هذه ترجمة مقالة بعنوان «بم يحلم الإيرانيون؟» كتبها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ونشرت لأول مرة في المجلة الفرنسية «Le Nouvel Observateur» (العدد 727) بتاريخ 16 أكتوبر/تشرين الأول 1978، ثم نشرت ضمن كتاب «Dits et Ecrits» (المجلد الثالث، ص688-694) الذي جمع أعمال فوكو الصحفية. غير أن تلك الترجمة تمت نقلًا عن ترجمة إنجليزية قامت بها جانيت أفاري وكيفين أندرسون في كتابهما «Foucault and the Iranian Revolution»، لا عن الأصل الفرنسي.

كان فوكو قد وصل إلى إيران بعد أيام من أحداث «الجمعة السوداء» (8 سبتمبر/أيلول 1979)، وهي مظاهرة جرت ضمن الثورة ضد شاه إيران محمد رضا بهلوي في ميدان جاليه في العاصمة الإيرانية طهران، وقامت القوات الرسمية بفتح النيران على المتظاهرين مما أدى إلى مصرع بضعة وثمانين متظاهرًا وإصابة أكثر من مائتين، أدى ذلك إلى إنهاء أي أمل عملي في تسوية تُبقي على الشاه.

خلال زيارته إلى طهران التي استمرت نحو 10 أيام، وبعد عودته إلى باريس حيث زار آية الله الخميني، كتب فوكو عدة مقالات وأجرى عدة مقابلات عن الثورة الإيرانية؛ أظهر فيها إعجابًا شديدًا بالثورة وأفكارها الإسلامية، وبقائدها رجل الدين. وقد ظل هذا التأييد وتلك الرؤية الإيجابية تجاه الإسلام والإسلام السياسي (أو «السياسة الروحانية» بتعبير فوكو) مثار جدل كبير خاصة وأنها جاءت من واحد من أكثر الفلاسفة دعوة إلى التحرر من بني السلطة. ننوّه أخيرًا إلى أن الهوامش هي من إضافة المراجِع.

محمود هدهود

لن يدَعونا نفلت من هيمنتهم. ليس أكثر مما فعلوا في فيتنام.

أريد أن أضيف أنهم أقل استعدادًا ليدعوكم تفلتوا من هيمنتهم مما كانوا في فيتنام، بسبب النفط وبسبب الشرق الأوسط. إنهم يبدون اليوم – بعد كامب ديفيد – مستعدين لتسليم لبنان إلى الهيمنة السورية[1]، ومن ثم إلى النفوذ السوفييتي، لكن هل عساها الولايات المتحدة تحرم نفسها من وضع يتيح لها، في ظروف معينة، مزية التدخل من الشرق أو التحكم في السلام؟

هل سيدفع الأمريكيون الشاه إلى جولة جديدة من استعراض القوة أو «جمعة سوداء» ثانية؟ إن عودة الطلبة إلى الجامعات، والإضرابات الأخيرة، والقلاقل المتجددة والأعياد الدينية الشهر المقبل، كلها تجعل الفرصة سانحة. أما الرجل ذو القبضة الحديدية فهو الجنرال ناصر مقدم، الرئيس الحالي للسافاك.

هذي هي الخطة البديلة، وهي ليست – حتى اللحظة – المفضلة أو المرجحة. ثمة شكوك، ففي حين يمكن التعويل على بعض الجنرالات، ليس واضحًا ما إذا كان ممكنًا التعويل على الجيش. فمن زاوية معينة، قد يكون الجيش عديم الفائدة، إذ لا «تهديد شيوعي» هنالك. وقد كان المتفق عليه خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، ألا فرصة للاتحاد السوفييتي ليضع يده على إيران، لأنه لا يرقى إلى مدى كراهية الأمريكيين سوى الخوف من السوفييت.

ليس هناك، سواء من بين مستشاري الشاه أم الخبراء الأمريكيين أم تكنوقراطيي النظام أم جماعات من المعارضة السياسية (أكانت الجبهة الوطنية أم ذوي الميول الاشتراكية)، من كان مستعدًا خلال الأسابيع الأخيرة لتجربة «لبرلة داخلية متسارعة» أو السماح بحدوثها. ففي الوقت الراهن يبدو نموذج قيادة الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو هو المفضل.

لكن هل هذا النموذج قابل للتطبيق في إيران؟ ثمة مشكلات فنية عدة. ثمة تساؤلات بشأن الموعد: الآن أم لاحقًا بعد حادثة عنف أخرى؟ ثمة تساؤلات بشأن أشخاص محددين: هل هم مع أم ضد الشاه؟ هل عساهم مع الابن أو الزوجة؟ أليس رئيس الوزراء الأسبق والدبلوماسي العجوز علي أميني، والمنوط به قيادة العملية، رجلًا متهالكًا بالفعل؟


الشاه والولي

هناك، مع ذلك، فوارق أساسية بين إيران وإسبانيا. لقد حال فشل التحديث الاقتصادي في إيران دون إرساء أسس نظام ليبرالي حداثي غربي الطابع. وبدلًا من ذلك، راحت حركة هائلة تغلي في الأسفل، هي التي انفجرت هذا العام مزلزلة الأحزاب السياسية التي كانت تعيد تشكيل نفسها ببطء. هذه الحركة قذفت لتوها بنصف مليون رجل في شوارع طهران، في مواجهة مع المدافع الرشاشة والدبابات. وهؤلاء لم يهتفوا بموت الشاه فقط، وإنما هتفوا بالولاء للإسلام وللخميني، وبأن ليس للشاه سوى الخميني.

يمكن فهم الموقف في إيران كمباراة عظمى تحت عناوين تقليدية: الشاه مقابل الولي، الحاكم المدجج بالسلاح مقابل المُعدَم المنفي، الطاغية الذي يقف له رجل أعزل مكلّل بحب الشعب. هذه الصورة مسكونة بقوتها الخاصة، بيد أنها كذلك تفصح عن حقيقة شارك ملايين القتلى في صناعتها.

إن التصور الخاص باللبرلة السريعة دون تفكيك بنية السلطة يفترض ضمنًا أن الحركة التحتية يجري دمجها في النظام أو تحييدها. وهنا لا بد للمرء من أن يتبين أولًا اتجاه هذه الحركة وأي مدى يمكن أن تبلغ. ومع ذلك، ورغم كل الضغوط، قلب آية الله الخميني من منفاه بباريس كل شيء.

لقد ناشد الطلبة، ومعهم المجتمع المسلم والجيش، باسم القرآن والوطنية أن يُعرِضوا عن المساومات المتعلقة بالانتخابات والدستور وما إلى ذلك.

هل ما يجري هو انشقاق متوقع منذ زمن في صفوف المعارضة؟ يحاول سياسيو المعارضة طمأنة أنفسهم بالقول: «هذا جيد. إن الخميني، من خلال رفع سقف المخاطر، يعزز موقفنا في مواجهة الشاه والأمريكيين. وعلى أي حال فاسمه ليس سوى صرخة محرضة لأنه لا يطرح أي برنامج. ولا تنسوا أن الأحزاب السياسية مكممة منذ 1963. إننا نحشد الآن وراء الخميني، لكن ما إن يسقط الاستبداد حتى ينقشع كل هذا الغبار وتعود السياسة الحقيقية إلى موقع القيادة، وسرعان ما سننسى الواعظ العجوز».

لكن الحشود الهائجة المحيطة بسكن الخميني في ضواحي باريس، والمسئولين الإيرانيين المترددين بكثافة على فرنسا، كل ذلك يدحض هذا التفاؤل العَجول، ويبرهن على أن الشعب يؤمن بقوة التيار الغامض المتدفق بين عجوز منفي منذ أربعة عشر عامًا وشعبه الهاتف باسمه.

لقد فتنتني طبيعة هذا التيار منذ سمعت به قبل أشهر معدودات، ويجب أن أعترف أنني كنت ضجرًا من سماع كل هؤلاء الخبراء العباقرة يرددون: «إننا نعلم ما لا يريدونه، لكنهم ما زالوا لا يعلمون ما يريدونه».

«ماذا تريدون؟» لم يدر بخلدي سوى هذا السؤال المنفرد بينما كنت أجول في شوارع طهران وقُم خلال الأيام التي أعقبت الاضطرابات مباشرة. كنت حريصًا ألا أوجه هذا السؤال لسياسيين محترفين، واخترت عوضًا عن ذلك خوض مناقشات – مطولة في بعض الأحيان – مع زعماء دينيين وطلبة ومثقفين مهمومين بمشكلات الإسلام، وكذا مع متمردين سابقين تركوا النضال المسلح في 1976 وقرروا العمل بطريقة مختلفة تمامًا داخل المجتمع التقليدي.

«ماذا تريدون؟» طوال إقامتي في إيران، لم تطرق سمعي ولو مرة واحدة كلمة «الثورة»، لكن أربع من أصل كل خمس إجابات تلقيتها كانت «حكومة إسلامية». لم تكن مفاجأة؛ فآية الله الخميني أجاب بهذه العبارة مباشرة على صحفيين، وظلت تتردد منذ ذلك الحين.

ماذا يعني ذلك بالضبط في بلد مثل إيران، حيث الأغلبية مسلمة وإن ليست بعربية ولا سنية، ومن ثم أقل حماسًا لفكرة الجامعة الإسلامية أو العروبة؟

يحمل الإسلام الشيعي في الحقيقة خصائص تضفي على الرغبة في إقامة «حكومة إسلامية» صبغة معينة. فيما يخص النواحي التنظيمية، ليست هناك تراتبية هرمية لرجال الدين، وكل زعيم ديني مستقل نوعًا عن الآخر، ولكنهم معتمدون (ماليًا على الأقل) على مريديهم، وثمة أهمية خاصة للسلطة الروحية الخالصة.

كل ما تدور حوله المسائل التنظيمية هو الدور التذكيري والإرشادي الذي يجب أن تلعبه فئة رجال الدين كي تحافظ على نفوذها. ثَم مبدأ في المذهب الشيعي مفاده أن الحقيقة لم تتم ببعث خاتم الأنبياء، وبعد وفاة النبي محمد ابتدأت دورة أخرى من الوحي على سلسلة لا تنتهي من الأئمة الحاملين للهدى والضياء الثابت والمتغير في آن، والذي يتجلى في كلماتهم وضربهم المثل واستشهادهم، والقادر على تفسير الشريعة من داخلها.

والشريعة لم توجد كي تكون موضع تبجيل فقط، وإنما لتكشف عبر الزمن المعاني الروحية الكامنة فيها. وبالرغم من أن الإمام الثاني عشر لن يظهر قبل عودته الموعودة، فإنه ليس غائبًا بالكلية أو ميتًا، والناس أنفسهم هم الذين يعيدونه، فبقدر ما يوقظون الحقيقة تنيرهم بدورها.

كل سلطة، من منظور المذهب الشيعي، هي سلطة فاسدة ما لم تكن سلطة الإمام. لكن الأمور – كما نرى – أكثر تعقيدًا بكثير من هذا، وهذا ما أخبرني به آية الله شريعتمداري خلال الدقائق الأولى من لقائنا: «إننا ننتظر عودة الإمام، لكن هذا لا يعني أن نفقد الأمل في قيام حكومة صالحة، وهذا ما تحاولون أنتم المسيحيون أيضًا تحقيقه، رغم أنكم تنتظرون يوم القيامة». كان شريعتمداري محاطًا بعدد من أعضاء لجنة حقوق الإنسان في إيران عندما استقبلني، وكأنما ليضفي مصداقية أكبر على كلماته.

يجب أن يكون واضحًا ألا أحد في إيران يقصد بعبارة «حكومة إسلامية» نظامًا سياسيًا يلعب فيه رجال الدين دورًا حاكمًا أو مهيمنًا. بالنسبة لي، تبدو عبارة (حكومة إسلامية) وكأنها تحيل إلى معنيين:

الأول هو «اليوتوبيا»، وقد قالها لي البعض دون مواربة، أما معظمهم فقال لي «المثل الأعلى». والمقصود على أي حال هو شيء عتيق للغاية وبعيد للغاية عن المستقبل، وهو مفهوم العودة إلى ما كان الإسلام عليه في زمن النبي، لكن مع السير في الآن ذاته باتجاه نقطة مضيئة وبعيدة، حيث الإخلاص يحل محل الإخضاع. وفي سبيل هذا المثل الأعلى، بدا لي التشكك في القانون والإيمان بإبداعية الإسلام معًا أمرين أساسيين.

شرح لي رجال دين أن الأمر يقتضي جهدًا طويلًا من الفقهاء والعلماء والمؤمنين من أجل تسليط الضوء على جميع المشكلات التي لم يطرح القرآن حلًا واضحًا لها، لكن يمكن للمرء أن يميز الاتجاه العام هنا: الإسلام يقدّر العمل، لا يمكن حرمان أحد من ثمار جهده، وما للكافة «الماء وما في جوف الأرض» لا يمكن وقفه على فرد.

بالنسبة للحريات، فهي مكفولة ما لم تضر الآخرين، والأقليات تتمتع بالحماية والحرية طالما التزمت بشرط عدم الإضرار بالأغلبية، ولا تمييز بين الرجال والنساء في الحقوق، وإنما اختلاف لأنهم مختلفون بالطبيعة. أما في السياسة، فالأغلبية تصنع القرارات، وكل راع مسئول عن رعيته، ولكل امرئ – كما فصل القرآن – أن يقف ويحاسب من يحكم.

عادة ما يقال إن التعريفات المطروحة للحكومة الإسلامية غير دقيقة، لكنها تبدو لي، على العكس، مألوفة وإن ليست واضحة بجلاء. قلت لأحدهم ذات مرة «ثمة صيغ أساسية للديمقراطية، البرجوازية منها أو الثورية، ومنذ القرن الثامن عشر حتى الآن لم نكف عن تكرارها، وأنت تعرف إلى أين أوصلتنا»، لكنني تلقيت الإجابة مباشرة: «القرآن أوردها قبل فلاسفتكم بزمن طويل، وإذا ما أضاع المسيحيون والغرب الصناعي معناها فسيعرف الإسلام كيف يصون قيمتها وفاعليتها».

عندما يتحدث الإيرانيون عن الحكومة الإسلامية، وعندما يحولونها إلى شعار للمظاهرات في الشوارع تحت تهديد الرصاص، وعندما يرفضون باسمها – تحت طائلة المذبحة – الصفقات التي يبرمها السياسيون والأحزاب، فإنهم يقصدون شيئًا آخر غير هذه الصيغ المطروحة من كل مكان ولا مكان. إنهم يضمرون شيئًا آخر. أعتقد أنهم يفكرون في حقيقة شديدة القرب منهم، لأنهم هم أنفسهم وكلاؤها الفاعلون.

الأمر يتعلق في المقام الأول بحركة تتطلع إلى منح دور دائم في الحياة السياسية للبنى التقليدية للمجتمع الإسلامي، والحكومة الإسلامية هي التي ستسمح بالنشاط المتواصل لآلاف المراكز السياسية التي ولدت في المساجد والمجتمعات الدينية لمقاومة نظام الشاه.

سمعت مثالًا لذلك: منذ عشر سنوات، وقع زلزال في مدينة فردوس، وكانت المدينة بالكامل بحاجة إلى إعادة بناء، لكن الخطة الموضوعة لم تكن لترضي الفلاحين والحرفيين الصغار، فارتحل هؤلاء بتوجيه من زعيم ديني، وبنوْا مدينتهم في مكان بعيد، معتمدين على تبرعات جمعوها من المناطق المحيطة. لقد اختاروا بشكل جماعي مواقع البناء، ورتبوا إمدادات المياه، ونظموا الجمعيات التعاونية، وأطلقوا على مدينتهم الجديدة اسم «إسلامية».

كان الزلزال فرصة لاستغلال البنى الدينية، لا كمراكز للمقاومة فحسب، وإنما كمصادر للإبداع السياسي كذلك. وهذا هو ما يحلمون به عندما يتحدثون عن الحكومة الإسلامية.


الحاضر الغائب

إن المرء ليحلم أيضًا بحركة أخرى، هي عكس وتجاوز الأولى. حركة تسمح بإنتاج بعد روحاني في الحياة السياسية، بحيث لا تكون الأخيرة حجر عثرة في طريق الروحانية كما هي الآن، بل وعاءها الحاضن وفرصتها وخميرتها. هنا، حيث نصادف ظلًا يظل الحياة السياسية والدينية في إيران اليوم: ظل علي شريعتي، الذي رفعه الموت قبل عامين لمكانة الحاضر الغائب، رفيعة الامتياز في المذهب الشيعي.

كان شريعتي – وهو المنحدر من بيئة دينية – إبان دراسته في أوروبا على اتصال بقادة الثورة الجزائرية وحركات مسيحية يسارية وطيف واسع من الحركات الاشتراكية غير الماركسية (وكان يحضر محاضرات عالم الاجتماع الفرنسي روسي المولّد جورج جورفيتش)، وقرأ أعمال الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون والمستشرق لويس ماسينيون.

عاد شريعتي إلى مدينة مشهد الإيرانية، حيث أيقن أن جوهر المذهب الشيعي لا يجوز التماسه في مذهب تعرّض للمأسسة منذ القرن السابع عشر، بل في خطب المساواة والعدالة الاجتماعية للإمام الأول علي بن أبي طالب.

كانت المفارقة في حُسن طالع شريعتي أن الاضطهاد أجبره على الارتحال إلى طهران والتعلم خارج أسوار الجامعات، في غرفته الملحقة بمسجد. وهناك خاطب جمهورًا معدودًا بالآلاف من الطلبة والملالي والمثقفين والمعتدلين من حي السوق (البازار) وعابرين من محافظات مختلفة.

قُتل شريعتي مثل شهيد، وكان مطارَدًا وكتبه محظورة. لقد سلّم نفسه للسلطات بعدما قُبض على والده بدلًا منه، وبعد عام قضاه في السجن خرج إلى المنفى في لندن، ثم وُجد ميتًا بعد أيام بطريقة يصعب تخيل أنها طبيعية. وفي أيام الاحتجاجات في طهران، كان اسم شريعتي هو الوحيد الذي يتردد بجانب اسم الخميني.


بناة الدولة

لا أستسيغ الحديث عن الحكومة الإسلامية بوصفها «فكرة» أو «مثلاً أعلى»؛ ويروق لي بالأحرى أن أفكر فيها كشكل من أشكال «الإرادة السياسية»، ويروق لي سعيها لتسييس البنى التي يختلط فيها الاجتماعي بالديني في سبيل استخلاص إجابة لمشكلات معاصرة، كما يروق لي سعيها لإضفاء بعد روحي على السياسة.

على المدى القصير، تطرح هذه الإرادة السياسية سؤالين:

1. هلهي الآن قوية كفاية وعازمة بشكل صريح كفاية على منع «حل أميني»[]، تعززه (أو تضعفه بالأحرى) حقيقة أن الشاه يقبله، وأن القوى الخارجية توصي به، وأن هدفه إقامة نظام برلماني على النمط الغربي، وأنه سيمنح الإسلام مكانة خاصة دون شك؟

2. هل هذه الإرادة السياسية راسخة كفاية لتغدو عنصرًا دائم الوجود في حياة إيران السياسية، أم هل عساها تتبدد كسحابة عندما تصفو أخيرًا سماء الواقع السياسي، وعندما يكون بوسعنا البدء بالحديث عن البرامج والأحزاب والدستور والخطط وما إلى ذلك؟

ولربما يقول السياسيون إن الإجابات على هذين السؤالين تحدد كثيرًا من تكتيكاتهم اليوم. أما بالنسبة لهذه «الإرادة السياسية»، فثم سؤالان يشغلانني أكثر من سواهما:

الأول، يتعلق بإيران ومصيرها المبهم. في فجر التاريخ، اخترعت فارس الدولة، وقدمت نموذجها للإسلام، وشكّل إداريوها فريق عمل للخليفة. بيد أنها اتخذت من هذا الإسلام ذاته دينًا يرفد شعبها بأسباب لا تنتهي لمقاومة سلطة الدولة. في تلك الإرادة نحو «الحكومة الإسلامية»، هل ينبغي أن نرى فيها تسوية ما، أم تناقضًا، أم باكورة شيء جديد؟

السؤال الثاني، يتعلق بهذا الركن الصغير من العالم، حيث تكتسب الأرض (بما فوقها وتحتها) أهمية إستراتيجية عالمية. بالنسبة للناس الذين يسكنون هذه الأرض، ما الغرض من البحث (حتى وإن كان على حساب حيواتهم) عن ذاك الشيء الذي ضاع في غياهب نسياننا منذ عصر النهضة وأزمة المسيحية الكبرى؛ أي الروحانية السياسية؟ أكاد أسمع الفرنسيين يضحكون الآن، لكنني أعرف جيدًا أنهم مخطئون.


[1] في عام 1976، دخل الجيش السوري لبنان تحت ذريعة إيقاف الحرب الأهلية بين القوى اليمينية المارونية من جهة والقوى اليسارية وحلفائها الفلسطينيين من جهة أخرى. وما حدث هو، على خلاف المتوقع، أن النظام السوري حاول تجريد القوى الوطنية اليسارية والفلسطينيين من قوتهم لصالح هيمنة سياسية سورية. [راجع: جورج حاوي، المخطط الأمريكي السوري أمام الهزيمة الحتمية، دار الفارابي – بيروت، أيلول 1976][2] «حل أميني»: الحل الذي اقترحه السياسي الإيراني الليبرالي علي أميني في مطلع الثورة الإيرانية بنقل السلطة إلى حكومة برلمانية منتخبة مع الإبقاء على الشاه منزوع الصلاحيات.