لو أعطينا كليجدار أوغلو 5 خرافٍ لأضاعها وعاد إلينا، ألم يقرأ زعيم المعارضة المواد الـ 18 التي يتضمنها التعديل الدستوري؟ لو قمت بسؤال أحد الشباب الحاضرين هنا عن مضمون التعديلات الدستورية لأعطى كليجدار درسًا في هذه المواد

كان انتقادًا لاذعًا حين يُوجه من رئيس الجمهورية، المُقدم على استفتاء دستوري فارق في تاريخ بلاده، لأبرز أعمدة المعارضة زعيم حزب الشعب الجمهوري، لكن بالنظر للفرصة التي أتاحها الأخير لخصمه يزول أي عجب، فلا يُلام الملاكم حين يواصل التسديد في وجه خصمه الذي ترك زاويةً إلى وجهه مفتوحة، وهو بالفعل ما فعله كمال كليجدار أوغلو، حين خرج للدفاع عن وجهة نظره وحزبه الرافضة للتعديلات الدستورية التي تقدمت بها حكومة العدالة والتنمية، معربًا عن قلقه من أن النظام الرئاسي سيجلب صدامًا كبيرًا بين الرئيس ورئيس الوزراء متغافلًا ما تنص عليه التعديلات من إلغاء لمنصب رئيس الوزراء في الأصل!

طوفان من الاستهجان أغرق كليجدار أوغلو، في لحظة حاسمة من تاريخ تركيا، بدا فيها زعيم المعارضة الأول تائهًا، ما يطرح العديد من التساؤلات حول الدور الذي يلعبه حزب الشعب الجمهوري اليوم في السياسة التركية، هل هذا هو الحزب الذي صنعه أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة؟


طريق السلطة محفوفٌ بالعساكر

قبل أن نخوض في تاريخ الحزب الذي أسسه مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، كمال أتاتورك، ثمة حقائق تاريخية مستلزمة للذكر على هامش الحديث، فعلى مدى عقود متتابعة، عانت الجمهورية التركية من الانقلابات العسكرية، مفتقدةً للروح السياسية والحزبية التعددية في كثير من الأزمان، حتى آلت مقاليد السلطة في العام 2002 لحزب العدالة والتنمية، ولم تخرج من يده إلى ذلك الحين.

إبان حرب الاستقلال التركية (1919 – 1923) جمع البرلمان في أنقرة طيفًا واسعًا من النواب، بعضهم كان ملتفًا حول مصطفى كمال أتاتورك، وجرت تسميتهم بـ«مجموعة الدفاع عن القانون»، وشكلوا أكثرية بينما تجمع معارضوهم حول ذات الاسم، لا يفرقهم سوى أنهم المجموعة الثانية، وبهذا صار لدينا مجموعةً أولى وأخرى ثانية.

انتهت الحرب واحتاج البرلمان لتمرير معاهدة لوزان، فكانت الدعوة لانتخابات مايو/آيار 1923، وكان أتاتورك قبلها في يناير/كانون الثاني قد أعلن عن رغبته في تأسيس حزب سياسي يجمع مؤيديه، إلا أن التأسيس الفعلي للحزب أعقب الانتخابات البرلمانية، التي فازها أنصار أتاتورك، على خلفية قيادتهم الميدانية للحرب، وبهذا جرى تذويب المجموعة الثانية، الممثلة للمعارضة، وكان برلمان الحزب الواحد والرجل الواحد، ولم تشهد الساحة السياسية التركية طوال عهد أتاتورك سوى أحزاب تآكلت في مهدها أو أسسها أصدقاء مقربون من أتاتورك للمناورة.

في عهد عصمت إينونو، خليفة أتاتورك، جرت أول انتخابات في أجواء تعددية حزبية، فاز بها حزب الشعب عام 1936م وحصل على 395 مقعدًا من أصل 465، وشابت العملية الانتخابية شبهات كثيرة في هذا الوقت، حتى كانت الانتخابات التالية في العام 1940، والتي أزيح على إثرها الحزب من السلطة لصالح الحزب الديمقراطي، بزعامة جلال بايار (الذي أصبح رئيسًا للجمهورية)، وخلفه عدنان مندريس (الذي كان رئيسًا للوزراء)، وكلاهما أزيح من السلطة بانقلاب عسكري في العام 1960.

ليعود حزب الشعب مرة أخرى إلى التشكيل الحكومي عام 1961، بائتلاف ثنائي مع حزب العدالة (شكل الائتلاف عصمت إينونو ليكون رئيسًا للوزراء)، وكان هذا أول ائتلافٍ حكوميٍّ تشهده تركيا، وسرعان ما انفضت الشراكة، وتكون ائتلاف ثلاثي بين الشعب وتركيا الجديدة والفلاحين. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يذهب فيها الحزب ويعود إلى السلطة، ولكن بعد انقلاب عسكري.

وفي انتخابات عام 1965 حاز العدالة (الذي اعتُبر خلفًا للحزب الديمقراطي) أغلبيةً بالبرلمان، وشكل الحكومة سُليمان دميرال الذي أزيح عن السلطة بعد ستة أعوام، وتحديدًا عام 1971. عُرف انقلاب 71 بانقلاب المذكرة، إشارةً للمذكرة التي أرسلها الجيش إلى سليمان دميريل لمطالبته بالتنحي عن السلطة، وعلى خلفية قراءة الجيش للبيان في الإذاعة فضَّل سليمان التنحي عن السلطة، والاستقالة. وجاء للمرة الثالثة حزب الشعب، إلى أغلبية البرلمان والحكومة عام 1973.

وتذكر بعض المصادر اعتراض مصطفى بولنت أجاويد، أمين عام الحزب، على التدخل العسكري لإزاحة الحكومة، وانتقد الصمت الذي لزمه رئيس الحزب (حزب الشعب)، حيال التدخل العسكري، ما أهله لاكتساب بعض الدعم، ليكون رئيسًا للحزب عام 1972 خلفًا لإينونو، الذي توفي بعدها بعام واحد، ليكون رئيسًا للوزاء بعد انتخابات العام 1973.

الانقلاب الثالث الذي هز المسرح السياسي التركي، عندما قام الجنرال «كنعان إيفيرين» بالانقلاب على حكومة حزب العدالة في سبتمبر/أيلول من العام 1980م، علّق الدستور، وفرض الأحكام العرفية، وحل جميع الأحزاب وحظر أنشطتها، وجاءت فاتوة انقلاب إيفيرين باهظة جدًا، كلّفت الأتراك ما يزيد على نصف مليون معتقل، وأحكام بالإعدام على 517 شخصا، أُعدم منهم 50، وفُصل عن العمل الحكومي ثلاثين ألفًا، كما تم تجريد 14 ألفًا من الأتراك من جنسيتهم التركية، وكان الانقلاب هذه المرة وبالًا على جميع الحزب بما فيها حزب الشعب الجمهوري الذي مُنع أتباعه من إعادة إنشائه على ذات الاسم بعد حظره، وأنشأوا ثلاثة أحزاب بديلة.

أعيد إنشاء الحزب مرةً أخرى بعد تشريع عام 1993 الذي قضى بإمكانية إعادة الأحزاب القديمة، ولكن تغيرت الساحة السياسية بما يكفي، لنجد حزب الشعب الجمهوري في انتخابات 1995 يحصل فقط على 49 مقعدا من 550، وفي الانتخابات التي تلتها عام 1999 فشل في تجاوز عتبة الـ10% ولم يحصد أي مقاعد، بينما كان اليساري الديمقراطي (DSP) محله في قيادة البرلمان، وكان أحد روافده الثلاثة بعد الحل، ليشكل الحكومة بزعامة بولنت أجاويد، بعدما تم حظر حزب الرفاه الإسلامي، بزعامة نجم الدين أربكان 1998.

وبهذا فلم يفز الحزب، الذي بناه مؤسس الجمهورية التركية، بأي أغلبية منذ توطين التعددية الحزبية نمطًا سياسيًا في البلاد، إلا إذا ما سبقه انقلابٌ عسكريٌّ أزاح منافسيه، وفتح له الباب، مُزيُّنًا بالعلمانية التركية التي فرضها أتاتورك المؤسس.


الانتقال إلى المركز الثاني

في العام 2002 بدأ الحزب في استعادة عافيته، لا ليحتل مقاعد الحكومة منفردًا أو في إطار الائتلاف كما جرت العادة قبل انقلاب 1980، وإنما ليحتل مقاعد المعارضة بنسبة تقارب الـ25%، وهو العام نفسه الذي شهد صعود العدالة والتنمية، وبزوغ نجمه الذي لم يأفُل بعد. وحل الشعب الجمهوري ثانيًا في انتخابات 2002، بـ 178 مقعدًا بينما كان العدالة والتنمية في الصدارة بـ 363 مقعدًا، وهي الثنائية التي لم تُحل منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا.

في هذا الوقت، كان الشعب الجمهوري في نظر الشارع التركي جزءًا من الماضي، في ظل الزحف الإسلامي متمثلًا في العدالة والتنمية، وآلته الإعلامية المروجة لهذه الصورة، حتى أن الحزب كان حاضرًا في استطلاعات الرأي بشكل ملحوظ – إذا ما سئل العامة – في خانة الأحزاب التي لا يصوتون لها، رغم خلو الطيف السياسي على يسار تركيا لحزب الشعب، وظل الحال على هذا حتى تنحى زعيم الحزب دنيز بايكال، على خلفية فضيحة جنسية في العام 2010، ليخلفه كمال كليجدار.

الإصلاحات التي تبناها كليجدار بعدما تولى زعامة الحزب ساعدت في بعثه من جديد نسبيًا، وهو ما توضحه النتائج الانتخابية، إذ تبنى سياسات أكثر يسارية، تهتم بالأحوال المعيشية للمواطنين، مستلهمًا التجربة السياسية لزعيم الحزب الأسبق بولنت أجاويد، ما جعل عضو مجلس قيادة الحزب علاء الدين هوائي، يصرح في العام 2010: «لأول مرة أشعر بأن حزبنا يمثل الشعب ويفكر في حريته ورفاهيته، اقترابنا من الشعب سيجعلنا نفوز في الانتخابات القادمة»، وهو المحور الذي تركزت عليه سياسة كليجدار، في حربه السياسية مع العدالة والتنمية الذي يعتمد قادته تصريحات شعبوية، إلى حد ما.

وكان انتخاب كليجدار أوغلو رئيسًا للحزب في مايو/آيار 2010 تاريخًا فاصلًا في حياة الحزب، فسعيه للمضي يسارًا جعل أبناء أتاتورك في غضب من إصلاحاته، ففي نهاية العام 2010، قال النائب البرلماني السابق عن الحزب والمعارض لقيادة كليجدار، صفاش أرباحي: «لن ننجح إذا ابتعدنا عن مبادئ مؤسس جمهوريتنا العصرية أتاتورك وتخلينا عن النظام العلماني لأنهما الأساس الذي قامت عليه تركيا»، وقال خشرم إن الخلافات قد تفجرت في الحزب منذ إعلان رئيسه الجديد إمكانية القبول المشروط بحرية ارتداء الحجاب في الجامعات.

تبقى الإشكالية التي لطالما وقفت في طريق كليجدار، كون حزبه يأتي دائمًا في المرتبة الثانية خلف العدالة والتنمية، وهو ما يجعله يبدو وكأنه عاجز عن التقدم خطوة للأمام، لحكومة تركيا، ومعاقبة الحزب الحاكم على جرائمه كما يقول دائمًا، وهو الغرض الذي لم يتحقق بعد، ورغم نجاح كليجدار في تحدي القيادة الحزبية فإنه لا يزال يفشل في تحدي القيادة التركية، ولعل الاستفتاء القادم في 17 أبريل/نيسان القادم، موضع آخر من مواضع الاختبار التي ينبغي أن يتمترس فيها كليجدار وحزبه ليهزم العدالة والتنمية.