في الوقت الحالي أصبحت كلمتا «الإسلام» و«أوروبا» أشبه بالزيت والماء، لا يمكننا المزج بينهما، تحت أي شعار كان، ولكن إذا عُدنا إلى العصور الوسطى سنشاهد المشهد بصورة أخرى، ليس فقط الإسلام وأوروبا، بل تحالفات إسلامية مسيحية، قاتل بها الاثنان جنبًا لجنب تحت شعار واحد، وهدف واحد.

شهدت كل من إسبانيا وإيطاليا والمجر تحالفات مدهشة ضد عدو واحد، فبعد مرور أربعمائة عام من بسط الحكم الإسلامي ملكه على إسبانيا، شهدت إسبانيا في ذلك الوقت انقسامُا كبيرًا ففي الشمال إسبانيا المسيحية، وفي الجنوب إسبانيا المسلمة، فكان المشهد كالتالي: الممالك المسيحية المنقسمة في الشمال وهم: (قشتالة – أراغون – كالتالونيا) ثم في الجنوب الممالك المسلمة المنقسمة إلى فسيفساء وإقطاعيات أصغر حجمًا.

بدأ أول تحالف إسلامي مسيحي بدعوة مجموعة مسيحية من القوط الغربيين وهم قبائل جرمانية عاشت في البر الرئيس الإيبيري لمدة ثلاثمئة عام، لممثلي الخلافة الأموية لمساعدتهم على هزيمة ملك مسيحي منافس لهم، ومن بعدها تعددت التحالفات الشبيهة ضد ملوك مسيحيين أو مسلمين وفقًا للمصلحة السياسية للمتحاربين.

قتال تحت راية واحدة

في عام 711م أرسل الأمويون القائد «طارق بن زياد» عبر المضيق الذي يحمل اسمه إلى اليوم، فقاد حملة إلى جنوب إسبانيا، بعد أن استدعتهم القبائل الجرمانية القاطنة هناك، وتلقوا مساعدة من حاكم مسيحي آخر.

استغرق الأمر ثلاث سنوات حتى أصبح الجزء الأكبر من شبة الجزيرة الإيبيرية تحت سيطرة المسلمين، وظل الوضع هكذا حتى ثلاثمائة عام خضعت فيها حوالي ثلاثة أرباع البر الإسباني الرئيسي لحكام من العرب، وانفصلت ممالك الشمال المسيحية إلى الأطراف الشمالية للبلاد.

حتى بداية القرن الحادي عشر اعتبرت تلك الممالك فقيرة وظهر العديد من أدباء الأندلس المسلمين يكتبون عن مدى تخلف أهلها وفقرهم، كما أوضح الباحث «عزيز العظميه» أستاذ دراسات شرق البحر المتوسط، في كتابه بعنوان «Mortal Enemies, Invisible Neighbours: Northerners in Andalusī Eyes».

بعد دخول العرب المسلمين الأندلس، ازداد التعاون بشكل ملحوظ؛ فمع فتح المنصور لـ«كومبوستيلا» عام 997م، قاتل الجنود المسيحيون إلى جانب المشاة المسلمين واستمر ذلك التعاون مع الخليفة المقتدر والمعتمد، ثم دخل المنصور وقام بتدمير ضريح القديس «جيمس»، ومعه مرتزقة من المسيحيين في الجيش الذي دمر الكنيسة وحمل الأجراس لتعلق على مسجد قرطبة، كما وصف أستاذ «جوزيف كالنجهان» أستاذ تاريخ العصور الوسطى، في كتابه » A History of Medieval Spain»، ويوضح أيضًا أن أول حاكم مسلم استعان بمرتزقة مسيحيين في صفوفه هو أمير قرطبة «الحكم الأول»، وفي الحملات التي قادها المنصور في القرن العاشر الميلادي ضد البلاد المسيحيية كغزو «برشلونة» عام 985م، استخدم في جيشه عددًا كبيرًا من الفرسان المسيحيين شديدي الولاء.

مع بداية القرن الحادي عشر، شهدت إسبانيا انقسامًا بين ممالك مسيحية في الشمال وأخرى مسلمة في الجنوب تحوّلت إلى فسيفساء وإقطاعيات أصغر حجمًا، الأمر الذي أدى إلى خليط من الصراعات والنزاعات، أنتج ذلك شِقاقًا لا يقل عن ذاك الذي ساد بين المسيحيين عندما تنامى نفوذ الملك المسيحي (ألفونسو السادس)، فاستغل التفكك الإسلامي في إسبانيا وبدأ يقلب الأمراء بعضهم على بعض، خلال إحدى المعارك شارك مهندسون مسلمون في تشغيل آليات الحصار لجيوش «قشتالة المسيحية» من أجل احتلال مدن إسلامية.

في عام 1009م استعان البربر المسلمون بالملك «سانشو» للإطاحة بالحكم الإسلامي في قرطبة، وفي نفس الفترة أقام بنو ذي النون الذين حكموا طليطلة حلفًا مع مملكة نافارا المسيحية في حربهم على الحدود مع مسلمي سرقسطة، كما وضح الباحث «سيمون بارتون» وهو أستاذ تاريخ في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه «Traitors to the Faith? Christian Mercenaries in al-Andalus and the Maghreb, c.1100–1300».

إمبراطور الديانتين

في عام 1072م نُفي الملك ألفونسو السادس في طليطلة؛ وأثناء تواجده استطاع أن يكون صداقة بملك طليطلة آنذاك «المأمون بني ذي النون» حيث أمضى تسعة أشهر في بلاطه، في عام 1083م استطاع الملك «ألفونسو السادس» الذي لُقب بإمبراطور الديانتين أن يغزو المدن الإسبانية المسلمة الواقعة في الجنوب بالتعاون مع البربر المسلمين، وسقطت الخلافة في قرطبة عام 1013م، وبهذا تبدأ نهاية الأندلس المسلمة، كما وضح الباحث «كاهلجهان» في كتابه «A History of Medieval Spain».

وفي عام 1074م بعد أن قضى الملك ألفونسو من قبل تسعة أشهر عند المأمون، تقدم كلا الجيشين نحو الجنوب بالأخص اتجاه غرناطة في تحالف ضد حاكمها الجديد «عبد الله»، ولم يكتفِ المأمون بغزو غرناطة بل دفع المال للجيش المسيحي لغزو قرطبة، وخلال ثلاثة شهور أقام جنود قشتالة وطليطلة معسكرات على أراضي غرناطة نفسها، وطلب ألفونسو من الملك عبد الله ملك غرناطة دفع ضريبة ثلاثين ألف دينار من الذهب، في النهاية وجد «عبد الله» نفسه وحيدًا في مواجهة حلف مسيحي إسلامي؛ فوافق على دفع الضريبة، وبعد ستة أشهر وقعت مدينة غرناطة بقبضة المأمون، ولم يستطع المأمون أن يكمل فرحته فعند عودته إلى طليطلة مات مسمومًا عام 1075م، كما أشار الباحث والمؤرخ «برنارد ريلي» في كتابه «The Kingdom of Leon-Castilla Under King Alfonso 6, 1065-1109».

عبر «ابن رشد» في إحدى الوثائق التي كتبها عن استنكاره إزاء العدد الكبير من المسلمين في برشلونة الذين لم يترددوا في مساعدة المشركين في غاراتهم على الأراضي الإسلامية التي لم يكد يمضي عام على استعادتها من قبل المسيحيين، وعلق الباحث «إيان ألموند» في كتابه «ديانتان تحت راية واحدة» بأن ما حدث يشبه فكرة تحالف المسلمين وقوات الاحتلال الأمريكية عندما تعاون الأكراد المسلمون مع القوات الأمريكية بالإطاحة بنظام صدام حسين، وهذا التعاون لم يكن تعبيرًا دائمًا عن التعاون الثقافي الإيديولوجي بل مجرد ممارسة مفيدة للطرفين، وذلك ما حدث بين القشتالية السرقسطية ووحدات الكاتالانية الإسلامية أي إنها علاقة نفعية استراتيجية.

وفي عام 1085م سقطت طليطلة في يد الملك ألفونسو، وهلل العالم المسيحي بوقوع مركز الحكم الإسلامي في إسبانيا في قبضة الحكم المسيحي، وسرد المؤرخون أن ألفونسو سعى إلى استرضاء المسلمين؛ لكيلا يتركوا أرضهم خاصة المزارعين فمنح المزارعين 100 ألف دينار ذهبي، كي يبقوا في الأرض.

وفي عام 1086م أُلحقت بالملك ألفونسو السادس أكبر هزيمة تعرض لها، يوم وصل البربر على ساحل البر الإيبيري، ومنذ ذلك اليوم أخذ الملك ألفونسو يتحالف مع كل أمراء المدن المسلمة وعزز سيطرته على الجنوب، ولكن الجدير بالإشارة أنه لم يستول على المدن بشكل صريح بل اكتفى بتقليب الملوك والأمراء بعضهم على بعض، حتى تفككت المدن المسلمة وانتهت بزوال الحكم العربي المسلم من الأندلس.

مسلمو جنوب إيطاليا

لأكثر من مئة عام حارب المسلمون الإيطاليون في جيوش الأباطرة خارج أسوار فيرونا، وميلانو، وأفينا، كما أدت أفواج كاملة من الرماة والفرسان العرب أدوارًا حاسمة في الحروب المستمرة بين المدن الإيطالية في القرون الوسطى، وفي النزاعات الطويلة بين الأباطرة والباباوات، وتمركز المشاة ورماة السهام المسلمون المنحدرون من أصول صقلية، بأمر من حُكامهم المسيحيين في رومانيا وتونس، حتى إنهم قاتلوا في الجيوش الباباوية.

يمكن اختصار سبب وجود الجنود المسلمين في إيطاليا في القرن الثالث عشر لكلمة واحدة هي «لوتشيرا» وهي بلدة صغيرة في جنوب شرق إيطاليا، بالكاد تبعد مئة ميل شرق روما، استخدمها الملك فريدريك الثاني عام 1224م كمستعمرة لإعادة التوطين القسري لأكثر من ثلاثين ألف مسلم صقلي، وسيمكثون هناك خلال السنوات الثمانين التالية مشكلين جيبًا إسلاميًا في قلب إيطاليا، بالكاد يبعد عن الفاتيكان مسيرة ثلاثة أيام.

وبهذا سيكون الملك فريدريك الثاني أوَّل الحكام الذين يستخدمون «لوتشيرا» كمركز للجنود المهرة وصناع الأسلحة الذين لا غنى عنهم، لابد من الإشارة إلى العلاقة التي كانت تجمع فريدريك والبابا آنذاك كانت علاقة سيئة.

لقد لقب البابا فريدريك بلقب «السلطان المُعمّد» بسبب وجود المسلمين في جيشه، أما فريدريك فوصف جيوش البابا بأنهم «رعاع من المخربين والمجرمين»، كما وضح الباحث الألماني «جوزيف جوبيلز» في كتابه «Das Militärwesen im Königreich Sizilien zur Zeit Karls I. von Anjou (1265-1285) (Monographien zur Geschichte des Mittelalters».

مقاتلون مسلمون في إيطاليا

مثلما حدث في إسبانيا، غزا العرب صقلية عام 827م بدعوة من حاكم ساخط يدعى «أوفيميوس» قاد ثورة ضد النظام، مثلما وضح الباحث والمؤرخ «عزيز أحمد» في كتابه «A History of Islamic Sicily»، وقد هدد الإمبراطور البيزنطي «أوفيميوس» بقطع أنفه، مما دفع الأخير إلى عقد صفقة عبر البحار مع الأمير التونسي، فأرسل الغزاة العرب إلى جزيرة مأهولة بأكملها بالمسيحيين اليونانيين واليهوديين، لم يطأها أحد من المتحدثين باللغة اللاتينية الذين نسميهم اليوم بالإيطاليين إلا بعد مائتي عام.

بالتأكيد كان للوجود الإسلامي في «باليرمو» تأثير على البر الرئيس الإيطالي، ولابد من الإشارة إلى أن جيشًا إسلاميًا اقتحم روما عام 846م، وأحرق بازليك القديس بطرس، الأمر الذي دفع البابا ليو الرابع إلى بناء جدران، ما يعرف الآن باسم الفاتيكان، كما وصفتها الباحثة «جوليا تايلور» في كتابها «Muslims in Medieval Italy: The Colony at Lucera». وبحلول عام 902م أصبحت خاضعة للسيطرة العربية، وخلال المئة وخمسين عام التالية ستتشرب صقلية الثقافة الإسلامية لشمال أفريقيا في لغتها وهندستها المعمارية وتركيبتها الديموغرافية.

في عام 1061م غزا النورمان صقلية، ومن هنا بدأ أول حلف واضح بين المسلمين والمسيحيين، عندما دخل النورمان صقلية فرحوا بوجود خلافات بين الأمراء الثلاثة العرب، فأقاموا حلفًا مع أمير «باليرمو» وأخذوا يسيطرون على مدينة تلو الأخرى إلى أن تمكنوا من بسط سيطرتهم على الجزيرة بأكملها بحلول عام 1091م.

في عام 1076م نرى رماة مسلمين في قوائم جيوش روبرت جيسكار، وبحلول عام 1098م كانت جيوش الكونت رودجر الثاني التي قادها لمحاربة البيزنطيين في «كالابريا» معظمها من المسلمين، واستخدم جنودًا مسلمين من المشاة في حرسه الملكي لنجد في عام 1174م مسلمين يشاركون في هجوم النورمان على إخوانهم العرب في الإسكندرية، كما أشار باحث التاريخ «جيوفاني اميتوشو» في كتابه «Saracen Archers in Southern Italy».

والجدير بالذكر بأن أوروبا العصور الوسطى لم تستجب بأكملها للدعوة بالمشاركة في الحملات الصليبية، واهتمت بمصالحها الشخصية وطموحها العسكري، الأمر الذي أزعج البابا ففي عام 1214م أصدر البابا «إنوسنت الثالث» بيانًا بالحرمان الكنسي إن ساعدت الجيوش المسيحية المسلمين ضد حروبها مع روما أو أية مدينة مسيحية أخرى.

مسيحيون مكّنوا العثمانيين من المجر

بسط الحكم العثماني نفوذه على أرجاء البلاد المحيطة به وصولًا لدول البلقان، وتبلغ الأمور ذروتها مع شخصية «إمري ثوكولي» الأمير المجري البروتستانتي الذي كان أول من أقنع الصدر العظم (أي الوزير الأول السلطان العثماني) بمحاولة الاستيلاء على مدينة فيينا، والذي حارب جيشه المؤلف من الكوروتسين (وهي كلمة تطلق على الجيوش المناهضة لحكم أسرة هابسبورغ في المجر) إلى جانب الأتراك ونجحوا في الوصول إلى سلوفاكيا حاليًا، بجيش يبلغ عدد جنده المسيحيين المجر مئة ألف جندي، والعديد من اليونانيين والأرمن والسُلاف شاركوا في هذا الهجوم العثماني جميعهم تحت لواء السلطان، حتى بروتستانت ترانسلفانيا والفلاحين الساخطين، الذين سئموا من حكم أسرة «هابسبورغ» الكاثوليكية.

ولابد للإشارة إلى مساحة المجر العثمانية آنذاك، فهي ليست المجر التي نعرفها الآن؛ مجر القرن السابع عشر أو كما عُرفت بأونغارن بالألمانية، ومجرستان بالتركية، فكانت البلاد تغطي سلوفاكيا وأجزاءً من الحدود الشمالية للنمسا، وجزءًا من رومانيا، وهذا فضلًا عن مساحة كبيرة من صربيا وكرواتيا اليوم، فكانت مملكة غنية بالمراعي والأراضي الزراعية، اعتبرت في القرن الخامس عشر حصنًا ضد التوغل التركي الإسلامي، وكان الملوك المجرين يلقبون بأبطال المسيح، وشكلت أرضهم البوابة الشرقية للعالم المسيحي، لكن بعد عام 1526م المصيري، سيتغير كل شيء، كما أشار أستاذ الدراسات الإنسانية البروفسور «بال فودر» في كتابه «In Quest of the Golden Apple: Imperial Ideology, Politics, and Military Administration in the Ottoman Empire».

نجح الجيش العثماني وحلفاؤه المسيحيون بدخول المجر، وبدأ الحكم العثماني للمجر العثمانية، وبدأت معاملة العثمانيين الحسنة إلى جذب الفقراء والفلاحين إلى صفوفهم فيحكي لنا المؤرخ «فودور» مثالًا عن مجريّ ساعد الأتراك على دخول بلدة «أوراهافوكيا» ثم دخل إلى الإسلام وغير اسمه إلى مصطفى، في ذلك الوقت نما الجيش العثماني، بدخول أعداد كبيرة من المسيحيين إليه، كما وضح الباحث «إيان إيموند» في كتابه » ديانتان تحت راية واحدة».

ومن أبرز الأحلاف الأخرى بين العثمانيين وحُكام المجر، هو الحلف الذي ساعد فيه السلطان العثماني الأمير الترانسفيلي «باتوري» الذي سيكون أمير بولندا في ما بعد، في حربه ضد خصم مدعوم من أسرة «هابسبورغ» في معركة «كيريلوسينتبال» عام 1575م، فكان عدد الفرسان العثمانيين في الجيش يتراوح بين 1000 إلى 1500 فارس، وحقق النصر المرجو منه.

ثم كما أن كل الإمبراطوريات تنتهي وتزول، بدأ الحكم العثماني في الزوال، ومع حرب القرم، تنتهي التحالفات التي جمعت المسلمين والمسيحيين تحت راية واحدة، وأمام عدو واحد، ولكن سنرى مرتزقة مسلمين في الجيش البريطاني والفرنسي وحتى الروسي من التتار والأتراك المسلمين.