يُحكى أن هُناك امرأة بملامح شرقيّة كما قال الكتاب؛ عينان واسعتان حادّتان، حاجبان مقوّسان، مبسم عريض يشقُّ غياهب الظلمة، شعرٌ بنيٌّ كثٌّ ينسدل على كتفيها ينمُّ عن قوةٍ وأنوثةٍ فرعونية لا تُخطئها عينٌ، قال عنها أحد أشهر الأدباء: «ما لك سوى أن تنظر إلى ملامح أبو الهول على وجهها»، بل ولقّبها بـ«بوصلته الأولى ومُلهمته الأخيرة»، وهو أقل ما تستحقّه حبيبته وزوجته ورفيقة دربه.

المرأة الشرقية هي ميرثيديس بارشا (Mercedes Barcha) مصريّة الأصل، والكاتب الذي عاشَ مُتيمًا بها هو الأديب الحُرُّ الثائرُ جابرييل جارسيا ماركييز (Gabriel García Márquez).

يُقال دومًا للنساء، أن يقع أديبٌ في حبّك؛ فذلك يعني لك الخلود الأبديّ في أعماله، وهي المكانة التي ظفرت بها ميرثيديس بِامتياز، بعدما حضرت روحها -تقريبًا- في كل رواياته، حتى أنه ذكرها بالاسم في روايته الأشهر «مئة عام من العزلة»، فتُرى.. إلى أي حدٍّ أحبّها ماركيز؟

نحيلة، نائية، دقيقة

التقيت مُصادفة بميرثيديس بارشا، ابنة صيدلي سوكري -من مدينة سوكر- التي عرضتُ عليها الزواج منذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها. وعلى خلاف المرّات الأخرى السابقة، وافقت يومذاك على دعوتي لها إلى الرقص
ماركيز متحدثًا عن زوجته

كان غابو -كما كان كاتبنا يُحب أن يُدعى- مؤمنًا بالخرافات أشدَّ الإيمان، ذاك الإيمان الذي يجعل شابًّا طائشًا يقضي أيامه بين الثوّار حينًا والعاهرات أحيان أخرى، ينتظر فتاة قالت له: «لم يولد بعد الأمير الذي سيتزوّجني»، ليُجدِّد عرضه عليها بعد أن استخدم كل الحيل لإخراجها من رأسه لمدة عقدٍ كاملٍ ولم يتثنَّ له!

كانت ميرثيديس تتفنّن في الهروب من أسئلة غابو بمكرٍ أُنثويّ يعرفه جيّدًا، هروبٌ جعله يظن أنها لا تأخذه على محملِ الجد، ولكن صاحبنا لم ييأس أبدًا من تكرار المحاولات، فهو دائمًا ما استطاع العثور على طريقة للمواصلة قُدمًا. يحكي: «رُغم أنها كانت مرحة ولطيفة في تعاملها معي.. على الدوام.. لكنّها كانت تملُك موهبة مشعوذ في التملُّص من الأسئلة والإجابات، وعدم الالتزام بأي شيء مُحدد. وكان عليّ أن أتقبّل ذلك، فهو أكثر رحمة من عدم المبالاة أو الصد».

وقع غابو في مشاكلٍ حادة مع الحكومة، جعلته مضطرًا للهرب من البلاد، وبينما هو يستقلُّ الطائرة أخرج قلمه وكتب لها رسالة مقتضبة أطلعها فيها على خبر سفره، واختتم البرقية بملاحظة دقيقة سريعة كوميضِ برقٍ: «إذا لم أتلق جوابًا على رسالتي في غضونِ شهر، فلن أعود إلى كولومبيا أبدًا، وسأظلُّ في أوروبا إلى الأبد».

ورُغم حدّة وقِصر الرسالة، لم يستطع غابو أن يتملّص من شعور المُحب الذي داهمه رُغمًا عنه، عاش ساعات انتظار الرد يسترجع مشهدًا لم يُغادر تلافيف ذهنه إلى الأبد، وهي آخر مرة رآها فيها، يقول: «كانت تجلس أمام البوابة مثل تمثالٍ، نحيلة ونائية، دقيقة في مجاراة أزياء السنة، بثوب أخضر مُوشَّى بتطريزات مُذهَّبة، والشعر مقصوص على شكل أجنحة السنونو، وبالهدوء المتوتر لمن ينتظر أحدًا لن يأتي، لم أستطع تفادي صوت مدوٍ في داخلي، بأنني سأفقدها إلى الأبد!»

بعد انتظارٍ لم يطل، سيطر اليأس على صاحبِنا الثائر الذي لا ييأس، يأسٌ لم يستمر لأكثر من أسبوع، أسبوع استغرقه غابو في قلقٍ واستغرقته ميرثيديس في حيرةٍ، حتى حسمت أمرها ورفعت الراية البيضاء مُتّبعِة صوتًا خفيًّا يُبشّرها بقصّة حُب سوف تستمر لأكثر من خمسين عامًا. أخيرًا، تلقّى غابو الجواب وكفّت ابنة الصيدلي عن مراوغته، وعندما تلقّى ردّها ابتسم قبل أن يقرأه وعرف أن قصّة حب وليد في انتظاره ليَكتب عنها بمدادٍ من عُمره.

ميرسيدس بارشا
ميرثيديس ماركيز

عاد صاحبنا إلى كولومبيا ليحظى بحبيبة، ويعيش معها علاقته الممتدة التي كفلت له التفرغ لمهامه الإبداعية، راح يكتب ويكتب، ليُلهم بلاده والعالم بأسره بسطوره، ويصبح جابرييل جارسيا ماركيز العظيم الذي لم يكن لولا المرأة التي وقفت خلفه بكل قوة.

في مُذكِّرات كاتبنا «عشتُ لأروي»، والتي ترجمها لنا صالح علماني، بدأ غابو سيرته بذِكر أمّه «ماريّا»، ثم يسترسل في رواية حكايات جمعتهما معًا أبرزت مدى تأثُّره الشديد بها، ثم ينتقل بنا غابو بسلاسةِ مايسترو يُتقن فن الانتقال بين أصوات النوتة إلى أيام مُراهقته وصباه، ويروي لنا كيف شُغِفَ بالرسم في سن مُبكِّرة، وضبابية موقفه من الأحزاب السياسية كتأييده للشيوعية حينًا والاشتراكية حينًا.

وحكى ماركيز عن جنونه الذي قاده مرّات ومرّات في علاقاته المُتعدِّدة، وانتقاله بين بلدان وبلدان، وكيف عاشَ حياةً حافلةً بالصخب لا يعرف لها الاستقرار طريق، وكيف تحوَّل من شابٍ أرعن، رثّ الثياب، يبتلع التهوُّر أقراصًا على الريق ويضاجع الطيش عشيّة كل ليلة، إلى واحدٍ من أعظم أُدباءِ العالم، وكيف آمنت به ميرثيديس بل وألهمته، ووفّرت له المناخ الذي أخرج لنا إرثًا أدبيًا خالدًا إلى يومنا هذا.

البوصلة الأولى

من اللحظةِ الأولى قد آمنتُ بِه، ولابدَ من تجسيد الإيمان بالدعمِ كي نساعد في خلْق عَبقري
ميرثيديس تتحدث عن ماركيز

فتاة مصرية الأصل، جذورها خرجت من تربة مدينة الإسكندرية، ورثتها عن جدّها المُهاجر الصيدلي أيضًا مثل أبيها، إنها ميرثيديس، التي ما أن اقترنت بماركيز عام 1958 في إحدى كنائس بارانكويلا بكولومبيا، حتى استطاعت بلمساتٍ بسيطة أن تُضفي روحًا جديدة على حياة غابو، روحٌ جاهَد للتسليط عليها في كل شبر من مذكراته.

منحنا غابو قبسًا من حياته قبل أن يتعرّف على ميرثيديس، وكم كان الوضع مريعًا، فحينها لم يكن أديبنا العالمي لا ينتعل سوى صندل بالٍ وبنطالٍ واحدٍ من الكتّان، وقميصين يغسلهما تحت الدُش أثناء استحمامه، وبين ليلةٍ وضُحاها تبدّلت الأحوال، بدأت ملابسه تتحسّن، وقصَّ شعره، وهذَّب شاربه، وتعلَّم انتعال أحذية الأغنياء، ويشارك في المناظرات الأدبية والاجتماعية.

حرص ماركيز على نفي أن يكون إهماله التام لمظهره ناجم عن فقره، وإنما بسبب تركيزه على الكتابة دون الالتفات لأمورٍ غيرها، وعندما وضعت ابنة الإسكندرية لمستها السحرية على حياته تغيّرت حياة غابو 180 درجة.

ماركيز مع زوجته في شوارع مدينة بوغوتا عاصمة كولومبيا
ماركيز يتجوّل مع زوجته في أحد شوارع مدينة بوغوتا عاصمة كولومبيا عام 1967م

أدارت ميرثيديس شؤون الأسرة بكل كفاءة، وكان تقسيم الأدوار واضحًا تمامًا بين الزوجين منذ اللحظةِ الأولى؛ فماركيز مُهمّته الأولى والأخيرة هي الكتابة وحسْب، وأما عن ميرثيديس فتولَّت باقي المهام العملية، وهو الدور الذي اعتنت بتقديمه على الوجه الأكمل، وبحزمٍ لُوحِظَ من قِبَل جميع المُقربين لهما، أنها كانت أنها الآمر الناهي من أكبر الأمورِ لأصغرها، حتى أنه ما من أحدٍ يُمكن له أن يُحرِّك كُرسيًا من مكانه دون الرجوع لها!

وبجانب هذه المهام المنزلية الجسيمة، كانت قارئة نهمة تراجع مخطوطات زوجها قبل أن تصل إلى العديد من أصدقائه، وكان ماركيز يعتدّ كثيرًا برأيها ويأخذ بملاحظاتها ويقول: «كنت أعرف من تعابير وجهها إذا كانت الرواية تسير في الطريق الصحيح… هي بوصلتي الأولى!».

الطريق نحو نوبل يبدأ بخاتم الزواج

انتهى بنا الأمر أنا وميرثيديس إلى اختراع رموز خاصة نتفاهم بواسطتها دون أن نقول شيئًا، وحتى دون أن يرى أحدنا الآخر!
ماركيز متحدثًا عن زوجته

كانت ميرثيديس هي المُحرِّك الأساسي لغابو في أعماله، تارّةً كحبيبة ومُلهِمة، وتارّةً كأمٍّ تضم ابنها الشقيّ تحت جناحيها حتى لا تتركه لهواه؛ في أحد الأيام ذهب الثنائي لأحد الشواطئ في عُطلة نهاية الأسبوع، وبعد أن قطعا مسافةً طويلة، إذ بغابو يُلهَم بسطورٍ لافتتاحية روايةٍ جديدة، تلاها على ميرثيديس، وما أن انتهَى منها حتى وجدها تُصرُّ على العودة فورًا ليدوِّنها قبل أن تفرَّ من رأسه، وقد كان!

وفي بداية شهر أغسطس من عام 1966 كان غابو وامرأته يقفان أمام مكتب «سان أنجل» للبريد في مدينة «نيو مكسيكو» المكسيكيّة؛ لإرسال النسخة الأصلية من رواية «مئة عام من العزلة» إلى ناشر يعيش في العاصمة الأرجنتينية «بوينس آيرس» وعد بنشر الرواية.

أخيرًا سيتمّكن غابو من حصد ثمار تعبه طوال 18 شهرًا انكبَّ فيها على هذه الرواية ولا شيء غيرها، خلال هذه المدة ترك ماركيز عمله –واعتمد الثنائي تمامًا على عمل ميرثيديس- ليتفرّغ تمامًا لكتابة رواية لم يكن ليعلم أنها ستُخلّد اسمه بالبنط العريض في عالم الأدب، بل وستكون سببًا في فوزه بجائزة أدبية رفيعة كنوبل.

تألَّفت رائعة غابو من 510 صفحات، وعندما حسب موظّف البريد تكلفة إرسال الورق بناءً على وزنه، أخبرهم أن عملية الإرسال ستتكلّف 85 بيزو، بينما لم يكن بحوزة ميرثيديس حينها إلا 50 بيزو وحسب. بعد تفكير سريع، قرَّر الزوجان تقسيم الورق إلى جزئين؛ وأرسلا الجزء الأول فقط من الرواية، حتى يجدا طريقة يدبّران بها تكلفة إرسال الجزء الآخر.

عادا إلى البيت وكلاهما لا يفكّر سوى في وسيلة لحلّ أزمة الجزء الآخر، ظلّا يبحثان في البيت عن شيء يُمكن رهنه، ولكن حتى ذلك الشيء لا يملكانه! وما لهم من صديقٍ يُمكن أن يُقرِضهم مبلغًا كهذا بعد أن عاشا قُرابة العام ونصف على الاقتراض ممن حولهم دون تسديد شيء.

لم يكن أمامهما سوى بطاقة أخيرة ما كان لغابو أن يلجأ لها أبدًا لولا انسداد أي بابٍ آخر في وجهه، وهي آلته الكاتبة التي رافقته على مدار عام ونصف لمدة لا تقل عن الستِّ ساعات يوميًا لإنهاء رواية لا يملك حتى تكلفة إرسالها لناشرها، رفضت ميرثيديس فكرة رهن الآلة لأنها تعلّم ما يمثّله هذا الجهاز لزوجِها، ولأنه كان الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يُدرّ لهم دخلًا ولو قليل.

خطرَ في بالها خاتم زواجهما الذي لم تجرؤ يومًا على التفكير في رهنه رُغم ما مرّا به من عثرات مالية لاعتقادها أن ذلك يُمثّل فألاً سيئًا لهما، ولكنّ حُلم زوجها اضطرّها للتخلّي عن اعتقاداتها الأسرية والإصرار على رهن خاتم الزواج ليكتمل حُلمه باكتمال الجزء الثاني من الرواية.

وبالفعل، وفّر لهما الخاتم مبلغًا يكفي لإرسال باقي الرواية، اطمأن قلب الزوجين، وعادا لإرسال الجزء الثاني بعد ثلاثة أيام من إرسال الجزء الأول، وإذ بهما يكتشفان أنهما عكسا الجزئين -عن طريق الخطأ- وأرسلا الجزء الثاني قبل الأول، وبعد أن تداركا الأمر واطمأنّا لإرسال الجزئين كاملين، خرجا يتهادان خفيفيّ القلب كمن وصلا وجهتهما للتوِّ بعد ركضٍ طويلٍ مُستمر، وراحت ميرثيديس تداعبه قائلة: «ما ينقُصنا الآن هو أن تكون الرواية جيّدة».

ماركيز يُصبح ماركيز!

كانت دائمًا تلعب بإتقان دورها كحاجز يحمي زوجها، وكانت تتابع باستمرار التطوّرات السياسية لكن تحرص على عدم الإدلاء برأي حولها، مدركة بحكم كونها زوجة غابو أن أي كلمة تصدر عنها يمكن أن تتحوّل إلى خبر، ودونها لما كانت لدينا اليوم روائع أدبية مثل مئة عام من العُزلة أو الحُب في زمن الكوليرا
المُناضلة السياسية زيغير هاي تُشيد بصديقتها ميرثيديس

كُلِّل هذا الزواج الناجح بطفلين جميلين، الأول رودريجو الذي سيصبح فيما بعد مُخرجًا سينمائيًا، والثاني جونثالو الذي يعمل حاليًا مُصمِّمًا جرافيكيًا في مدينة مكسيكو.

الأديب ماركيز بصحبة زوجته وولديه
الأديب ماركيز بصحبة زوجته وولديه

ذاع صيت ماركيز فور صدور الطبعة الأولى لراويته الأشهر «مئة عام من العزلة»؛ حيثُ بيعت ثمانية آلاف نُسخة من الرواية في أسبوعها الأول فقط، وبلغت مبيعاتها نصف مليون نُسخة بعد ثلاث سنوات! نصف مليون نُسخة بعد رحلة شاقة اقتسمها الزوجان، رحلة أظفرت عن نجاحٍ مُدوٍّ لم يكن ليحلم به غابو الشّاب الذي كان أول ما فعله فور تلقيه أموالٍ من حصيلة هذا النجاح أن أعاد لزوجته خاتمها المرهون.

تُرجِمَت الرواية لأكثر من عشرين لغة، وحازت على أربع جوائز دولية. كما صُنِّفَت كأفضل كتاب أجنبي في فرنسا، واُختيرَت كواحدة من أفضل اثني عشر كتابًا في الولايات المُتحّدة، وبدأ صغار الكُتَّاب في التسابق على كتابة سيرته الذاتية، حتى قرَّر ماركيز الانتقال للعيش في مدينة برشلونة بإسبانيا مع أسرته، ليُكمل مسيرته، ويكتب ويكتب، ويُؤكّد نجاحه أكثر فأكثر. الآن يُمكننا القول بأن غابو قد تغيَّرت حياته كُليًّا وهو في عمر الأربعين!

وفي عام 1982م اُختيرَ صاحبنا من قِبَل لجنة الأكاديمية السويدية للفوز بجائزة نوبل عن قصصه ورواياته التي استطاع فيها مزج الواقع بالخيال بشكلٍ مُدهِش في عالمٍ هادئ غنيٍّ بالخيال، خيالٌ طالما هابه الأدباء، حتى جاء غابو فبدَّد رهبته، بل واقتحمه من أوسع أبوابه.

ماركيز يقبّل زوجته احتفالاً بفوزه بنوبل
ماركيز يقبّل زوجته احتفالاً بفوزه بنوبل

في الصورة، ماركيز يقبّل ميرثيديس عند وصولهما مطار استكهولم لتسلم جائزة نوبل. قُبلة عرفان يقتسمانها معًا، كما يحق لهما أن يقتسما نوبل، ولو أن هناك عدلاً في هذه الدنيا لصعدت معه على المسرح وتسلّمت الجائزة معه كشريكٍ أصيل فيها.

ورُغم أن غابو كان كثير الحديث عن حياته الشخصية ونزواته وآرائه وكل ما يتعلّق به ضاربًا بالحيادِ عرضَ الحائط، إلا أنه كان نادر الحديث عن ميرثيديس وأولاده، ورُغم أن ميرثيديس لعبت دورًا محوريًا في معظم أعماله، إلا أنه لم يذكُرها جليًّا إلا في روايته: «الحُبُّ في زمنِ الكوليرا»، كإحدى بطلاتها التي وصفها بالمرأة الشّابة ذات السماتِ الجادّة، والتي ذاب فيها البطل منذ اللحظةِ الأولى، وحتى طيلة حياته.

كانت ميرثيديس قليلة التحدُّث إلى الصحافة ونادرة الظهور أمام الكاميرات. لم تبهرها الأضواء قدر ما راق لها دور الزوجة المُسانِدة لزوجِها خلف كل الكواليس، لم تتحدّث بلسانه، ولم تستغل نفوذه، حتى أنها لم تطالب بحقوقه الأدبية عقب رحيله.

كانت تعلم تمامًا ماذا تُعني له الحُرية فلم تستحوذ عليه، وكانت أول المؤمنين به فأهدته إلى الطريق الذي بحث عنه طويلًا وكان نصيبه منه تيهًا كبيرًا حتى تجلّت له ملاك الرحمة في منتصف الرحلة، وأخذت بيده وقادته إلى المجد من أوسع أبوابه.

يقولون إن الموهبة وحدها لا تصنع كاتبًا، بل الموهبة وإيمان شخص بك، إيمانٌ أشبه بتوقيع شيك على بياض، وشخصٌ يُراهن عليك رهان مُقامر على آخر ورقة مالية في جيبه، وهو ما فعلته ميرثيديس بِامتياز، أظلّت ماركيز وظلّت معه، لم تفارقه، حتى فارقها هو بموته عام 2014، لتبقى هي من بعده تعيش على الذكرى حتى فارقت الدنيا في أغسطس الماضي إثر أزمة تنفُّسية، ليرحل عن دُنيانا ثُنائي لن يرحل ذِكراه أو يُفارق اسمه الكتب، ثُنائي عاش أبطاله مُسخَّرين حياتهما لحُلمٍ كبير، حُلمٌ تحقَّق بإيمانٍ، وسعيٍّ، وحُب.

50 عامًا قضتها ميرثيديس بارتشا مع ماركيز؛ كانت ذاكرته حين داهمه الزهايمر، وخلاياه البيضاء حين غزا السرطان باقي خلاياه، كانت عقله حين جُنَّ في صباه، وبوصلته حين ضلَّ في شبابه، وعكّازه حين هَرِمَ في شيخوخته.. دائمًا وأبدًا كانت قوية في لحظات ضعفه، أصيلة كنساء مصر الباسلات اللائي يصنعن الكثير من الأبطال الذين يستحقون أديبًا عملاقًا كماركيز لتخليد قصصهم.