تعيش المعارضة التركية حالة من الحيرة مذ أعلن الرئيس أردوغان تبكير موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، لعدم معرفتها هوية من سيقف في وجه الرجل القوي. تعاني المعارضة حالة من التخبط ناتجة عن هرولتها لإنجاز تحالف انتخابي قوي يستفيد من الأوضاع الحالية لتوجيه الضربة القاضية للحزب الحاكم. وتتجه الأنظار نحو المرأة الحديدية ميرال أكشنار، صاحبة التوجه اليميني القومي؛ حيث تتمتع ميرال بتاريخ سياسي كبير يشهد لها منذ تسعينات القرن الماضي.

تدور التساؤلات حول مقوماتها وقدراتها على منافسة أردوغان، وما تتمتع به من دهاء سياسي يُمكّنها من هزيمته في المعركة الانتخابية المقبلة. هل هي بالفعل قادرة على تحقيق هذا أم أنها مجرد صحوة للمعارضة سرعان ما ستذوب داخل جيوب النظام القوي؟


العمل الأكاديمي بوابة للصراع السياسي

زعيمة حزب الخير ومنافسة أردوغان المحتملة في الرئاسيات المقبلة

ولدت أكشنار في 18 يوليو/تموز عام 1956 في أزميت، لأبوين كانا ضمن مسلمي البلقان الذين عاشوا في اليونان قبل أن يغادروها مع مئات الآلاف لتوطينهم في تركيا بعد عام 1923. بدأت رحلتها الأكاديمية في دراسة علم التاريخ في جامعة إسطنبول. أكملت دراستها في معهد العلوم الاجتماعية في جامعة مرمرة، ثم حصلت على الدكتوراه في التاريخ، لينتهي بها المطاف في جامعة مرمرة، التي وصلت إلى رئاستها. مارست العمل السياسي تحت مظلة حزب الطريق القويم، الذي يمثل يمين الوسط؛ حيث فازت بمقعد إسطنبول في الانتخابات البرلمانية لعام 1995.

شاركت في الحكومة الائتلافية التي شكّلها نجم الدين أربكان، كوزيرة لحقيبة الداخلية، وهي أول امرأة تتبوأ هذا المنصب في تاريخ تركيا. كما أن موقفها الشجاع المناوئ للانقلاب العسكري الذي أطاح بأربكان، كلّفها منصبها الوزاري.غادر ت الحزب بعد تدهور شعبيته، لاسيما بعد الصراع الذي حدث بين تشيلر ومسعود يلماظ بشأن توحيد اليمين. انضمت بعدها إلى المجموعة المنشقة من جماعة أربكان، لتؤسس مع أردوغان ورفاقه حزب العدالة والتنمية، إلا أنها لم تستمر فيه سوى أيام قليلة، بعد إدراكها بأن العدالة والتنمية امتداد لحزب الرفاه الإسلامي.استقر بها المقام في حزب الحركة القومية، الذي رأته أقرب الأحزاب لتوجهاتها. وفازت على قوائمه في دورتي 2007 و2011. إلى أن دب الخلاف بينها وبين رئيس الحزب على خلفية تقاربه من أردوغان، لاسيما بعد احتدام المواجهة العسكرية بين الجيش وحزب العمال الكردستاني. مثلت التعديلات الدستورية في 2017 نهاية تجربة أكشنار مع الحزب الذي أعلن دعمه لتلك التعديلات. كما نظمت مؤتمرات حاشدة لتوجيه الناخبين لرفضها، مبررة موقفها بأن الحزب الحاكم قد حلحل الديمقراطية التركية، وقتل المجال العام، وأسهم في موت الحياة السياسية.حاولت أكشنار في بداية أزمتها مع رئيس حزبها إعداد مؤتمر عام لإزاحته، لكنها في النهاية طُردت من الحزب، على يد رئيس اللجنة التأديبية، لتعلن بعدها بأسابيع تأسيس حزب جديد تحت مسمى حزب الخير.

حسابات أكشنار لتحقيق المعادلة الصعبة

بشعارٍ مكوّن من شمس صفراء على خلفية زرقاء وصورة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك قدمت أكشنار حزبها، متعهدةً بالعمل على إعادة السعادة والعدل والحرية للمجتمع، وعازمة على الدعوة لإصدار دستور جديد يعيد النظام البرلماني، باعتباره الغاية الأهم لمشروعها السياسي. تتميز أكشنار بأنها صاحبة مشروع علماني قومي محافظ، يؤمن بسيادة القانون وأهمية المشاركة السياسية وتحرير المجال أمام حرية الرأى والتعبير والتجمع دون أي معوقات، واستقلال كامل لمؤسسات الدولة التي اهترأت من جراء سياسات أردوغان – على حد تعبيرها.رغم معارضة أكشنار للحزب الحاكم وزعيمه، فإنها رفضت المحاولة الانقلابية في 2016، لتؤكد اتساقها الكامل مع ما تؤمن به، رافضةً تبني أدوات غير ديمقراطية لإزاحة منافسها الإسلامي، مما منحها احترام الجميع.

اقرأ أيضًا:انتخابات رئاسية مبكرة في تركيا: ماذا يريد أردوغان؟

لم تستدعِ أكشنار الخطاب التقليدي لليمين القومي، بل على العكس تبنت رؤية وطنية جامعة تستقطب كل خصوم العدالة والتنمية عمومًا، وأردوغان تحديدًا، وهو ما أدانه الأخير واصفًا التحالف الانتخابي بأنه يتشكل بغرض النيل المباشر منه شخصيًا.لم تقدم حزبها كتنظيم مؤدلج، بل سمته بالصالح لإبعاد التهم المعلبة عنها معلنةً انتماءها لأتاتورك واحترامها لعدنان مندريس وتقديرها لتورغوت أوزال وأربكان، بغرض كسب دعم أنصارهم كافة. كما وجهت خطابها للمرأة التي وصفت أردوغان بأنه يسعى لحصرها في المنزل.تواجه أكشنار إشكالية استقطاب الأقلية الكردية التي ستكون أكبر معادٍ لها نتيجة تبنيها لرؤية قومية، ستجبر الأكراد على ترك هويتهم لاسيما أن حزبها مليء بالشخصيات القومية المتطرفة التي ترفض الأقلية الكردية، هذا ناهيك عن أن فترة حكمها لوزارة الداخلية في التسعينات، كانت أكثر مراحل اضطهاد الأقلية الكردية، مما يجعل من الصعب عليها حيازة ثقتهم الكاملة. عكس أردوغان الذي تمكن بفضل ديار بكر الكردية من حسم ملف التعديلات بالانتصار الحاسم. رغم محاولاتها طمأنتهم بأنها لن تتخذ سياسات عدوانية ضد الهوية الكردية مقدمةً تعريف جديد للقومية تقول فيه: «نحن لا نمارس السياسة على أساس العرق أو القومية، إن تعريفنا للأمة يقوم على الذكريات المشتركة والعلاقات والأفراح المشتركة». بل إن أكثر زيارات حزبها كانت في مناطق كردية، مستغلة الحرب التي يشنها الجيش التركي على تنظيماتهم السياسية والمسلحة.وعلى الجانب الآخر، سيمنحها رفضها التعديلات الدستورية، دعم فئة غير قليلة من أعضاء الحزب الحاكم ذاته. لاسيما أن نتائج استفتاء 16 أبريل/نسيان 2017 كانت قبوله بنسبة 51.41%. مما يعني أن تكتل الرافضين للتعديلات خلفها، كذلك محاولتها اللعب على القاعدة المؤيدة لأردوغان قد يؤدي إلى تحقيق المعادلة الصعبة، لاسيما في ظل حالة الرفض الإقليمي والعالمي لمشروع أردوغان الساعي لتأسيس جمهورية ثانية.المحصلة، هو حصول أكشنار على دعم حزب الشعب الجمهوري وحزب السعادة الإسلامي إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي وجزء من اليمين المحافظ، مع دعم الأكراد في حالة حصولهم على ضمانات منها.

المعارضة تلتف حول حزب أكشنار

هاجم أردوغان الإجراء غير
المسبوق الذي قام به خمسة عشر نائبًا من حزب الشعب الجمهوري المعارض، بعد نقل عضويتهم من الشعب إلى حزب الخير من أجل تمكين حزب أكشنار من المشاركة في العملية الانتخابية المقبلة، مما دفع أردوغان لشجب المستوى المتدني الذي وصل له البرلمان. وهو ما رد عليه بولنت تزجان المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري قائلا: «لن تكتب أسماء أصدقائنا في التاريخ بوصفهم نوابًا تركوا حزبهم، بل بوصفهم أبطالًا أنقذوا الديمقراطية وفقًا لشعورهم بالمسؤولية تجاه حزبهم». من جانبها ردت أكشنار على تصريحات أردوغان بأنها ستجمع مائة ألف توكيل لترشيحها، وأنها ستتمكن من إنقاذ تركيا من الأزمات التي تعايشها.تزايدت اللقاءات بين النخبة السياسية ورؤساء الأحزاب المعارضة للتوحد خلف مرشح واحد قوي يواجه أردوغان، لاسيما مع محورية صلاحيات الرئيس وفقًا للتعديلات الدستورية الأخيرة.

اقرأ أيضًا:كليجدار أوغلو: زعيم المعارضة الذي لا يؤتمن على 5 خراف

يبدو أن زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو خارج حسابات المعارضة حاليًا، لتآكل شعبيته داخل حزبه فضلًا عن ثقة الناخب التركي به؛ إذ لم يتخط حزبه نسبة الـ 25% من أصوات الناخبين منذ مدة طويلة، لذا تدور المفاضلة حاليًا بين الرئيس السابق ورفيق كفاح أردوغان عبد الله غول، وبين الحديدية ميرال أكشنار. ويمكن حصر ثلاثة سيناريوهات للمعركة الرئاسية المقبلة، الأول، هو دخول ميرال أكشنار في مواجهة مع أردوغان، والتفاف المعارضة في الداخل والخارج حولها، وحينها لا يمكن الجزم بالنتيجة النهائية، إلا أن أردوغان ما زال الأقوى والأقدر رغم ذلك، والقادر على الحسم. والسيناريو الثاني، هو دخول عبدالله غول وحيدًا ووقوف أكشنار بجواره، وحينها سيحصل غول على دعم المعارضة بجانب قطاع من أنصار العدالة والتنمية، فضلًا عن دعم الأقلية الكردية، وحينها قد يقلب الطاولة على أردوغان، إلا أن أغلب الظن يدور حول خشية غول من الدخول في هذه اللعبة الخطرة التي قد تنهي مستقبله السياسي تمامًا. السيناريو الثالث، هو دخول كلٍ من أكشنار وغول حلبة المنافسة، وحينها سيكون أردوغان هو الفائز الأكبر نتيجة تفتيت أصوات المعارضة، وأغلب الظن أن النظام سيحاول الدفع بهذا السيناريو، لاسيما مع إصرار أكشنار على دخول المنافسة.على كل حال وأي ما تكون نتيجة الانتخابات، سيتمكن حزب الخير من تشكيل نخبة سياسية قوية غير متآكلة وقادرة على الاستفادة من خبرات العدالة والتنمية في الحصول على ثقة الشارع التركي. وهذه التنافسية يجب أن يحافظ عليها المجتمع التركي لضمان وحماية الديمقراطية والحيلولة دون التحول إلى النُظم السلطوية الشمولية التي يُخشى أن تقوم على أنقاض التعددية الليبرالية التي تعيشها أنقرة مع بداية الألفية الجديدة، وهو ما سيضمن استمرار نجاح التجربة في ظل سلطة واعية ومعارضة يقظة قوية.