المصري.

نكرر الأخطاء فنشعر ويكأن التاريخ يُعاد لحظة بلحظة، ثم يُساق على ألسنتنا في لقطة ممزوجة بالانبهار والتعجب والحسرة أحيانًا: يا له من قدر، التاريخ يعيد نفسه!

لكن هل فكرنا لمرة؛ لماذا تتكرر أحداث الماضي؟ ولماذا لا نتعظ ونكرر الأخطاء؟ ولماذا لا نسير على نبراس من نجحوا في تجاوز أزماتهم؟

الإجابة ببساطة أننا لا نعرف ما هو الماضي بالأساس، وما الذي أخطأ فيه السابقون حتى لا ندع أنفسنا نتورط فيما تورطوا فيه.

هنا تكمن أهمية دراسة الفكر الاقتصادي في الكتاب الذي يقدمه لنا دكتور حازم الببلاوي بعنوان «دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي»، إذ يتعرض من خلاله إلى السياقات المختلفة التي مر بها الإنسان على مر العصور ودفعته كي يفكر ويتساءل ويبحث ويُنَظِّر: ما الذي يحدث؟ ولماذا؟ وما الحل؟


من الحضارات القديمة وحتى القرن الثامن عشر

في الشرق حيث الحضارات القديمة، كانت الزراعة -المتقدمة نسبيًا- هي النشاط الأساسي في مصر وبابل والصين، وكانت الدولة آنذاك لها اليد العليا في السيطرة على تنظيم أمور الحياة الاقتصادية وخصوصًا مسألة تنظيم الري. بينما كان يقوم الاقتصاد اليهودي البدائي على الحياة القبلية المستندة إلى نوع من السيطرة الأبوية على أمور الحياة، وكانت الزراعة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي.

أما الاقتصاد الإغريقي فقد بدأ عائليًا، حيث كانت كل عائلة تمثل وحدة اقتصادية في ذاتها، حتى عُرف الاقتصاد في تلك المرحلة على أنه علم إدارة المنزل. لذا لم تظهر مشاكل اقتصادية هامة أمام اليونانيين إلا في وقت متأخر عند أثينا نتيجة ازدهار التجارة والحصول على غنائم. وبالرغم من اهتمام الإغريق بالمسائل الفكرية إلا أنه لم يكن هناك بناء فكري متكامل عن المشاكل الاقتصادية.

ناقش أفلاطون من خلال كتاباته الفلسفية نشأة الدولة وأرجعها إلى اعتبارات اقتصادية، فقد رأى أن حاجات الإنسان متعددة ولابد من اجتماع الأفراد في جماعة سياسية حتى يمكن إشباع هذه الحاجات. أما أرسطو فعمد إلى تفسير بعض الظواهر الاقتصادية:؛ حيث ميز بين قيمة الاستعمال التي تعني منفعة الشيء بالنسبة للشخص، وبين قيمة المبادلة التي كان الغرض منها تحديد معدل التبادل بين السلع بعضها البعض. اكتفى أرسطو بفكرة الثمن العادل وأدان أثمان الاحتكار باعتبارها غير عادلة، وشرح كيف ظهرت النقود بسبب عيوب المقايضة، لكن نظريته تلك كانت تقويمية أخلاقية أكثر منها تحليلية علمية.

وما إن برزت مشاكل اقتصادية جديدة في القرنين الثالث والخامس بعد الميلاد، كالتضخم الشديد وتحول الاقتصاد العائلي إلى اقتصاد زراعي مغلق ثم اقتصاد استعماري إمبراطوري، حتى ظهر الفكر الاقتصادي، لكن بصورة مقتضبة كأفكار عن الفن الإنتاجي في مجال الزراعة وأثر تنظيم الأسواق على التضخم.

وكانت أوروبا في العصور الوسطى من القرن الرابع إلى العاشر، ضحية تدهور اقتصادي وأخلاقي كبير، إلى أن بدأ القرن الحادي عشر وظهرت معه بوادر الانتعاش، فازدهرت بعض الصناعات الحرفية، بيد أن البحث العلمي آنذاك جاء متأخرًا. وبالتزامن مع ذلك، ازدهرت الحياة العلمية في الدولة الإسلامية، فكان هناك الفارابي وجابر بن حيان وغيرهما ممن نبغوا في علوم الكلام والطب والكيمياء، وفي العلوم الاجتماعية برز ابن خلدون، وحمل معه ملامح من الفكر الاقتصادي.

نقطة البدء عند ابن خلدون كانت العمران، فالمجتمع وفقًا له هو ظاهرة طبيعية أدى إليها عمران التكافل الاقتصادي وتقسيم العمل. وحجم السوق عنده يتحدد وفق اعتبارات ترجع إلى زيادة السكان وتقسيم العمل الذي أشار ابن خلدون إلى أهميته في إشباع حاجات الأفراد. أما الفرد لدى ابن خلدون فهو كائن رشيد عقلاني يقارن بين «النفع والغرم»؛ أي أثر الضرائب والأعباء كحافز أو مثبت على العمل.


اقتصاد السوق والاتجاهات المعارضة للفكر الرأسمالي

بدأ الحديث عن النظرية الاقتصادية كعلم مستقل مع ظهور النظرية التقليدية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لكن الاهتمام بالسياسات الاقتصادية بشكل عام ظهر مع نشأة الدولة الحديثة في القرن السادس عشر، إذ برزت حينها عدة اتجاهات فكرية تناولت العديد من الأفكار الاقتصادية أهمها ما من عرفوا بالتجاريين والطبيعيين.

شملت المدرسة التجارية أولئك المفكرين الاقتصاديين الذين عاشوا في الفترة من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، فتناولوا بعض المشكلات الاقتصادية وقدموا حلولاً لها، وكان هدفهم تعظيم قوة وثروة الدولة، ورأوا أن ثراء الدولة كما الأفراد يكون بالبحث عن وسائل زيادة المعدن النفيس. أما المفكرون الاقتصاديون المنتمون إلى المدرسة الطبيعية، فكانوا هم الأوائل في البحث بصورة منظمة عن أفضل النظم الاقتصادية التي تحقق الرفاهية، وطالبوا بالأخذ بنظام الملكية الخاصة وضرورة الحرية الفردية.

بمجيء القرن الثامن عشر، كانت الروح العلمية قد سادت حيث علوم الطبيعة والكيمياء والفلك وغيرها. أثرت تلك العلوم بدورها على المفكرين في العلوم الإنسانية، فعرف الاقتصاد عهدًا جديدًا منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وظهر عدد من المفكرين الاقتصاديين وخاصة في بريطانيا، التي كانت آنذاك على رأس الدول الصناعية التي بدت فيها معالم النظام الرأسمالي. ومن أمثالهم: آدم سميث، ودافيد ريكاردو، وجون ستيوارت، ميل وتوماس مالتوس، الذين قدموا ما عُرف بالنظرية التقليدية الإنجليزية.

تميز فكر هذه المدرسة بمحاولة تحليل المبادئ التي تحكم النظام الرأسمالي تحليلاً دقيقًا صلبًا، ومتابعة التطور التاريخي الذي أدى إلى نشأة هذا النظام. كان الاعتقاد السائد لدى أنصار تلك المدرسة هو وجود قوانين تحكم الظاهرة الطبيعية. ونقطة الانطلاق لديهم كانت اهتمامهم بالدولة ودورها في خلق ثروة الأمم لا مجرد توزيعها. تلك الفكرة قدمها آدم سميث من خلال كتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، الذي ظهر في نفس عام استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني، حيث دافع سميث عن تحريرها باعتبار أن المستعمرات تكلف الأمة أكثر مما تعطيها، ودافع عن الحرية الاقتصادية ورأى في تقسيم العمل سببًا في زيادة الإنتاجية، لكنه في الوقت ذاته يضعف استقلال الفرد ويربطه بغيره في المجتمع، وانتهى بالإشارة إلى أهمية الأخذ بسياسة الحرية الاقتصادية.

أما دافيد ريكاردو، فكانت أهم إسهاماته في النظرية الاقتصادية، تلك المتعلقة بالتجارة الخارجية، والتي أكد على اختلافها الجذري عن التجارة الداخلية، وأن هناك مصلحة في قيام التجارة بين البلاد. بينما اشتهر توماس مالتوس بنظريته في السكان، ودفاعه عن طبقة ملاك الأراضي الذين يميلون بطبيعتهم إلى الاستهلاك وبذلك يساعدون على زيادة الطلب الفعلي.

ما إن استقر النظام الرأسمالي وثبّت أقدامه مع الثورة الصناعية، حتى ظهرت تغييرات اقتصادية هامة أدت إلى انتصار مبدأ الحرية الاقتصادية في كل مكان في أوروبا. وخلال الثلاثين عامًا الأولى من القرن التاسع عشر ظهرت طبقة العمال وتعددت الأزمات الاقتصادية التي ترتب عليها بؤس العمال ومعارضتهم للظلم الواقع عليهم من قبل النظام الرأسمالي. وكان من أخطر وأهم وأعنف صور معارضة النظام الرأسمالي هو الفكر الماركسي، فالأفراد عند كارل ماركس هم من يصنعون التاريخ أثناء قيامهم بالإنتاج، وخلال سعيهم الدائم نحو تخفيف العبء عليهم وزيادة الإنتاجية يعملون على تطوير قوى الإنتاج، والتي ستعرقل استمرار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية.


التحليل الحدي: سلوك الوحدات ومدارسها

غلب على الدراسات الاقتصادية حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر النظرة الموضوعية في نظريات القيمة التي تربط قيمة السلعة بالعمل أو بنفقة الإنتاج مع استبعاد المنفعة أو قيمة الاستعمال من التأثير في هذه القيمة.

في المقابل، ظهرت اتجاهات جديدة تعيد النظر في تلك الدراسات الاقتصادية وتشير إلى الاعتماد على المنفعة في تحديد القيمة. أهم ما ميزها هو تركيزها على سلوك الوحدات أو ما يسمى بـ «نظرية الاقتصاد الجزئي»، ففكرة الحدية هي تعبير عن أهمية دراسة المتغيرات بالغة الصغر والضآلة لفهم الحركة والتغيير، فالوحدات الاقتصادية عند اتخاذ قراراتها لا يعرض عليها إما كل شيء أو لا شيء، بل تؤخذ معظم القرارات الاقتصادية في شكل جرعات متتابعة.

من أشهر مدارسها المدرسة النمساوية، إذ ساهمت في تطوير المنفعة الحدية على يد مؤسسها «كارل منجر»، فدارت أفكاره حول فكرة المنفعة والحاجة، إذ وضع نظرية عامة للسلع الاقتصادية، فحتى يكون لشيء وصف السلعة لا بد أن يكون قادرًا على إشباع حاجة إنسانية؛ أي أن تكون له منفعة.

بينما تناولت المدرسة الرياضية فكرة الحدية باستخدام الوسائل الرياضية في شرح العلاقات الاقتصادية، وكان الاقتصادي الفرنسي «أوجستين كورنو» هو من أسس تلك المدرسة وأول من استخدم الأساليب الرياضية، وبوجه خاص التفاضل والتكامل في الاقتصاد.

فيما لعبت المدرسة السويدية على أيدي عدد من الاقتصاديين أدوارًا مهمة في العصر الحديث، كان أهمهم مؤسسها «جون فيكسل» الذي قصر دور النقود على تحديد المستوى العام للأسعار وهو ما عُرف باسم «نظرية كمية النقود»، وميّز بين سعر الفائدة العيني وسعر الفائدة النقدي.

فيما برزت المدرسة النيوكلاسيكية والتقليدية الحديثة على يد الاقتصادي الإنجليزي «ألفريد مارشال»، الذي جمع بين أفكار التقليديين وأفكار الحديين ووفّق بينهما وأعطى الدراسات الاقتصادية دفعة قوية، وباشرت أفكاره نفوذًا بالغًا على الدراسات الاقتصادية للجيل اللاحق.


التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين

لن يذكر التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين من هو أكثر تأثيرًا في الاقتصاد من جون مينارد كينز.

تناول كينز عبر كتابه «النظرية العامة للتشغيل وسعر الفائدة والنقود» الذي صدر في منتصف الثلاثينات، مجموعة من المسائل الاقتصادية الهامة، فقد نظر إلى الاستثمار باعتباره جزءًا من الإنفاق والطلب الكلي وأهمل دوره كإضافة إلى الطاقة الإنتاجية وعنصر مغير لحجم رأس المال. إضافة إلى فكرته «الطلب يخلق العرض»، فالمنتجون -وفقًا لكينز- ينتجون الكمية التي يعرفون أن هناك أسواقًا لها، لذا كانت نقطة البداية لديه هي الطلب الإجمالي لا العرض الإجمالي.

أما البطالة في تحليله، فهي أمر ليس استثنائيًا ومؤقتًا بل يمكن أن تمثل حالة طبيعية للاقتصاد، وذلك إذا كانت ظروف الطلب الفعلي غير كافية لتشغيل كافة الموارد. وبالرغم من أن كينز كان من أهم الاقتصاديين الذين أعادوا الاهتمام بالنقود وأدمجها في النظرية الاقتصادية، فإنه كثيرًا ما يُعاب عليه أنه كان أقل اهتمامًا بالسياسة النقدية (تغيرات أسعار الفائدة) وركز على السياسات المالية (الإنفاق العام) باعتبارها بالنسبة له أكثر تأثيرًا في محاربة البطالة.

لم يتجمد علم الاقتصاد عند كينز والنيوكلاسيك، ففي النصف الثاني من القرن العشرين برزت اتجاهات معاصرة عديدة للفكر الاقتصادي، تزامنًا مع ظهور قضايا جديدة شغلت العالم أجمع بعد الحرب العالمية الثانية، كقضية التنمية الاقتصادية لدول العالم الثالث، والتي كانت سببًا في ظهور فرع جديد من فروع علم الاقتصاد للاهتمام بقضايا التنمية والنمو.

وفي الوقت ذاته، كان الاقتصاد العالمي لما بعد الحرب قد أظهر نوعًا من الترابط على مستوى العلاقات الدولية، واحتلت قضايا التجارة وموازين المدفوعات مكانًا متزايدًا من الاهتمامات الاقتصادية، وأصبح للمؤسسات الدولية دور بارز في إدارة تلك الأمور. ومع توافر قاعدة بيانات ومعلومات متنوعة للدراسات الاقتصادية، زادت الإحصاءات عن مختلف جوانب الحياة الاقتصادية وتعددت مصادرها وظهرت إسهامات أساسية أخرى.

وكانت البداية مع النقديين، الذين انتقدوا كينز لإهماله دور النقود في التأثير على السياسة الاقتصادية، وقاموا بإعادة الدور الحيوي لها. بينما اهتمت المدرسة المؤسسية باستخدام أدوات التحليل الاقتصادي لدراسة مختلف المؤسسات الاجتماعية، فعند تقييمها للأسواق القائمة فإنها تجري المقارنة مع الترتيبات المؤسسية البديلة، وفي النهاية إما أن تبرز قيام الحكومة بهذا الدور أو تثبت قصور وفشل التدخل الحكومي.

إجمالاً، كان القرن العشرين زاخرًا بتجارب النظم الشمولية التدخلية من فاشية ونازية وماركسية، حتى الدول التي احتفظت بالنظام الليبرالي لم تلبث إلا أن أعطت للدولة مساحات للتدخل. ومع زيادة تدخل الأحزاب العمالية ذات التوجهات الاشتراكية، بات هناك اعتقاد بأن الليبرالية درب من الماضي، إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي، وعاد الحديث عن الليبرالية الجديدة التي تقوم على احترام التقاليد الفردية، مع التأكيد على أن للدولة دورًا أساسيًا لا يمكن التغاضي عنه. فكان الفكر الليبرالي الجديد ليس دعوة إلى الحرية فقط، بل دعوة بالدرجة الأولى إلى الفردية.